سوريا واشكالية صعود الفكر السلفي الجهادي التكفيري




إنّ المتغيّر الجيوسياسي في سوريا اليوم الذي فرضته (هيئة تحرير الشام)، ومن يدعمها، جاء من براغماتيتها التي أتاحت للغرب وبعض دول منطقة الشرق الأوسط، التعاطي معها بالسرعة التي نلمسها منذ نجاحها بتوحيد فصائل المعارضة السورية المسلحة وإسقاطها نظام حكم بشار الأسد، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الامريكية وشركاءَها من العرب إلى الاعتقاد أنّ (هيئة تحرير الشام)، يمكن أن تصبح حليفاً في الحرب ضد تنظيم (داعش)، رغم الانتماء السلفي الجهادي لمعظم قادتها وعلى رأسهم قائدها أبو محمد الجولاني، اذ تمكنت هيئة تحرير الشام ببراغماتيتها، من تعويض ما يفتقر إليه تنظيم داعش الإرهابي في مجال القدرة العسكرية والجاذبية الإيديولوجية والموارد، وبذلك تمكنت من تخطي الإشكاليات الناجمة عن التمسك بالمفاهيم الجامدة للسلفية الجهادية التكفيرية مثل الحاكمية والولاء والبراء وجهاد التمكين وجهاد النكاح والتوحش، وهو ما جعلها كتنظيم سلفي جهادي تحت مسمى (جبهة النصرة)، ثم مسمى (هيئة تحرير الشام) يدخل في صراعات مسلحة ونزاعات آيديولوجية، عبرت من خلالها عن اختلافها وخلافها عن بقية التنظيمات السلفية الجهادية الأخرى ليس في وجوب قيام دولة الخلافة الإسلامية، ولكنها اختلفت في الشرعية التأسيسية وطرق التولية.
لذلك فانه لا يمكن القول إن هيئة تحرير الشام قد تخلت وانحرفت عن جذورها وانتمائها السلفي الجهادي، على الرغم من الانشقاقات التي عانت منها طوال مسيرتها من جبهة النصرة الى هيئة تحرير الشام، بيد أنها أبدت مرونة في التعبير عن انتمائها السلفي الجهادي مبتعدة رويدا” رويدا” عن تكفيرها لغيرها من القوى والتنظيمات العسكرية والسياسية الجهادية في حلبة الصراع ضمن الساحة السورية، وهو الأمر الذي جعلها في مواجهة حادة وعنيفة مع بقية التنظيمات السلفية الجهادية التكفيرية وفي مقدمتها تنظيم داعش، وهو ما سنحاول القاء الضوء عليه في هذه المقالة.
تأسيس جبهة النصرة
يُعدُّ تأسيس جبهة نصرة الشام، واحداً من أبرز مظاهر الصراع بين تنظيم القاعدة وتنظيم داعش على الساحة السورية، وكان ذلك عندما قرر أبو بكر البغدادي توسيع نشاطه الى الأراضي السورية في عام 2011، مستغلا” ظروف الوضع المرتبك في سوريا اثر اندلاع الثورة السورية في أجواء ما سمي بـ ” الربيع العربي “. فكلف أبو بكر البغدادي، السوري أبا محمد الجولاني في آب (أغسطس) 2011 بالانتقال الى سوريا وإقامة امارة إسلامية هناك. فعبرَ الجولاني الى سوريا مع بعض السلفيين الجهاديين المُفرج عنهم من سجنِ صيدنايا العسكري في أيار(مايو) ـــــــــ حزيران (يونيو) 2011، واللذين كانوا قد التحقوا بتنظيم داعش في العراق. وأعلنَ الجولاني رسميًا تأسيس الجماعة واختارَ (جبهة النصرة)، اسمًا لها في 23 كانون الثاني(يناير) 2012. ليصل عدد مُقاتلي الجبهة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 ما بينَ 6000 حتّى 10000 مقاتل. وسرعان ما سعّت قيادة تنظيم القاعدة ممثلة بالدكتور أيمن الظواهري (الذي ورث قيادة تنظيم “القاعدة” إثر مقتل مؤسسه أسامة بن لادن في باكستان عام 2011)، لجعل “جبهة النصرة” ككيان مستقل بقيادة سورية منفصلة عن تنظيم داعش في العراق، بقيادة أبو بكر البغدادي، الذي رفض بشدة هذا الاتجاه والمسعى من قبل أيمن الظواهري، واعتبره محاولة لشق تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وتجاهل لدورها القتالي في العراق.

