أدب

ستفتقدكَ البساتينُ يا منذر..

‏   كان شاعرنا القديم متمّم بن نويرة أينما مرَّ بقبر ٍوقفَ عنده طويلاً وأجهش بالبكاء متذكّراً قبرَ أخيه مالك. وعندما استغرب صاحبه هذا البكاء ردَّ عليه قائلاً:

‏وقالَ: أتبــكي كلّ قبــــرٍ رأيتــه

‏لقبرٍ ثوى بينَ اللــوى فالدكادكِ

‏فقلتُ له إن الشَّجا يبعثُ الشجا

‏فدعنـي.. فهـذا كله قبــــرُ مالكِ

‏    فشاعرنا يبكي كلَّ القبور من أجل قبر. ويحنُّ إلى زمانٍ بلا ساعات، ومكان بلا زمان، وقبر بلا شاهدة، وشاهدة يقف عندها، ظنّاً أنها تعود لقبر أخيه مالك. كأنّه مات بالأمس أو كأنه لم يمت. أو كأنه استعدَّ لملاقاة الموت ساخراً من الحياة!.

‏وأمسِ زرتُ قبرَ أخي منذر في حديثة. شعرتُ أنه مقيم في قلبي وليس في قبره. اجتاحني حزنٌ عميق. شممتُ روحَهُ وعطرَهُ وأنفاسَهُ. تذكرتُ كل شعراء الأسى والرثاء النبيل. وبكيتُ طويلاً بكاءَ الأشجار عند الغروب. تأسفتُ على خسارة الصورة البديعة والأحلام الجميلة. لا هو ولا نحن قلنا كلَّ شيء. بكيتُ على كلِّ عزيز فقدناه وكلِّ حبيب ودَّعناه قبل أن نشبع من رؤيته. ولم يشبع من تنفّس الهواء.

‏ولكن ما جدوى البكاء؟ صدّقني لا شيء!. فكل الأشياء تنتهي بكلامٍ في كلام. بأشياء ليس لها معنى. وربما كلُّ شيء يبدأ عندما ينتهي. ولن يبقى شيءٌ من أيِّ شيء. إنه الهروب من العذاب إلى العذاب، ومن الوجود إلى العدم، أو من العدم إلى الوجود.

‏      ولا شيءَ يريحُ القلب مثلُ مكانٍ تحبه حتى لو كان مجرَّد حفنةٍ من تراب وأحجار صمَّاء وأشجار من العاقول: “وتهونُ الأرضُ إلا موضعا”. فتصاب بالشجن والحنين. وتضيق بك الدنيا وتضيع من أقدامك الطريق إلا إلى هذه المساحة الصغيرة ” تُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا” فتبكي على كل ذكرى، وكل رُكْنٍ، وكل صورة، وكل مفقود، وكل منزل، وتعلم أن أحداً لا يسمعك هناك. لكنّك لا تجد راحة إلا في البكاء هناك.

‏     في أيامه الأخيرة كان منذر كمن ينتظر الموت على شرفةٍ. كالصارخ فى البرية. يتحامل على جسده ولا يستطيع وقوفاً. كان يدرك أن العمر سيمضي جنازةً وأن الأيام تنفرطُ عذاباً. فارتضى الوحدة والصمت وكان يتمنَّى لو يأتيه الموتُ مرةً واحدةً وليس على طريقة امرئ القيس: “نفسٌ تسَّاقط أنفسا“.

‏ومنذر من أجمل الأقلام الصحفية بكبريائه وشموخه. بديعاً بلغته وأسلوبه. وكان مثقفاً مقتدراً. ممتعاً في حديثه. حافظاً لدواوين من الشعر في صدره. كبيراً في زمن الصغار. وكما أدهشنا بثباته وصبره فقد أدهشنا بزهده وطيبة قلبه وتواضعه وسموه الإنساني فهو بعيدٌ عن مظاهر الترف والطمع والتدافع على الدنيا. كأنه جاء إلى الدنيا وغادرها عابر سبيل.

‏    وعندما قاوم المرض سقط القلم من يده فاعتكف على سريره. مثل صوفيٍّ مُعتزلٍ. موجوعاً في آلامه وهمومه الثقيلة. وكان الليل عنده أطول من مدَّات العتابا. خذلته الأيام وخذله الآخرون.

‏     ستفتقدك البساتينُ في حديثة يا منذر وتتذكرك أيامَ كنت تركض إلى جرفِ النهر. وتفتقدك البيوت التي كنت تسأل عن أصحابها الغائبين: “يا دارُ ما فعلتْ بكِ الأيام؟”. ستنتظرك أبوابٌ لم تطرقها. وتشعر بالوحشة في غيابك. وتعاتبك مقالاتٌ لم تكتبها. وتفتقدك المكتبات ودواوين الشعر التي تركتها وحيدة على الرفوف.

‏فنمْ في هدوءٍ وهناء ودعْ قلبكَ يستريح ودعني أحرسُ أحلامكَ.. فأنت تعبتَ من اليقظة مثلما أنا تعبتُ من الانتظار.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق