زيد الحلي .. شهاده لصالح الآخر ، واعترافٌ ضدّ الذات..




مِنْ حقِّ زيد الحلّي أنْ يُصابَ بالغرور، ولا حرجَ عليه ، حين يحظى بشهادتي تتويج صادرتين من أعلى قِمّتين في تاريخ الصحافة العراقية المعاصرة (فيصل حسون وسجاد الغازي)، يُقِرّانِ فيهما : أنّ هذا الولد الحلي من ذريتهما الصالح، وأنَّهُ وريث شرعي مؤهل لحمل راية (المهنة) من بعدهما، ولعل أهمّية هذه الاعترافات لا تكمن في كونها صادرة فقط عن سيدين كبيرين من سادات قريش ، آلت اليهما زعامة الكلمة الشريفة ردحاً طويلاً من الزمن ، قبل أنْ تحلَّ أعوامُ النكران والجراد والنسيان ، وإنّما كذلك تكون شهادتاهما، جاءتا بملء الارادة، ومن دون إكراهٍ ولا انتزاعِ أقوالٍ تحت سطوة السيف! وما زلت مقتنعاً بحق زيد الطبيعي أنْ يُصاب بداء الملوك ووباء النرجسية وبيروقراطية العصر، وهو يروي عبر الخمسين سنة من رحلة التألّق والتعب أنّه وراء تشجيع او اكتشاف أسماء باتت اليوم نجوماً في عالمنا الثقافي، ليس ابتداءً بعوني كرومي وغزوة الخالدي ، وليس انتهاء بياس خضر وسعدي الحلي وغيرهم ، ولو قُدِّر لي أنْ أقف وراء واحد من هذه الاسماء -واحد ليس أكثر- لتناهيت بتاريخي ، وتاجرت باكتشافي، وانفجرت من الغرور، ولكن من يصدق أنَّ حفيد (عبود العادي) أحد أبطال ثروة العشرين – وهذا سبب اخر للتباهي – ظل محافظاً على اتزانه وتوازنه
طيلة ذكرياته ، مع الرحلة الصحفية الممتدة الى خمسة عقود، تداخلاً كان محمولاً على كفِّ عفريت ، وعرضة لأحداث ، لولا كثير من الفطنة والذكاء..

لقد نأى زيد بنفسه عن نوازع النفس الأمّارة بالسوء، ونجا من النرجسية بأعجوبة، ولكن الأعجب، وربما الأكثر مدعاة للاستغراب، يستحضر الحلي وهو في وهج الكتابة ولذائذ خصوصياتها ومواجعها، كل خزينه الاخلاقي جرى الحديث عن (الانا)، انهالت الاعترافات بالاخطاء والخطايا، كما جرت وقائعها سواء عن قصد او عن غير قصد، وسواء كانت نزوة مراهق ام تقديراً خاطئاً أم قصوراً في الفهم، انه لا يبرئ نفسه، ولا يعفي سلوكه من الاثم البشري، زيد يدينُ زيداً، ويرفض اللجوء الى التزويق ومساحيق التجميل، لقد وضع التاريخ المكتوب من حيث هو امانة وملك للناس وارث للاجيال، نصب عينيه، فاحتمل أعباء الامانة على ما فيها من خدوش، قد يكون بعضها مؤذياً. ثار للمتلقي حرية اتخاذ القرار في ادانته او العفو عنه، وكانه بهذه الفعلة الشجاعة، اراح ضميره من اعباء ضاق ذرعاً بالتكتم عليها، وقد آنت ساعة الخلاص والراحة، وحيث جرى الحديث عن (الآخر)، أحياءً أو في ذمة الخلود، كان عفيفاً، فاقداً لحياده، منحازاً، لا يرسم الا صوراً مشرقة لهم مثقلة بالمدائح، وكأن الآخر بلا خطايا ولا أخطاء، إنهم ملائكة الحلي, ويوحي لك أنهم كذلك, وقد بلغت به العِفّة الى الحد الذي جعله يتناول الآخر الذي أساء اليه، أو عرضّه الى الأذى، بالإشارة الى دوره وفعله وموقفه، من دون التنويه الى اسمه او لقبه او كنيته، او ما يساعد على اكتشافه او الاستدلال عليه، الآخر (السيء)عند زيد نقاط بين قوسين، انه المجهول، أو الآخر (الايجابي)، فهو بالاسم والتعريف والتفصيل، ولنا ان نتأمل هذا المنهج الاخلاقي، حين ننظر الى صورة محمود شيت خطاب مثلاً او الحاج نعمان العاني أو شاكر علي التكريتي ..الخ في مرآة زيد النقية.

حين انتهيت من قراءة كتابه ( خمسون عاما في الصحافة ) سالت نفسي، هل زيد الحلي من كبار السياسيين او الاعلاميين او المفكرين، بحيث يمتلك الجرأة لتدوين مذكراته وذكرياته؟، وقد توصلت الى اجابة غريبة –ربما ليست اكيدة- مفادها، ان الحلي كان على الدوام في قلب الحدث السياسي والاعلامي، او قريباً منه الى حد التماس، من دون ان يكون هو صاحب القرار بالضرورة، ولكنه شاهد عليه باليد والاذن والعين، ولم اقف له على شهادة سماعية واحدة رواها فلان او فلان عن فلان، انه الحضور الذي فرضته طبيعة الشخصية التي يتحلى بها زيد والتواقة ابداً الى معرفة كل شيء، والالمام بكل شيء، وملاحقة كل شيء مثلما هو حضور فرضه الفضول الصحفي الطاغي لدى الحلي، ولهذا يجب الكف عن الاستغراب اذا قلت: ان هذا الرجل موسوعة معارف بالاشخاص والاحداث والاماكن، ويساورني الشك ان هناك فناناً او اديباً او علماً من اعلام العراق يسكن خارج الدائرة الزيدية، فهو اما صديق او زميل او من المعارف المقربين، اما حين يجري الحديث عن الصحفيين والصحافة وعوالمها وحوادثها وخباياها واسرارها، فلا يحق لأحد غير الحلي ان يتصدر الكلام، وهذا هو ما يوجب التنويه عنه، لانه السمة الخفية الابرز في الكتاب، فلو جردناه من ذاتيات الحلي وخصوصياته المقحمة عليه، فانه يمثل (وثيقة) بالغة الاهمية، لمن يعنيهم قليل من امور السياسة، وكثير من امور الصحافة وسيرتها الذاتية، وقد تساءلت بعد قراءتي للكتاب: كيف يمكن لطلبة الماجستير والدكتوراه ان يستغنوا عبر بحوثهم الاعلامية عن (50 عاماً في الصحافة ) ولا يعتمدونه مرجعاً رئيساً، حيثما درسوا المرحلة التي غطاها المؤلف وعاصرها على مدى اربعة عهود؟، وكان مرة طرفاً في (احداثها) بهذا القدر او ذاك، وفي المرات كلها شاهداً مباشراً عليها، وقوة شهادته انها ليست سماعية، بل عيانية، واهمية روايته (العيانية)، انها لا تكتفي بالمروي العام والمعروف عن احداث المرحلة، وانما تقدم معلومات جديدة، ومفاجئة لم يكشف النقاب عنها، كفيلة باضاءة جوانب من مسيرة الاعلام عامة، والصحافة خاصة، ظلت في منطقة العتمة، ومن هنا اؤكد قناعة رسخت في ذهني، ان هذا المطبوع استطلاع الافلات من قبضة (الذكريات الخصوصية) الضيقة، التي قد لا تعنينا في شيء، ولا يعنينا التعرف على ماذا يلبس زيد، وما هي اكلته المفضلة، الى محيط الاشارات الدالة والجوهرية للاقتراب من خصوصيات مرحلة حافلة بالوقائع المزدوجة، من غير ان يقول لنا الكاتب ذلك، او يطرح نفسه مؤرخاً او وثائقياً او باحثاً، انه يترك الابواب امامنا مفتوحة على مصاريعها للتعرف على ما كان وحدث وحصل كما هو على ارض الواقع، وليس كما تحب أو ترغب أو تشتهي أهواء زيد الحلي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حسن العاني، أستاذٌ، ذو جرْسٍ متفرّدٍ في أدبِ الكتابةِ الصحفيةِ، ذلك لأنّه، قاصٌ، روائيّ، كاتبٌ له لغةٌ صادقةُ الحرفِ، بناءً ومعنىً في سردِها، وفي مقاصدِها، وأيضاً في شجاعتها التي تُطلقُ صيحاتِها المدوّيةَ بهدوءٍ ينتسبُ تماماً إلى تواضع العاني “أبي عمّار”، ودأبهِ، وكدْحهِ، ورؤاه الاجتماعية. ولأنّه باعتقادي “عدوٌّ لدود” للتسلّط بكل تشعباتهِ.
وأذكرُ بألمٍ أنّه تركَ كتابة عموده في صحيفة “الغد” اليومية، ساعةَ علمهِ بتسلّمي مسؤولية تحريرها بتكليف من صاحب امتيازها الأخ العزيز الحاج “فيصل المحمداوي”، ربّما لأنّ العاني رحمه الله، يسمع عنّي ما يكرهُ، فأنا لم أتشرّف بمعرفته شخصياً. لكنّني برغم ذلك اتّصلتُ به هاتفياً، فاختارَ بهدوئه الجميل، أنْ يعتذرَ لي إنّه تعب من العمل، ولا يريدُ أنْ يُحرَجَ معي.

وكان أنْ ترك عموديهما في الوقت ذاته، صديقاي العزيزان جواد الحطّاب (عملنا معاً في صحيفة المستقبل الأسبوعية)، وحسن عبد الحميد (عملنا معاً في جريدة الجمهورية اليومية). وهما عنيدان في تمرّدهما دائماً، أما الحطّاب “أبو تبارك” فيراني -برغم دوام صداقتنا- كائناً صعب المراس في العمل الصحافي، وتلك “منقصة” عندي لا أنكرها، لكنني أجدُ لها في طبيعة ما نشأتُ عليه ما يبرّرها، وإذ اعتذر للثلاثة الكبار الأحبّة، العاني رحمه الله، والحطّاب وعبد الحميد، حرسهما الله، أسجّل اعتذاري أيضاً للكبير الرابع “زيد الحلي”، صديقي العزيز الذي دخلتُ معه في إشكاليةٍ من نوعٍ آخر، إذ استكتبتُهُ مع ثلاثة زملاء أحبّاء كبار آخرين “منذر آل جعفر” رحمه الله، “د. طه جزاع”، و”حمزة مصطفى”، فكانَ “الحلّي”، وبُعيدَ فترة قصيرة أنْ انتقد “مسار الجريدة نفسها”، بعمودٍ أصرَّ على نشره في “الغد” نفسها، معلناً تركه العمل فيها، فلم أصبر عليه، كما ينبغي أدبُ التلميذِ مع الأستاذ، فأغضبتُه بنقدٍ لا أجدُ له الآن تسويغاً إلا “إرضاء الحاج المحمداوي” الذي “زعلَ” كثيراً على نشري لرأي كاتبٍ ينتقدُ الصحيفةَ التي يعملُ فيها.
ولم أستطع ترميم علاقتي بـ”أبي رغده” الحبيب إلا بعد نحو سنة، عندما قادني صديقاي الدكتور يحيى البكاء، والدكتور علك عبد، رحمه الله إلى احتفالية في إحدى قاعات شارع المتنبّي، لمناسبة صدور كتاب الحلي “50 عاماً في الصحافة”، كان يديرها د. طه جزاع، الذي باغتني بطلبِ التحدّث عن رأيي بتجربة الحلي الصحافية..وفيها تحدّثت عنه أستاذاً لي عرَفتُه في صحيفة “الراصد” الأسبوعية التي كنتُ يوماً في أواخر سبيعنات القرن الماضي، سكرتير تحريرها، فعيّن الأستاذ الراحل مصطفى الفكيكي صاحب امتيازها، الأستاذ زيد الحلي مديراً للتحرير، لكنّ زميلنا الحبيب -ومن فرط حقّانيّته الصحافية ومهنيته العالية- أخبر الفكيكي قائلاً: (أنتَ لا تحتاجني، وعندكَ كفاءة صباح اللامي).. أو هي عبارة في سياق هذا الكلام، ولم أنسها لهُ، لأنّها كانت وما برحت موضع اعتزازي، بشهادة نلتُها من زميلٍ أحترمُ كفاءَته ومهنيتَه، وأكنُّ له احترامي ومحبّتي صديقاً عزيزاً.
أريد أنْ أقول: استحضرتُ كلَّ تلك الذكريات، حلوَها ومرَّها، ساعة قرأتُ ما نشره الزميل “زيد الحلي” في صفحته على الفيسبوك مستذكراً الذكرى السنوية الأولى لوفاة الزميل العزيز الكاتب حسن العاني، معيداً نشرَ ما كتبه عنه، مؤكداً قوله: “هي مقالة أعتزُّ بها كثيراً..رحمك الله أبا عمار الحبيب”. له الرحمة والبركات والذكر الطيّب الدائم، إنساناً كبيراً، ومبدعاً تعلّمنا منه الكثير.