أدبالعالمالوطن العربي

 “رسالة بعد منتصف الليل”…من وحي الاشتياق وانثيالاته..

بهذا العنوان “رسالة بعد منتصف الليل…من وحي الاشتياق وانثيالاته”، باغتني الزميل الصديق عماد آل جلال برسالة يبدو أنّها جزءٌ من تأثيراتِ مشاعرِ الودّ التي فاضت بها كتاباتٌ نُشرت على مدى الأيام الفائتة ضمن “أدب الرسائل”. ومن دون تخطيط مسبّق، وجدتُ نفسي أكتبُ لأخي عماد جوابي على رسالته التي أسعدت قلبي أيّما سعادة…صباح اللامي

   وإليكم نصّي الرسالتين:

        كتب عماد آل جلال في رسالته:            

      كانت الثلوج تغمر شوارع تورونتو* في ذلك الصباح الهادئ، بينما جلس صباح اللامي أمام نافذة مكتبه المتواضع، يحدّق عبر الزجاج إلى العالم الأبيض الممتد أمامه. رغم برودة الجو، كان هناك دفءٌ يسري في قلبه. كان قد أنهى للتوّ كتابة رسالة طويلة لصديقه القديم في بغداد، يُخبره فيها عن آخر مستجدات مشروعه الصحفي الجديد، “وكالة برقية”.”ما زلت أواجه بعض الصعوبات”، كتب صباح بحروف يملؤها الأمل. “لكنني متأكد أن هذا الطريق سيؤدي في النهاية إلى النجاح. قد يكون العيش في الغربة تحدياً، لكن التواصل معكم جميعًا يمنحني القوة للمواصلة.”

      صباح يشتاق كثيراً لبغداد وأزقتها، يشتاق لمجالسة اصدقائه الذين يحبهم وفي الوقت نفسه يمسك قلمه الذي تعود على وجوده معه دائما حتى وهو نائم .

     انبثقت وكالة برقية من تحت الأرض التي لم يألفْ رائحتَها وفي أجواء غريبة عليه. مع ذلك يبذل جهده لكي تستمر فهو يحتفظ دائما بورقة رابحة يستخدمها عند الضرورة.

   بينما يمسك صباح القلم ويكتب لصديقه عماد، يتذكّر كيف كانوا يتحدثون عن تأسيس صحيفة محلية في بغداد، تلك الأحلام البسيطة التي تراكمت بين أكواب الشاي وأحاديث الليل الطويلة. عماد كان دائمًا السند، يفهمه حتى من دون كلمات. “عماد، لقد كبرت الأمور هنا”، كتب صباح في رسالته. “أنتظر اللحظة المناسبة لاستخدام ما لدي من أوراق، وأعتقد أنني سأحتاجها قريبًا.”

     لكن الحنين لم يكن كل ما يسيطر عليه. كان هناك في أعماقه شيءٌ آخر… الأمل. الأمل بأن “وكالة برقية” ستتحول من حلم إلى حقيقة رغم العقبات التي يواجهها. تلك الوكالة التي أسسها هنا، في كندا، لم تكن مجرد مشروع صحفي؛ كانت تمثّل نضاله من أجل البقاء، إرادته لعدم الاستسلام. تحية مع شلال محبة.  

                                                        عماد آل جلال

                                                      أربيل.. 6-أيلول- 2024     

  وكتب صباح اللامي في ردّه:

 أخي العزيز عماد:

    في البدءِ، أشكرُ لكَ فرطَ شوقِك الذي حرّك فيك أخيلة الجمال بنسجِ هذه الأحدوثة التي سرّتني كثيراً، حتى لكأنّ كل ما قلتَه قد حدث، بيدَ أنّني -زهايْمَريّاً- لا أذكرُ شيئاً من التراسل بيننا، سواء بشأنِ “برقية” أو غيرها. وذلك بالطبع جزءٌ من “تقصيري” حيالَ صداقتنا الجميلة التي تَوفّرَ لنا أنْ نواصل صباحاتِها، أو مساءاتها، أو جُمَعِها المباركة، بالسلام والتحية، وأمنياتِ الخير.