هيئة تحرير الشام
من الجدير بالذكر أن جبهة النصرة لم تكن بمنأى عن الاختلافات والخلافات الفكرية، كما أن زيادة الضغوط العسكرية للمجتمع الدولي ممثلا” بالتحالف الدولي للحرب على الإرهاب. كل ذلك دفعت أبو محمد الجولاني للإعلان في تموز(يوليو) 2016، عن انفصال جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة بشكل كلي، وغيّر اسم الجبهة لتصبح (جبهة فتح الشام). وفي عام 2017 اندمجت الجبهة مع بعض الفصائل السلفية المسلحة وشكلت ما سمي بـ(هيئة تحرير الشام). وكانت هذه التحولات نتيجة خلافات واختلافات فكرية وتنظيمية داخل جبهة النصرة أسفرت عن انشقاق مجموعة من كوادرها في 27 شباط (فبراير) 2018، أبقت على بيعتها وولائها لتنظيم القاعدة وزعيمه الدكتور أيمن الظواهري. وقد أطلقت هذه الجماعة تسمية (حراس الدين)، تعبيرا” عن ولائها لأيديولوجية تنظيم القاعدة، بعد تلمسهم لنوايا أبي محمد الجولاني الخروج من عباءة تنظيم القاعدة.
لقد كان قرار الجولاني بتغيير اسم جبهة النصرة الى (هيئة تحرير الشام)، دوافع سياسية تتعلق، بالإضافة الى دوافع تتعلق بالتحولات الأيديولوجية والتنظيمية في منهجية الحركة ووسائل عملها، أهمها عدم تبنيها العمل خارج الأراضي السورية، وبالتالي تبني الجهاد المحلي والقطيعة مع منهج تنظيم القاعدة القائم على الجهاد العالمي. كما عملت الهيئة على القضاء، أو على الأقل إضعاف، الحركات المسلحة المنافسة لها، حيث سيطرت على إدلب بشكل كبير مع بداية 2019، وعلى (معبر باب الهوى) مع تركيا، والذي يعد المعبر الاستراتيجي الأهم لإدخال البضائع والمساعدات لإدلب، التي شكلت فيها (حكومة الإنقاذ)، لإدارة الشؤون المدنية في إدلب، كما أنشأت هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة سابقا”، ذراعا” سياسيا” ودخلت في اتصالات ومفاوضات مع تركيا، وقبلت قيام القوات التركية بنشر نقاط المراقبة في ادلب التي اقرتها محادثات الأستانة بين تركيا وروسيا وإيران حول سوريا. وأيضاً دخلت في صراع مفتوح مع ما تبقى من تنظيم داعش في إدلب. وما يثير الاهتمام، هو قيامها بإضعاف حركة (حراس الدين)، التابعة لتنظيم القاعدة واعتقال بعض قياداتها.

الطريق الى دمشق
تمكن أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام، منذ حزيران (يونيو) 2019، وبدعم تركي وغربي وبعض الدول العربية، من توحيد الفصائل المسلحة في اطار تنظيمي ينسق من خلاله العمليات العسكرية في أدلب وريف حلب وحماة واللاذقية من خلال غرفة عمليات أطلق عليها (غرفة عمليات الفتح المبين)، وتضم هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير المدعومة من تركيا، وجيش العزة. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2020، أعلن الجولاني عن تشكيل مجلس عسكري موحد في إدلب، ضم نفس الفصائل التي انضوت سابقا” في (غرفة عمليات الفتح المبين). وفي مطلع عام 2023، أعلنت هيئة تحرير الشام عن اطار تنظيمي جديد للقوة العسكرية للفصائل المسلحة المعارضة لبشار الأسد ضم فصائل معارضة جديدة الى غرفة عمليات الفتح المبين، هي حركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، ومجموعات من الحزب التركستاني. ان المنهج والمسار البراغماتي المنفتح على التوجهات الغربية والتركية الذي انتهجه الجولاني اثمر عن تدفق الدعم والاسناد الغربي تحت غطاء اوكراني على هيئة تحرير الشام حيث تشير تقارير صحفية، أن الاستخبارات الأوكرانية كانت قد أرسلت نحو 20 خبيرا” في تشغيل المسيرات ونحو 150 مسيرة الى معقل الفصائل في ادلب قبل 4 الى 5 أسابيع لمساعدة هيئة تحرير الشام التي قادت معركة اسقاط نظام بشار الأسد. اذ شكل أبو محمد الجولاني قيادة عامة للفصائل السورية المسلحة والمعارضة للحكومة السورية أطلق عليها (غرفة إدارة العمليات العسكرية)، وهي تشكيل عسكري قاد عملية أو معركة اسقاط حكومة بشار الأسد تحت الاسم الرمزي (معركة ردع العدوان)، وضمّ الفصائل ذاتها التي كانت تابعة سابقا لـغرفة عمليات الفتح المبين.

