العراقفكر

رشيد الخيّون: دمُ الحُسَين.. “كنزٌ لا يفنى”

بقلم: د. رشيد الخيّون – كاتب عراقي

   رسخت الثّنائيَّة بين الحسين (قُتل: 61 هجريَّة) ويزيد (ت: 64 هجريَّة)، وكأن الدُّنيا، بحاضرها ومستقبلها، خندقان، علويّ وأمويّ، بينما للمقابلة زمنها، بدأت بصفين (37 هجرية)، فلابن تيمية(ت: 728هجرية)، رأيه: «الحُسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشَّهادة في هذا اليوم (العاشر مِن محرم)، وأهان بذلك مَن قتله، أو أعان على قتله، أو رضى بقتله، وله أسوةٌ حسنةٌ بمَن سبقه مِن الشُّهداء، فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة…»(فتاوى شيخ الإسلام)، وهذا رأي كلِّ مَن يُحسب تعسفاً على يزيد. ليس محبة للحُسين استخدام دمه في نزاعات اليوم.

القصد أن التمييز كان معروفاً، لكنَّ اعتبار الحدث حيّاً في كل آنٍ، حتّى نُحت القول: «كلّ يومٍ عاشوراء وكلّ أرض كربلاء»، ما لا يمكن تمييز المصلحة فيه، والإشارة به إلى الأجيال المتعاقبة، لذا يُفهم أنَّ دمَ الحُسين «كنز لا يفنى»، تُحرك به السِّياسة، أما تفسير ذلك فإنه إشارة إلى الخير والشّر، فمِن متى احتاج تقابلهما إلى كنايةٍ تزكي الكراهيَّة؟!

أمَّا عمَّا بين الأمويين والهاشميين، فهاشم وعبد شمس شقيقان، وعبد المطلب وأميَّة أولاد عمّ خلصاء، وكان الخلاف على الزَّعامة بمكة، ولنقل الإمامة، موجوداً قبل الإسلام (المقريزيّ، النِّزاع والتَّخاصم فيما بين بني أميَّة وبني هاشم)، ومع كلِّ ما بينهما، فالتَّداخل الأُسري ظل قائماً، قبل وبعد كربلاء (انظروا: القمي، الكُنى والألقاب، وابن عنبة، عمدة الطّالب).

تزوج الحُسين ليلى ابنة ميمونة بنت أبي سفيان، أخت معاوية(ت: 60 هجريّة)، وهي أم ولده عليّ الأكبر، فقيل: «علي الأكبر هاشمي مِن جهة أبيه، ثقفي أمويّ مِن جهة أمِّه»(القميّ، منتهى الآمال)، وقس قرابة يزيد لعلي الأكبر، وفي المصدر الشّيعي نفسه نجد حظوةَ عليّ بن الحُسين السَّجاد، بعد كربلاء، عند الأمويين، ففي «الحَرة»(63 هجرية)، في عهد يزيد، كانت دار السّجاد حِمىً للمطلوبين، حتَّى ضَّمَ إلى «عياله أربعمئة امرأة كثيرات الأبناء مع عيالهنَّ وحشمهنَّ»(منتهى الآمال)، وقائد الجيش الذي استباح المدينة قال للسجاد: «سَلْنِي حوائجَك، فلم يسألْهُ في أحدٍ ممَن قُدّمَ إلى السّيف إلا شَفَعَهُ فيه»(منتهى الآمال).

كلُّ قضية ومعركة لها ظرفها، والتّاريخ ميَّز فيها الحقّ عن الباطل، وأبناء الخندقين تصالحا وتصاهرا، نشأت منهما أُسرٌ متشابكة في هاشميتها وأمويتها، فما المطلوب اليوم، والثَّأر أخذه التَوابون مِن قتلة الحُسين فرداً فرداً، بعد ست سنوات، ثم زاد العباسيون بنبش القبور، وانقرض أحفاد يزيد، وتسنم أحفاد الحُسين السُّلطة، وتحت عناوين شتى، كإسماعليين وزيديين واثني عَشَريين، لكنّهم لم يشيدوا العدل المتباكى عليه، لأنَّه مجرد خيالٍ، لا وجود له إلا في الشّعارات.

فهذا أحد أحفاد الحُسين، زيد بن موسى الكاظم «خرج بالمدينة وأحرق وقتل، وكان يسمى زيدَ النَّار»، فنهره أخوه، ولي عهد عبدالله المأمون(ت: 218هجرية)، عليّ الرّضا(ت: 203هجرية): «يا زيد أغرَّك قولُ سفلة أهل الكوفة»(المجلسيّ، بحار الأنوار)! يقصد الغلاة، الذين فكرهم يُثقف به من على المنابر، والرّضا الإمام الثّامن عند القائلين بالخندقين. ماذا لو استلم زيد السُّلطة، ألا يظلم ويبطش؟ وهو ابنُ إمام وأخو إمام وحفيد إمام، وهذه تجارب الإسلاميين، ماذا عرضوا قبل السُّلطة، وماذا فعلوا بعدها؟

ليس حقَّاً، يمسي دم الحُسين سُلّماً إلى السُّلطة، ويُتحنى به لحصانتها، ويُحسب خراب البلدان وعسكرتها فداءً له. حتَّى صار بيت أبي عطاء السّنديّ(ت: نحو 180 هجرية)، مثلاً سائراً: «يا ليتَ جَور بني مروان عادَ لنا/ وأنْ عدلَ بني العبَّاس في النَّارِ»(ابن قُتيبة، الشّعر والشّعراء).

عندما تستمر الدّنيا حرباً بين الحُسَين ويزيد، يسقط مِن الحساب «القناعة كنزٌ لا يَفنى»(القشيريّ، الرّسالة القشيريَّة)، باعتبارها دعوة صوفيَّة كسلى، ليجري محلها «دم الحُسين.. كنزٌ لا يفنى»، فيه الغنائم السَّوائم!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رأيٌ نشرتهُ صحيفة “الاتحاد” الإماراتية، وجريدة “الزمان” و”صحيفة المثقف” اليوم الرابع من أيلول-سبتمبر 2024، وهو رأيٌ ستراتيجيُّ البُعد، توثيقيٌّ، حصيفٌ، ذو مرامٍ وطنيةٍ وإنسانيةٍ غاية في الأهمية، قدّمه الكاتبُ العراقي، بل المفكّر  الموسوعي، الدكتور رشيد الخيّون الذي تعرّفتُ إليه في لقاء ثقافي بدبي قبل أكثر من عَقدٍ. فوجدته متابعاً دقيقاً لما يجري في العراق من تطوّرات، سياسية، ثقافية، واجتماعية، لكنّه يركز في انشغالاته على قضايا تأسيسية في حياة المجتمع العراقي، وتاريخه، وتحوّلاته. وأنا منذ ذلك الوقت وقبله، اتابعه، وأقرأ له، ودائماً ما أسجّل إعجابي بكتاباته التي لا يمكن أنْ تُنمى إلا إلى الإنصاف، والعلميّة، والدِّقة، بتقصّي الأثر الوطني، والعربي، والانساني في أكثر القضايا (الدينية-الفكرية) والسوسيولوجية، تعقيداً، والتي عالجها في مؤلفاته الكثيرة التي تشغل الأوساط الثقافية عراقياً وعربياً وفي مراكز ثقافية معروفة عالمياً. وأنا هنا في هذا التعليق أهدُفُ فقط إلى إثارة انتباه القرّاء لأهمّية الرأي والكاتب، كليهما…  صباح اللامي  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *