ثقافة

“رِعشةُ شوقٍ” تنقلني إلى هناك..إلى وطنٍ خطا نحو “جمالٍ” لم يكتمل!  

     رعشةُ شوقٍ تنتابني وتنقلني الى هناك، كلّما طالعتُ أخباراً عن حفلٍ سيمفونيّ عراقي جديد تشهده بغداد، تماماً مثلما يحصل مساء اليوم الجمعة 28 شباط 2025.. حيث (دار السلام) على موعد بهيج مع جمهور تكتظُّ به قاعة المسرح الوطني، بعد أنْ نفدت جميع البطاقات خلال ساعتين.

   إخالُ نفسي جالساً بينهم، مدوِّناً مشاهداتي التي ستتحوَّل الى تغطياتٍ أنشرها في مجلة “الاذاعة والتلفزيون” التي صار اسمها “فنون”. يتسلَّم المادة مني أعْلامٌ تولّوا قيادة المطبوع عبر عقدين، زهير الدجيلي، د.ياس خضير البياتي، كامل الشرقي، امجد توفيق ومحمد الجزائري. وأتمنّى أنني ذكرت التسلسل بشكل صحيح بعد كل هذه السنين. أشخاص عشت معهم زمناً صحفياً لا يُنسى، حرصت فيه على حجز مساحة لهذا اللون من الفنون الراقية لسنواتٍ امتدت من السبعينيات وحتى مطلع التسعينيات.

   شعور مشابه لازمني، يوم قرأتُ عن أوَّل نشاطٍ متماسكٍ للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية في العام 2009، ثلاث سنوات بعد مغادرتي العراق، وبعد جمود وشبه توقف دام سنوات تلت الاحتلال وسقوط بغداد 2003.، وبدا ذلك النشاط أشبهَ بولادة عسيرة في زمن صعب، فبَعثتُ يومها بمقال لـ “الصباح الجديد” آخر جريدة عملت فيها هناك، واعتبرتُ الحدثَ ينبئُ بعودة الحياة الى الروح الموسيقية ببغداد.

   ومن هنا ارتأيتُ إعادة نشر المقال مستذكراً أيَّاماً تبقى خالدة في تاريخ وطنٍ كان يخطو نحو جمالٍ لم يكتمل.

 عُذراً أيّتُها (السيمفونية) لأنني تخلّفتُ عن حفلك الأخير وتأخرت عن تغطيته. عذراً لأنني لم أكتب اسمي في سجّل حضورك.. ولم أضبط ساعتي على توقيتك هذه المرة.. عذراً لأنّني انقطعت عنكِ كل هذا الوقت، وقد أتغيّب لزمن أجهل مداه وأنا الذي عاصر مجدك لعقدين..

           عُذراً لأنّني لن أتمكّن بعد اليوم من دخول ذلك المبنى العتيق قرب القصر الأبيض وبارك السعدون، اتسقّط الأخبار وأسأل عن الحفل المقبل في سبعينيات آمنةٍ، أبحثُ عن وجه بيرج غيراغوسيان او منذر جميل حافظ او باسم حنا بطرس او محمد أمين عزت او اجنس بشير او فكري زوجها .. ربما اهاتف شقيقه منير بشير الرجل الذي كان يقود دائرة الفنون الموسيقية زمنذاك أو معاونه حسين قدوري أو خالد ابراهيم أو اسعد محمد علي، كي يحدثوني عن المنهاج المقبل.. بل سأكلّم عبد الرزاق العزاوي  وسنتحدث عن مغزى أنْ تكون لنا (سيمفونية) تبدد بأنغامها شيئاً من وحشة ليل بغداد وتزرع بعض الطمأنينة في نفوسنا الخائفة، زمن بدأت الحروب تدخل الروع الى قلب مدينة السلام.. صواريخ وغارات.

          عُذراً أيّتُها “السيمفونية ” لأنني حسدتُ (رويترز) على صورها وتعليقاتها، وغبطتُ (الصباح الجديد) وكل صحيفة وقناة وإذاعة تمثلت في ذلك اللقاء، بل كلَّ من حضر وصفق وبارك ..

          الى وقتٍ مبكر من مطلع سبعينات القرن العشرين، يعود أول عهدي مع الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية التي حرصتٌ على متابعة برامجها وشرح منهاجها ومعايشة أجوائها، إلى ظهور (نادي الموسيقى) الزاوية التي استحدثتها في مجلة ( الإذاعة والتلفزيون) وتواصلت معها في (فنون) وبقيت أحرّرها حتى وقت تجاوز نهاية الثمانينيات، مواكبة لاهتمامات بدأت تنتشر وتترسخ بين أوساط الشباب وغيرهم للاستماع الى الموسيقى الأجنبية والعالمية، الكلاسيكية والمعاصرة منها عموما، حيث صارت الفرقة تتحوّل الى رمز من رموز الثقافة الموسيقية في البلاد ونافذة كبيرة مشرعة تنقل لنا روائع لمؤلفين أفذاذٍ خالدين في ذاكرة الأجيال، وتعمل في الوقت عينه على تطعيم منهاجها بألحان من تراثنا الغنائي المحلي بتوزيع أوركسترالي شيق.

        ولم تكن بي حاجة كي أعايش العصر الذهبي للفرقة السيمفونية لأعرف أنَّ ما يقدّمه هذا الكيان الموسيقي هو إسهام في ترسيخ تقاليد موسيقية اجتماعية ثقافية عرفتها مجتمعات قبلنا، مُنافسةً عن جدارة العديد من الفرق المماثلة في المنطقة مثل مصر ولبنان وسوريا والجزائر وإيران وغيرها ..

       وأنْ تكون في حضرة السيمفونية، فإنّ ذلك يعني أنْ تستمع اليها بإصغاء تام من دون أنْ يعكر أجواءها شيءٌ ما، السعال ممنوع، العطاس ممنوع، طقطقة المسبحات ممنوعة.. حتى الهمس ممنوع لأنه قد يؤثر على أداء العازفين، والويل لك اذا ما حصل العكس..!

      وقد حصل هذا في إحدى المرات..!

      فبالرغم من التعليمات الصارمة التي يعرفها المصورون بعدم استخدام (الفلاشات) الاّ مع نهاية كل فقرة، فإنّ كاميرا أحد الزملاء (أخطأت) تقدير الموقف ذات مساء، ورمَّشَ الضوء الباهر في غفلة منه اثناء اندماج العازفين مع النوطات وحركات المايسترو، وكادت الحادثة ان تؤدي الى ازمة لولا تدارك الموقف في اللحظة الأخيرة.

      ولئن وُجِدت صرامةٌ كهذه في الحفلات السيمفونية، فإنّ ذلك إنّما يعكس نوعاً من أنواع الضبط وترسيخ تقاليد معروفة منذ عشرات السنين. كل شيءٍ هنا يعمل بـ (انضباط) ضبط النوطة، ضبط الإيقاعات، ضبط المواعيد، وقت بدء الحفل بالساعة بل بالدقيقة، فترة الاستراحة، فساعة الختام ، ولا وقت يتمدّد الا بناءً على رغبة الجمهور، عندما يتعالى تصفيق الحضور، وقوفاً على الأغلب: (برافو .. برافو) مطالباً بإعادة عزف مقطع أو حركة.

     والضوابط هنا تعني احترام الوقت واحترام العمل واحترام المؤدّين طبعا، ودليلاً على نمو الذائقة الفنية لدى جمهور يكّن أشدَّ الحب لاؤلئك العازفين البارعين ببزاتهم السود، فارضين جواً من الرهبة على المكان ما أنْ تبدأ أناملهم بمداعبة أوتار الآلات ومفاتيحها وحتى نهاية المنهاج، في سهرة (ترد الروح) الى متعبين باحثين عن ساعة هدوءٍ في ذلك الزمن الصعب ..

     والسهرة هذه لم تكن الا حصاد أيام بل أسابيع من الجهد اليومي المتواصل، حيث يتقاطر العازفون مع حلول المساء نحو ذلك المبنى العتيق المكوَّن من طابقين ليرتقوا السلالم الى قاعة التمرين في إصرارٍ مدهشٍ على تجاوز كل العقبات وتخطّي كلِّ السلبيات.. ظروف الحرب (مع إيران) وتدنّي الأجور وإهمال الدولة الذي ازداد مع ( لعنة الحصار) حتى جاءت السنوات الأصعب ما بعد الاجتياح عندما  لحق الدمار بمكتبة السيمفونية ونهبت مقتنياتها ومخازنها وما ضمته من آلات ومدونات .

    ولما جاء الزمن الذي صارت فيه الموسيقى من الممنوعات لم يسلم عازفوها من القتل والخطف والتهديد، فهاجر العشرات منهم وعاشت الفرقة فترة جمود غير مسبوقة، ومر وقت كان الإعلان عن مواعيد الحفلات يشكل خطورة كبيرة على العازفين والجمهور، فكان التبليغ يتم شفاهاً او هاتفياً أو عبر ملصقات في أكاديمية الفنون الجميلة أو المعهد أو المؤسسات الموسيقية. وحتى الحفلات التي كانت تقام لماماً، لم تكن تخضع لتوقيتات السمفونية المعروفة لأنَّ وصول الأعضاء كان يتأثر بالظروف الأمنية الصعبة فيحضرون في أوقات متفاوتة.

  المضحك المبكي أن تكون (السيمفونية) ضحية العنف الطائفي وهي التي ضمَّت وتضم فريقاً متكاملاً يبدو وكأنه حي عراقي مصغر يضم أناساً من كل الأديان والطوائف، أنموذج من التعايش والتناغم مثل نغمات السيمفونية ذاتها.

اليوم بدأت الفرقة السيمفونية تستعيد عافيتها مع بدء عودة الحياة الطبيعية إلى بغداد، وعرفت أنَّ موسيقياً شاباً هو كريم كنعان وصفي يقود الفرقة منذ ثلاث سنوات بعد أنْ تعاقب على قيادتها (مايستروهات) من جنسيات أوروبية مختلفة فضلاً عن عدد من الموسيقيين العراقيين الذين اشتغلوا في الفرقة..

وعذراً مرة أخرى لأنني لا أعرف كل الأسماء، فالزمن بالنسبة لي لم يعد ذاك الزمان، تفصل بيننا اليوم قارات وبحار ومحيطات.. فهل من عتاب على مهاجر بلا أوراق؟ بلا صور؟ بلا ذاكرة؟

عُذراً .. .. بل ألف تحية لمن جعل دانوب شتراوس الأزرق وناي موزارت السحري وبجعات جايكوفسكي همسات حالمة تذكر أهل بغداد بسكينتهم وتعيد إليهم هدأتهم وهم يسترجعون أيضا لحنا من الماضي يقول:

على شواطي دجلة مر         يامنيتي بوكت الفجر

                                                                       رياض شابا _ فانكوفر

                                                                         April 15th /2009

مقالات ذات صلة