سوريا نحو الامارة السلفية
ما ان دخل أبو محمد الجولاني العاصمة السورية دمشق حتى سارع الى اظهار براغماتيته السلفية الجهادية، متخليا” عن كنيته الجهادية، عائدا” الى أسمه (أحمد الشرع)، تاركا” زيه العسكري واستبداله بزي مدني بربطة عنق، الأمر الذي أثار الجدل والاستغراب، لاسيما وأنها جاءت في لحظة تاريخية تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وسوريا بالذات، التي تشهد منذ نوفمبر 2024، ملامح تشكل امارة سلفية جهادية، بعد أن تمكنت هيئة تحرير الشام بعد مسيرة طويلة من الخلاف العنيف والاختلاف الفكري والمنهجي مع بقية التنظيمات والحركات السلفية الجهادية والتكفيرية التي برزت وانبثقت هيئة تحرير الشام من رحمها، من اقناع الدول العربية والغرب بأنها تنظيم سلفي براغماتي وهذا توصيف مهم في مواجهة والحرب على تنظيم داعش وبقية التنظيمات السلفية الجهادية التكفيرية في مرحلة تحول جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط قد ينجم عنها تغير كبير وواضح في الحدود السياسية في منطقة الشرق الأوسط.. الا أن عمليات المطاردة والاعتقال والتصفيات التعسفية والمجازر، التي نفذتها هيئة تحرير الشام والفصائل السلفية المتحالفة معها ضد العلويين في الساحل السوري في مطلع آذار 2025، وقبل ذلك ضد من تطلق عليهم بـ(فلول) النظام السوري السابق، يدل على حقيقة أن فصائل المعارضة السورية بقيادة (أبو محمد الجولاني)، أو (أحمد الشرع)، التي سيطرت على مؤسسات الدولة السورية ما هي الا فصائل سلفية جهادية تكفيرية (مثل العمشات، والحمزات)، تؤمن بتكفير المجتمعات الأخرى غير السلفية بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، والحكم عليها بالجاهلية والإفتاء بجواز سفك دماء أفرادها، وهذا ما نفذته وتنفذه هذه الفصائل السلفية اليوم، في اطار سعيها الى تأسيس الامارة السلفية الجهادية استنادا” للمرتكزات الفكرية للمفهوم السلفي للدولة والتي تقوم على اساس مفهومين اساسيين هما (الحاكمية ) و(الولاء والبراء).
استنادا” لما سبق فاني اعتقد أن الوضع السوري سياسيا” وأمنيا” واقتصاديا” واجتماعيا” لا يزال يكتنفه الغموض بسبب تقاطعه مع المصالح والمكتسبات السياسية للقوى الدولية والإقليمية، وكذلك المكتسبات السياسية لبعض القوى والفصائل السلفية الجهادية التي تقف وتمتلك السلاح وشاركت في اسقاط حكومة بشار الأسد، ولذلك فان عملية الإصلاح السياسي، تتطلب من الحكومة السورية الحالية، ذات الانتماء السلفي الجهادي، أن تعبر عن قدرتها على مواجهة تحديات بناء نظام ديمقراطي حقيقي من خلال التعددية السياسية التي تؤدي الى تداول السلطات، وتقوم على إحترام جميع الحقوق مع وجود مؤسسات سياسية فعالة على رأسها التشريعية المنتخبة، والقضاء المستقل والحكومة الخاضعة للمساءلة الدستورية والشعبية والأحزاب السياسية بكل تنوعاتها الفكرية، الى جانب اعادة النظر بالأطر القانونية والدستورية واعادة صياغتها باتجاه التسامح وقبول الاخر والسعي الجاد للتعايش السلمي مع الاخر وتجاوز الماضي وارهاصاته المؤلمة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*اللواء المهندس البحري الركن المتقاعد الدكتور عماد علوّ الربيعي. حاصل على درجة الماجستير في هندسة أجهزة الملاحة البحرية من أكاديمية كيروف/ الاتحاد السوفيتي السابق عام 1978، وماجستير في العلوم العسكرية من كلية الاركان العراقية عام 1990، والدبلوم العالي في استراتيجيات الدفاع الوطني من كلية الدفاع الوطني العراقية عام 2001، وحاصل على الدكتوراه في تاريخ الحضارة والتراث العلمي العربي عام 2005. صدرت له سبعة كتب وعشرات المقالات والدراسات المتخصصة في القضايا، والشؤون الاستراتيجية، والأمنية، والجيوسياسية. وهو عضو في العديد من المؤسسات العلمية والبحثية ومستشار معتمد لعدد من مراكز البحوث والدراسات العربية والأجنبية. يستضيفه عديد وسائل الاعلام والصحافة المحلية والأجنبية كخبير ومحلل أمني واستراتيجي.
نُشرَ البحث في الخامس عشر من الشهر الجاري في
G-FOCUS INTERNATIONAL MAGAZINE
ولأهميته ننشره بنصه، رأياً لخبير أمني استراتيجي عراقي.