تحقيق

سعدون الجنابي “يتفرّد” في سرديات طبعة ثانية من كتابه “رحلة في ذاكرة شارع الرشيد”!

   إنْ عادَ بيَ الزمنُ إلى سابق القرون، لأتمثّلَ لغة أهل التأليف في دار السلام، أجدني حتماً أختار “نُزهةَ المُريد في أحوالِ شارع الرشيد”، عنواناً لكتاب، صديقي، المترجم، الصحافي،  الأستاذ سعدون الجنابي “رحلة في ذاكرة شارع الرشيد”، بطبعته الثانية (310 صفحات من القطع الكبير)  تُجَمِّلُ ما فيها من محتوى رشيق العبارة، أنيق النص، مكتزٍ بالمعلومات، وبالذكريات الحيّة، صورٌ كثارٌ ، ونادرة، لم نرَها من قبل، تبلغ 209 صور، وكلُّها تعودُ بمخيّلة القارئ –لاسيما من عرَفَ جمالاتِ شارع الرشيد- إلى بيئة بغداد التي يتغنّى بحالتيْ يُسرها، وعُسرها، الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين:

    بغدادُ ما اشبتكتْ عليكِ الأعصُرُ

    إلّا ذوتْ ووريقُ عمركِ أخضرُ

    مرّتْ بكِ الدنيا وصُبحكِ مشمسٌ

    ودجتْ عليكِ ووجهُ ليلك مقمرُ

    وقسَتْ عليكِ الحادثاتُ فرَاعَها

    أنّ احتمالَكِ من أذاها أكبرُ        

    وإذ أشرعُ في قراءة الكتاب، وتأمّلِّ ما فيه من وصفٍ لأماكنَ، وبيوتٍ، ومقاهٍ، ودروبٍ، وسينماتٍ، وصيدليات، ومحالّ تجارية، وما اكتنز من أقاصيص، وأسماءَ، وذكرياتٍ عاشها المؤلف لأكثر من خمسين سنة، بدأها مولوداً سنة 1947 في محلة “الِمْرَبْعَهْ” المعروفة للبغداددة، أو “البغادَّة”، الذينَ يُقال عن واحدِهم، غِبطةً أو حسَدَاً “تبغدَدَ” أي عاشَ مرفّها، مدلّلاً، لا يعرفُ معنىً لشظفِ العيش، وضنكهِ. ولهذا نشأ المؤلُفُ مملوءَ العيْن، متبغدِداً، مترفعاً، جميلاً في لغته، وسلوكه، وترعرعَ، متسلِّحاً بمحبّة مَنْ حولَهُ، وصارَ بما جُبلَ عليه من حبّ شارع الرشيد وما فيه أو احتواه، أو ضجّ في جنباتِه وأنحائهِ، شاهدَ حياةٍ يومية على تفاصيله الصغيرة والكبيرة!.   

    إنّ الجنابيّ، يكتب عن الشارع سيرةً ذاتيةً، له، ولأبيه، ولجدّه، ولخاله، ولأصدقاءِ عائلته، ولِمَنْ كانَت لهُ معهم ذكريات، وحكايات رووها وسمعها هوَ من غيرهم باختلاف أديانهم، ومِللهم، وقومياتهم، إذ مثّل الشارع، طبقاً لأولى سطور الكاتب في مقدمته “هوية المدينة، وبات رمزاً لشموخها وكبريائها”، ويصفُ “المربعة” مهدَ طفولته، وصباه، بأنها “محلّة التعايش الديني بحق، إذ سكنها يهودٌ ومسيحيون ومسلمون، وطوائف أخرى، وكانوا يحتفلون جميعاً بأعياد بعضهم بعضاً، بصرف النظر عن دياناتهم وطوائفهم، مؤكدين مشتركاتهم الانسانية، وروابط الجيرة، ومرجعياتهم الوطنية”!..ص5-6.