     أما أنّك “ومن وحي الاشتياق وانثيالاته” كما هو وصفك  لرسالتِك، فذلك -وأقولُها بصدقٍ- مصدرُ بهجةٍ لي، فبيني وبينك من المودّة، والاحترام، والمحبة، ما يستحق أنْ نتبادل أطراف الحديث في إطار “أدب الرسائل” الذي ربّما يتحوّل إلى نهر مسرّاتٍ لجمهرة من أصدقائنا، وزملائنا، ممّن هم في العراق، أو من أضرابي الذين يعيشون في شتات الأرض، غرباءَ، مغتربين، شرَّقوا أم غرّبوا، فبغداد، ليست مدينة قابلة للنسيان، وأصدقائي وزملائي فيها ممنوعون من “صرفِ التغافل” عنهم. إنهم بلسمٌ لكل جُرحٍ، ودواءٌ لكل علّة. أنا يا صديقي الغالي، أشتاقُ حتى إلى من أختلف معهم، أقول “أختلفُ” لا “أكره”، لأنّ الغُربة، برغم وحشيّتها تدرّب قلبَ الآدميّ على نسيان، الكُره والتكارُه، وتُعقّل في المرء، لاسيما من هو في “بحبوحة كهولتنا أو شيخوختنا” جنونَ ذاتيتِه، وتلقّنه دروساً في “التغافر”، وتسقيهِ “خمرةَ شوقٍ” تشطبُ على جميع ما كدّر حياته ذات يوم، فكيف وأنا لم أرَ فيك يوماً إلا زميلاً عزيزاً، وصديقاً حبيباً، له طلّة مؤنسة، ومحبوبة.

        أودُ فقط، -أخي عماد- أنْ أنبيك أني لم أسكنْ مدينة *”تورونتو” الكندية، إنما سكنتُ سابقاً “هاليفاكس، نوفاسكوشيا” جميلة جميلات مدن كندا، التي لي فيها أربعة أبناء، وحفيدٌ، وآخرُ لم يرَ النور بعد، إنما أسكنُ في مدينة يقالُ لها “كالغري” بولاية ألبيرتا، ومن مناقب هذه “المدينة الفاضلة”، أنّ شتاءَها، ينزل بحرارة الجوّ إلى 40 درجة تحت الصفر، وهذا ما كان يدفعني قبل “فايروس الكوفيد” إلى الهربِ منها لشهور، نحو اسطنبول، فالبرد في كالغري، كما يقول أبو سفيان في فيلم الرسالة “أمرٌ لا يُطاق.. لا يُطاق”!. وما يجعل “كالغري” قابلة للعيش، أنّ لي فيها، ولدين، وثلاثة أحفاد، ولي فيها أيضاً الصديق الحبيب الدكتور رافد حداد، أنيسُ القلب، وصديق العمر، و هو رافد ثرٌ من روافد حياتي في غربتي التي لا تُطاق فعلاً!.

   “عَمّودي” الورد…لا أطيل عليك، لكنْ يبقى للحديث صلات، وصلات!.

                                            صباح اللامي

                                 كالغري  مساء 6-أيلول-2024

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**على هامش رسالتينا، علمتُ أنّ صديقي العزيز عماد، يقيم في “أربيل”، وقبل ذلك كنتُ قد عرفتُ من متابعاتي في الفيسبوك، أنّه يُمضي أشهراً في مدينة “أنطاليا” التركية الجميلة، وتركيا كلّها جمال. لكنْ ثمّة هاجسٌ، أشعرني أنّ عماد ضجِرٌ ، ولأنّ للنشر شروطَهُ المهنية، عَرضتُ على صديقي أنّ ننشر رسالتينا ضمن “أدب الرسائل”، فكانَ ردّه جميلاً، إلا أنّه ينبسُ بشيء من الأسى على شيء، أو من شيء، أو لأجلِ شيء. كتبَ لي في جوابه:

      “أرجو لك يوماً سعيداً..أتفق مع رأيك اذا وجدتَ في الأمر  فائدة لتحريك شجون الاصدقاء فبعضها يكاد يصدأ”!.

       هذه الملاحظة “الهامسة”، أحزنتني، فما أعرفُ عماداً إلا أنّه متفائلٌ، وله شبكة علاقات، وأصدقاء، ومعارف، وهو “مرتاحٌ” مالياً، “فما الخبر، ما الچفية، ما الحامض حلو، بل ما الشربت؟!”. كتبتُ له متسائلاً:

      “ما هذه الإجابة الحزينة جداً ، هل يحق لي أنْ أسأل؟! أنتَ دائماً متفائل كما أعرفك، فماذا وراء (تحريك الشجون) و(بعضها يصدأ) ؟ .. من دون تدخلٍ مُسْرف في شؤونك الخاصة، شاركني همومَك لكي نتعاون على فهمها في الأقل..تحياتي”

    ومن فوره أجابني:

    “العزيز أبو سيف يبدو أني اخفقتُ في ايصال الفكرة.. لا أقصدُ نفسي في الوصف القاسي إنما عديدَ الاصدقاء الذين باتوا نادراً ما يتّصلون للسؤال.. المصالح والمنافع الذاتية والشخصية تهيمن شيئاً فشيئاً.. أما عماد فلن يتغير.. متفائل ويحمل خزيناً كافياً من الطاقة الايجابية.

  دمت أخي العزيز سالماً غانماً واضحاً كما عرفتُك، وإنْ أتيتَ يوماً الى العراق لا تنسَ زيارة أربيل حيثُ أقيم حاليا”.

     ولا أخفيكم، كنتُ بعدُ متعلّقاً بأهدابِ البحث في أصلِ المشكلة، لكنّ “الدقّ والنق” قد يُوصل “تراسلَنا الجميل” إلى الأحزانُ التي نحاول أنْ “نشردَ” منها لاسيما أنّنا في الهزيع الأخير من ليل حياتنا. لهذا اخترتُ أنْ أخفف العبء عن صديقي بأنْ كتبتُ له:

    “جميلٌ أن أسمعَ منك أنّك مقيم في أربيل فهي مدينة هادئة وراقية بأهلها الطيبين ، وآخرُ مرة مكثتُ فيها خمسة شهور .

  أخي العزيز عماد، هذه هي تحوّلات الدنيا، ولا جديدَ في الشكوى من اضطراب أحوال الصداقات.. أنت إنسان جميل ودافئ وراقٍ في سلوكك. أنا سعيد بهذا التراسل بيننا. تمنياتي لك بالتوفيق والسداد . دمت أخاً حبيباً..محبتي”.  

   وفي آخر الكلام، لابدّ أنْ أعتذر من صديقي العزيز عماد آل جلال، عن نشر هوامش رسالتينا، وما كنتُ أجرؤ لولا أنّها، إنْ لم تُفدْ لا تضرُّ. وحسبنا، في الغربة أو في دفء الوطن، أنّنا نتألم فنقول “آخ”!!، وما حيلة المكلوم، أو الكليم، إلا أنْ يتأوّه أو “يتأخّخ” تفريجاً عن همومٍ بات عصرُنا الذي نعيشه يداهمنا بها آناء الليل وأطراف النهار، فلعماد ولجميع الأصدقاء أينما كانوا أقول: “اشتكوا لبعض، تعاتبوا، تساءلوا، تكاشفوا، لكنْ دعوا كل شيء يأخذ شكل الأدب الرفيع، لكي ننفعَ غيرنا بما نكتب، أما “الصمت” مجرّد الصمت فلا نفعَ فيه، وهو في مثل هذه الحال من “تنك” لا من “ذهبٍ”، ولعلّنا هنا نستفيد من قول الرومي جلال الدين “لقد لذتُ بالصمت يا ألله، لكنْ صعدَ النُواح من روحي دون إرادة”!..صباح

مقالات ذات صلة