     والملفتُ في كتاب الجنابي، أنّه ضمَّ بين دُفّتيهِ محتوىً يجمعُ الذكرياتِ إلى التوثيق، والمعلومات إلى التحليل، والتجربة الشخصية إلى قراءاتٍ في تاريخ شارع الرشيد، وأمّهِ الرؤوم بغداد الحبيبة. وأحببتُ في منهجِ المؤلِّفِ استنطاقَه الماضي بشفافية، و”علوّ جناب”، ولا غرابة فهو جنابيٌّ عشيرةً، ليتحدّث عن ولادته  في “المربعة” سنة 1947 كما سبق ذكرُ ذلك، ليقول: “وولد معي في السنةِ نفسِها ابنُ جيراننا اليهودي داود بن سليمان، وموفق ابن أم ناصر، وبولص ابن كوريا، وهما مسيحيان، وعامر السعودي، وآخرون، كبرنا معاً، وكانت ألعابنا واحدة”..ص6.

    ويستطرد، بعد أن يتحدث عن الألعاب وأنواعها، قائلاً: “كُنّا نحتفل بأعياد كل صديق بصرف النظر عن دينه وطائفته، فكنّا نحتفل برأس السنة مع المسيحيين، وفي أيام عاشوراء نذهب سوية للسبايه (المآتم الحسينية) نلطم مع اللاطمين، ويوم العاشر منه نذهب إلى جامع الخلاني ونسهم في التمثيليات الرمزية لمأساة الطفِّ في كربلاء. والحال كان ذهابنا سوية جميعاً إلى الكنيسة، ومرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، أمراً عادياً جداً”..ص6-7.

      وعلى هامش هذه الذكريات التي أخذتني من تلابيبي -في جزءٍ تمهيديّ من قراءتي لكتاب الجنابي- لأعرّج على نصٍّ، جميل يقول فيه “كبُرنا على أخلاق البغادّة، حبّ الآخر، مساعدة المحتاج، احترام الكبير. تعلّمنا الحيا حضوري (الحياء في حضرة الكبار)، أي الخجل المهذب، وحسن التصرّف، واحترام خصوصية الآخر”..ص7.   

        وأعودُ إلى “الأُلفَة الاجتماعية” التي يتحدّث عنها الكاتب، بصفاء قلبهِ، وبطيبته البغدادية الأصيلة، كي أجعل من عنوان “دَرْبونه لكل الأديان”..ص100، موضوعاً أتقصّاه في قابل “قراءاتي”  لكتاب “رحلة في ذاكرة شارع الرشيد” عن جذور مادّة، يُسعدني دائماً الحديث عنها في مجتمعنا الذي داخلَتْهُ الفِتن، وعَركَتهُ الإحن، فخَبِرَ تجارِبها، وعَرَف كيف ينازلُها بقوّة بأسه، تلك هي “آيةَ مسرّته” في احترام الجيرةِ، والمعاونةِ، وتبادل المنافع، والعيش الآمن، المستور، فـ”أهل المحلّة” الواحدة، لا يميّزُ أحدُهم نفسه عن غيرهِ، على أساس الدين، أو القومية، أو المذهب، أو اللون، أو العِرْقِ، أو غيرَ ذلك!.   

      ومن جمالات الكِتاب مشاهداتُ الجنابي الشخصية على مدى نصف قرن، فهو يتحدّث عن أشياءَ عاشها، بافراحها وأتراحها، بكل ما فيها من تقلّبات سياسية واجتماعية، وأيضاً بكل ما فيها من تطوّر وتغيير وتحوّلات، تضفي على كل ما نقله لنا المؤلف في كتابه “خصوصية وتفرّداً”، لم يتسنَّ لغيره من الكُتّاب أنْ ينالوا حُسنييهما!.

      ولكي لا أبتعدُ عن سياق ما درجتُ على الحديث عنه أقول شارع الرشيد بوصف الجنابي يُعدُّ “مقرَّ النُخبة في العراق من سياسيين وكتاب وشعراء وأدباء ومثقفين في مخلتف الاختصاصات العلمية والإنسانية لما يحتويه من مقاهٍ وبيوتات ثقافية استقطبت هذه الشرائح بتنوع اهتمامها، وإسهامها في بلورة رأي عام وفاعل في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية للعراق، عبر عقود من الزمن”..ص5. وهذا ما يجعل الكتاب برأيي توثيقاً حضارياً وتنويرياً لمن يتقصّى ما فيه سطراً سطراً، صفحة صفحة، وصورة صورة، بل وفِكرة فكرة، متأمّلاً في وصف الكاتب، ومعلوماته، ومعايشاته من إشارات لا غنى عن الاستغراق فيها لاكتناهِ محتواها.

      لم ينسَ المؤلّف الخبير بفنون البحث والتنقيب والكتابة، أنْ يستعرض دور شارع الرشيد في تأسيس الدولة العراقية الحديثة، والشاهدُ الأكبر من جميع شوارع بغداد، والعراق بأسره على نضالات شعبه ضد الاحتلالات، وعلى غناه السياسي، والثقافي، والفني بما فيه من مكتبات، ومقاهٍ، وبيوتات تراثية وحضارية، تنويرية. وبإزاء كلِّ ذلك لم ينسَ المؤلّفُ أيضاً أنْ يذكر، وهو المولود من رحِمِ عِشقهِ للشارع معظم حياته، أنْ يُلقي أضواءَ النقدِ على إهمالِه، وتخريبهِ، لأكثر من عقدين،  رُبّما لا لسبب -والقولُ قولي لا قولُ الكاتب- إلا لأنّ اسمه “شارع الرشيد”، ذلك الخليفة البغدادي، العظيم، الذي حكمَ الدنيا بأسرها، وسُمّي عصره “العصر الذهبيّ”!.      

         كانت وِجهتي في هذا التمهيد القرائي، أنْ أركّز على “سوسيولوجيا شارع الرشيد”، لكنّ عُجالتي في نشر شيءٍ عاجلٍ عن “طبعة الكتاب الثانية”، أُسعِدُ به قلبَ صديقي الكاتبِ، تلزمني أنْ أستكمل رأيي في عمومِ ما رأيتُه في الكتاب مِنْ سردٍ ذي دقّةٍ مذهلة، لاسيّما حديثه عن “سرّ الشارع في الرقم 4″، ودِقة المؤلِّف الفائقة في عرض أسماء كلِّ “ركنٍ من أركان الشارع”، محالّه، بيوتاتِه، مشهوريه، مقاهيهِ، وغير ذلك الكثير، ممّا زاد الكتاب ثراءً وموثوقية، كما أشرتُ الى ذلك من قبل!.

    يأسُرُنا سردُ الجنابي بحديثه عن أبواب بغداد، وجسوره، الشهداء، والأحرار، والسِّنك، والجمهورية، وعن جوامعه الكبيرة، المطلة على شارع الرشيد، الحيدر خانه، والأحمدية، وسيد سلطان علي “القريب من المربعه” مهد صبا الكاتب وشبابه. وتكتنف حديثه معلومات جمّة، وتفاصيل مؤنسة عن “السوق التراثية”، وأسواق الهرج، والسراي، والصفافير، والشورجه، ثم عن الخانات ومنها “خان مرجان” مثلما يتحدث عن “عقد النصارى”، وعن “يهود الشارع”، وأطبائهم، وكبرائهم، فهم عصرئذٍ، جزءٌ من حياة الشارع وتاريخه وتراثه.  

      ثم أنّه لا يُهمل تفرّعات في الشارع إلى حيث “القشله” متحدّثاً عن “الثكنه السلطانية” ومباني الحكومة، و”السراي”، مارّاً بتؤدةٍ وبتفصيل مصوّر عن كلٍّ ذلك، ليتحدّث عن معالم ثقافية وفنية، بضمنها دور السينما والمسارح; سينما الوطني، روكسي،الزوراء، والرشيد، والرشيد الصيفي، ورويال، سنترال، الرشيد، رافدين الصيفية، وفيما بعد الخيام.

    ويذكّرنا الكتاب، بما شهده “ملهى الهلال” منذ الثلاثينات من عروض مسرحية وغنائية، كانَ أشهرَ مُحييها من الفنانين المصريين فاطمة رشدي، وجورج أبيض، وفائزة أحمد، ثم أم كلثوم، والمنيرة، وبديعة مصابني. وحين نقرأ عن المقاهي -في هذا الكتاب الجميل الذي أعدّهُ –شخصياً- كنزاً من كنوز ثقافتنا البغدادية- أمسك قلبي وأنا أسرحُ في ما عَرفته في شرخِ الشباب عن مقاهي البرازيلية، والبرلمان، والزهاوي، وشاهبندر، وحسن عجمي، وإلى جانبه “شربت زبيب حجي زباله” الذي افتُتِح سنة 1900، كما يُعرّفنا الجنابي بذلك.  

     دعوني، أختتم هذا “التمهيد القرائي” كما أسميتُه، بذكر ما في كتاب شارع الرشيد من تفاصيل عن عيادات أطباء بارزين، كتوفيق رشدي، وهاشم الوتري، وسامي سليمان، ومكر دانيال، وأولاد القيماقجي، ولمعان البدري وزليخة الأسدي وعلاء البكري، وغيرهم. ومن ذا الذي ينسى مكتبة “مكنزي”، مكتبة ناجي جواد، كمركز ثقافي أثري، وأورزدي باك، أوّل مول عراقي، الذي دخله الرصافي ذات يوم ليشتري لباساً وقميصاً، فأعلمته البائعة الجميلة بسعر كل منهما، فقال لها “متشاقياً” بلهجة أهل بغداد، أي مازحاً:

   فلقد رضينا بالقميص وسعره….أمّا الّلباسَ فنزّليهِ قليلا

       وفي الشارع أيضاً قريباً من الباب الشرقي، “حسّو إخوان” محلات استيراد وبيع التلفزيونات، والثلاجات، والطباخات، وما تحتاجه العائلة العراقية، والملابس الفاخرة أيضاً ثم جقماقجي لتسجيل وبيع الاسطوانات بدءاً من سنة 1918، طبقاً لما ذكره الكتاب. ومن طريفِ ما أختتم به حديثي أنني ابنُ بغداد ولادة ونشأة وشباباً وكهولة، كنتُ قبل أيامٍ أتحدّثُ هاتفياً مع أستاذي المفكّر الدكتور جعفر المظفر – عن كتاب رحلة في ذاكرة شارع الرشيد- فسألني في إطار معلوماتي عن الشارع، عمّا أعرفهُ عن “مطعم عمّو إلياس”، فقلت: إنّه مطعم رائع للحم بعجين، فقال لي بلهجة بغدادية أصيلة، مع أنّه ابن البصرة الفيحاء ولادة ونشأةً، “لا يابه لا!” مؤكداً أنّه مطعم فاخر اشتُهرَ بجميع الأكلات البغدادية، وليس للحم بعجين. ولم يُسعفني للتهرّب مِنْ حيرةِ التعالم الفارغ”، إلا قولي: سيّدي أنتَ برجوازي، وأنا من طبقة كادحة، فكيف يتيسّرُ لي دخول مطعم كهذا حينئذٍ!!.

       وفي مختتم الحديث، عن الكتاب لا أريد أنْ أغفلَ إشاراتي إلى ما تحدّث به المؤلف عن تفاصيل أخرى، تتعلّق بـمخبز “كعك السيّد”، وما قاله الشعراء في لذّته، وعن أسماء مالكي السيارات الأربع الأولى في الشارع، وعن حلّاق الزعيم عبد الكريم قاسم، وعن خاله عبد الرحمن الجنابي، وصداقته لـ”أبي ناطيها”، والأخير له قصة لابدّ لقارئ الكتاب من الاطلاع على تفاصيلها، ومحتواها البغدادي المؤنس.   

    والحقيقة هي أنّ جميع ما في الكتاب مؤنسٌ، حرفاً، وصوراً، وذكرياتٍ، وجمالاتٍ ساحرة، تعيدنا إلى أزمانٍ مضت عشنا بعضها، وعاشتنا.. وأقول لأخي الأستاذ سعدون الجنابي: وعدٌ بأنْ أعودَ إلى كتابك مرّات، وأنْ لا أتركَ هذه المرّة “يتيمة” بلا أخيّاتٍ لها يؤنسنها، كما أنِستُ بكتابك الجميل. لكنْ بمنهجٍ كنتُ قد حدّثتك عنه، لأعيش التفاصيل لا لأجْمِلَ الحديث عنها، فلك التحيّة والمحبّة. سلمتَ يراعاً، وحِسَاً، وعينين راصدتين، ومشاعرَ طيّبةً مخلصة، ودِقّةً في الوصف، والكشف، وشفّافية، تستحق عليها الاحترام والتقدير.   

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق