رحلة “تنقيل” تمثال عبد المحسن السعدون




يشهد عديدُ النصبِ والتماثيل في بغداد ومختلف مدن العالم، عمليات تنقيل وتغيير، أو تصليح بعد الهدم، أو إزالة بحجة (الاجتثاث) كما حصل مع العديد من النصب التذكارية والتماثيل الشخصية، فالاجتثاث المزعوم لم ينل البشر فقط بل نال الحجر!!! وهي النُصُبُ التي تخلّد الشخصيات الوطنية ومنها تمثال الشخصية الوطنية (عبدالمحسن السعدون).
ولتمثال رئيس الوزراء العراقي الشهير عبدالمحسن السعدون قصة غريبة في التنقيل والتغيير، مثلما هي صفة تكاد تكون جامعة بين بعض النصب والتماثيل في بغداد، ويزداد الأمر غرابة لو تتبعنا السيرة المكانية لإحدى تماثيل بغداد العريقة وصاحب الحظ الأوفر في التنقيل من مكان الى آخر ألا وهو نصب عبدالمحسن السعدون من ساحة التحرير في الباب الشرقي الى ساحة النصر في شارع السعدون.

من هو عبد المحسن السعدون؟
هو من شخصيات الكفاح من أجل استقلال العراق، انتحر يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1929، إثر فشل المفاوضات التي كان يجريها مع البريطانيين من أجل استقلال العراق، وكان كثيرون يعتقدون أن انتحاره سيفجر ثورة شعبية. لكنه شكل عامل ضغط على الإنكليز ليسرعوا في الغاء الانتداب البريطاني.

ولد عبدالمحسن السعدون عام 1879 في أحضان عشيرة عربية عريقة فأخذ قسطه من التعليم المعتاد على تلك الأيام ليصبح مؤهلاً للدخول في المدارس الرُشدية، وليغادر بعدها الى الاستانة ليتلقى تعليمه في المدرسة الحربية شأن نظرائه ياسين الهاشمي ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلى جودت ورؤوف الكبيسي وجعفر العسكري؛حيث تخرج منها برتبة ملازم ثم ترقى في مسلكه العسكري الى حين انتخابه في مجلس “المبعوثان” ليصبح نائباً فيه. فلما وضعت الحرب أوزارها وعاد العراقيون الى بلادهم ظهر السعدون كأحد الشخصيات البارزة في القيادة السياسية والحكم على عهد الملك فيصل الأول(1833 ـ1933) إذ أصبح وزيراً للعدل لأول مرة عام 1922 ثم وزيراً للداخلية ثم تقلد منصب رئاسة الوزراء في 17 تشرين الثاني من السنة ذاتها ؛ وفي هذه الفترة الصعبة عمل جاهداً على قيام نظام برلماني يستند على قاعدة أن الاكثرية الحزبية هي التي تشكل الحكومة، ففي 16 تموز من عام 1925 افتتح البرلمان لأول مرة وكان حزب التقدم الذي يرأسه السعدون يمثل الأكثرية.

إنّ التعقيدا ت والصراعا ت وتدخلات الانكليز في الشأن الوطني العراقي، هي التي أدّت الى تلك النهاية المأساوية التي ختم السعدون حياته فيها بالانتحار في 13 تشرين الثاني عام 1929 ؛ وان سطوراً من وصيته الى ابنه (علي) قد توجز كل ما في المأساة من تعبير وعِبَر: ــ

حيث تضمنت الاتي:
( الأمة تنتظر الخدمة .الانكليز لا يوافقون .ليس لي ظهير. العراقيون الذين يطلبون الاستقلال ضعفاء وعاجزون وبعيدون كثيراً عن الاستقلال.هم عاجزون عن تقدير أمثالي من أصحاب الشرف. يظنونني خائناً للوطن وعبداً للانكليز. ما أعظم هذه المصيبة . أنا الفدائي لوطني الأكثر إخلاصا قد صبرت على أنواع الاهانات؛ وتحمّلت أنواع المذلّات. وما ذلك إلا من أجل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي ).

قصة تمثال عبدالمحسن السعدون:
يعود الفضل في إنشاء نصب المرحوم عبدالمحسن السعدون الى المرحوم الملك فيصل الأول الذي استجاب لرغبة أعضاء مجلس النواب العراقي في تخليد الراحل عبدالمحسن السعدون بنصب في قلب بغداد يذكّر الأجيال المتعاقبة بشخصه ونضاله من أجل الوطن، علماً أن التمثال تم نصبه بتبرعات أبناء الشعب من المواطنين والنواب، حسبما ورد في المصادر.
فحينما شعر العراقيون بفداحة المصاب بفقد شخصية وطنية مخلصة للعراق، فقد تنادى عدد من النواب ورجال الصحافة وعِلْيَة القوم الى تكريم عبد المحسن السعدون؛ من خلال لجنة عليا تعمل على إقامة تمثال له يليق بسجله الوطني وتضحياته؛ على أن يمول من تبرعات أبناء الشعب إسهاماً وتقديراً لدوره في الحياة السياسية والاجتماعية. وقد عهدت اللجنة الى الفنان الإيطالي العالمي بييترو كانونيكا أبرز الفنانين في عصره، بمهمة تصميم و نحت التمثال حيث سبق لهذا الفنان ان نحت تماثيل مصطفى النحاس؛ ومصطفى كمال اتاتورك؛ والجنرال مود.. كما أنه عمل لاحقا تمثال المرحوم فيصل الأول.

التمثال الذي أنجز عام 1933 ورفع الستار عنه في ساحة صغيرة خضراء تقع في نهاية شارع الرشيد بالقرب من مدخل أبي نؤاس، حيث كان يقابله آنذاك متحف صغير لمخلفات الملك فيصل الأول البسيطة. والتمثال يصور عبد المحسن السعدون واقفا بملابسه الكاملة معتمرا سيدارته؛ ويحمل بيده اليسرى مجموعة من الأوراق؛ ويشير بيده اليمنى الى صدره؛ وهو مصنوع من النحاس؛ اما القاعدة فقد كانت من المرمر الصقيل وقد برزت عليها تماثيل صغيرة لبعض شخصيات تلك الفترة من تاريخ العراق السياسي المعاصر.

كان التمثال يقف على قاعدة رخامية يقف فوقها نصب عبدالمحسن السعدون المصنوع من البرونز، بزيه الطبيعي وسيدارته الفيصلية، يحمل اوراقه بيد وأخرى طليقة وقد يشير بها الى نفسه وقد حملت بعض التأويلات والتفسيرات من قبل العامة، وكنتيجة لحسهم الوطني وحبهم لشخصية السعدون من هذه الحركة المنسوبة الى يده اليمنى هي دلالة على ما يشبه القول” هل أنا خائن؟ “أما واجهة القاعدة الرخامية فقد تزينت بجدارية جميلة لتماثيل لها علاقة وثيقة بحياة السعدون السياسية.
نعم لقد تشعبت الآراء حول دلالات الوقوف والاشارة؛ وحينما سُئل الشاعر والقانوني الكبير المرحوم ابراهيم الواعظ الذي أسهم اسهاماً ادبياً ومادياً في حملة التبرعات الشعبية لإقامة هذا التمثال؛ عن تلك المغازي أجاب بالقول (اما الوقوف؛ فهو دليل على الشموخ والاعتداد بالنفس؛ واما الاوراق التي يحملها فهي دليل على صفحة اعماله وخطاباته؛ وما اليد اليمنى التي تمتد لتلامس صدره الا اشارة الى ما اكده في رسالته الأخيرة لأبنه علي (انا الفدائي لوطني لست خائنا)؛واذا ما تملينا تماثيل القاعدة وجدناها ترمز الى اعضاء مجلس النواب والوزراء وكأنهم يستمعون اليه خطيبا)…

لقد تنقل التمثال من موقعه الأصلي الى حيث مدخل جسر الجمهورية ليقابل مدرسة الراهبات؛ ثم الى بداية ساحة التحرير؛ ولما كان التصميم والانشاء اعترضا مكانه في الحالتين فقد نقل الى موقعه الأخير في ساحة النصر منذ عام 1962 حتى لحظة الإجهاز عليه يوم 6 تموز2003 ؛ اي بعد ثلآثة أشهر من الاحتلال الأمريكي الغاشم للعراق؛ حينما اقتلعته زمرة حاقدة وجاهلة بمعاولها بينما كانت القوات الامريكية تجوب شارع السعدون.
لقد كان الجمهور المحتشد يستغيث برعاة الدبابات في حين كانت المعاول تهوي على النحاس والحجر؛ ولا من مغيث حيث اقتلع التمثال من أساسه ونقل على عربة خشبية يسحبها حمار الى جهة معروفة المظهر؛ معلومة المخبر. لكن أبناء الشعب الغيارى وأبناء عشيرة السعدون واقاربه وعارفي فضله بادروا الى صب التمثال مجددا بمادة( الفايبر كلاس) لكي يقف مجددا كرمز من رموز العراق وشخصية وطنية لا تنســى.

لماذا اقتلع التمثال، ولماذا سرق، ولماذا نقل؟
مما أوجزناه يتضح جليا أن هناك عوامل(شخصانية) وأخرى عامة تداخلت فيما بينها لكي تؤدي لتلك المأساة التي تتوزع في مدلولها على العامل المادي والجهل المتشابك مع الثأر والتي تنتهي الى النيل من شخصية احترمها العراقيون لمواقفها الشجاعة والمدافعة عن حق العراق في الحرية والاستقلال. إنّني هنا وكرجل قانون بالدرجة الأولى لا يمكنني الجزم بسبب مباشر لما حدث أو تحميل اية جهة مسؤوليتها الكاملة عن ذلك ولكن باستطاعتي أن أحدد النقاط الأساسية لهذا الفعل الشنيع من خلال مجريات الأحداث لكي يمكن للسائل بعدئذ ان يعتبرها جميعها أو أحداها سبباً رئيساً لذلك الفعل االمخجل … وعلى الوجه الآتي:
أ ــ بحسب قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف الأربعة فأن المحتل هو المسؤول عن حماية الأرواح والممتلكات… الخ وبالتالي فإنه وحده يتحمل المسؤولية الكاملة ليس عن هذا الفعل الشنيع وإنما عن كل ما حدث من تدمير لآثارنا وكتبنا ورسومنا وتماثيلنا ومخطوطاتنا.
ب ــ إنّ التمثال الشامخ المجسد للموقف الشريف لشخصية بارزة عامة فضلت الانتحار على المسّ بكرامتها الوطنية وهي على رأس قمة السلطة وفي منصب رفيع لا يضحي به إلا من كان بمواصفات وخلق السعدون هو بحد ذاته معلمة شموخ تجز رقاب بعض السياسيين وتذكرهم بسوءاتهم؛ وتعري أعمالهم وتصرفاتهم أمام أنفسهم قبل غيرهم كلما وقعت أعينهم على ذلك التمثال.

ج ــ يذكر البعض من المؤرخين بأنه في عهد وزارة السعدون عام 1926 جرى ترحيل المرجعين الميرزا النائيني وابي الحسن الاصفهاني … الى ايران بحجة التدخل السياسي والتحريض وخلق الفجوة ما بين الشعب والحكومة؛ ولعل هذا السبب قد دفع بالبعض الى الرد المقابل على ذلك الموقف الذي يعتبرونه مهينا لشخصيات دينية لها مكانتها واعتبارها؛ بغض النظر عن حقيقة الحدث وقاعدة مرور الزمان!.
د ـ يعتبر معدن النحاس في لحظة سرقة التمثال من أهم ما يخطر على بال الباحثين عن الثروة العاجلة والملحة لبعض العاطلين الذين لم تتح لهم فرصة المشاركة الجماعية في عرس نهب وسرقة وتدمير كنوز العراق؛ فكانت عملية قلع(اجتثاث) تمثال السعدون هي الفرصة المتاحة امامهم؛ حيث دبابات الاحتلال تسرح وتمرح وتغرد؛ فتمنح مطارق الحديد الضخمة فرصة لدك معقل الراحل عبدالمحسن السعدون احد ابناء العراق الافذاذ الذي فضل مصرعا مهابا على حكم لا يحقق مطامح الشعب ولا يخدم الوطن.
رجل واجه التحديات في حياته وبعد مماته!
من المفارقات التاريخية أنّ المواقف التي صادفها عبد المحسن السعدون تمثالاً، تكاد تقترب من المواقف والتحديات التي واجهها وهو حيٌّ يرزق، فمنذ تخرجه ضابطاً في المدرسة الحربية في اسطنبول وعمله في الجيش العثماني، ومروراً بانتخابه لعضوية مجلس النواب ومن ثم تسنمه لمنصب وزير العدلية عام 1922 ثم وزيراً للداخلية، حتى وصوله رئيساً لمجلس الوزراء لأربع سنوات، وخلالها ووجِهَ الكثير من المضايقات والإرادات الأجنبية واللاوطنية التي حاولت أنْ تتحكم بمصير البلاد آنذاك وتحول بينه وبين طموحه السياسي ومشروعه الوطني مما أودت به الى الانتحار بعد وصيته المعروفة الى ابنه علي، حيث قال من بعض ما قال فيها ”الشعب يريد الخدمة والانكليز لا يوافقون”.
من الطريف جداً أنْ تمثال السعدون وهو من أقدم تماثيل العاصمة بغداد تعرض للتنقيل أكثر من مرة، فقد أقيم بدايةً في عام 1933 باختيار أول مكان له في منطقة الباب الشرقي، في المنطقة الواقعة عند نهاية شارع الرشيد وبداية شارع ابي نؤاس، وتحديداً في موقع انشاء جسر الملكة عالية (أو الجمهورية) من جانب الرصافة، ثم تحول بعد ذلك الى مدخل الشارع المعروف باسمه- شارع السعدون- تمجيداً لذكراه، مقابل عمارة مرجان الشهيرة ولم يلبث طويلاً وبسبب مخالفته مع موقع الجسر الجديد فقد انتقل الى مكان ثالث عند عمارة مرجان مدخل الشارع المسمى باسم (السعدون).
في عام 1972 حينما بوشر بإنشاء مشروع (نفق ساحة التحرير) ولعدم تناسبه مع فضاءات المشروع ومقترباته ومجمل طبيعته التصميمية حسب تقديرات العاملين، فقد استقر به المقام اخيراً بنقله وتثبيته عند ساحة النصر على امتداد شارع السعدون ومازال في مكانه.

التمثال تعرض للحوسمة من قبل اللصوص:
التمثال الحالي في ساحة النصر هو في الحقيقة لا علاقة له بالتمثال الأصلي المصنوع من البرونز والذي تعرض بعد احتلال العراق 2003 الى عملية سرقة علنية، شأنه في ذلك شأن العديد من ثرواتنا العراقية من ذهب ومعادن ثمينة الى جانب الآثار واللوحات الفنية وبقية ممتلكاتنا الوطنية والحضارية وموروثنا الثقافي الذي طالته يد السرقة والتخريب والدمار. وشهدت بغداد موجة نهب سرقت خلالها معظم التماثيل البرونزية لتذويبها أو بيعها.
فقد تمكن الوطنيون من العراقيين الشرفاء في فترة قياسية وجيزة بعد فقدان نصب السعدون ان يعيدوا للسعدون هيبته وقد صنع التمثال هذه المرة من مادة الفايبركلاس بعدها قامت وزارة الثقافة باستبداله بتمثال آخر. وقال المشرف على عملية الاستبدال الفنان النحات طه وهيب إن”التمثال القديم لعبد المحسن السعدون المصنوع من مادة الفايبر كلاس، استبدل بآخر جديد مصنوع من مادة النحاس.

استبدل تمثال من ألياف الزجاج لرئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد المحسن السعدون من التمثال البرونزي الذي سرق في السادس من يوليو/ تموز 2003، بناء على مبادرة من عائلته، حيث اعلن الاستاذ خالد السعدون (أستاذ تاريخ العالم العربي) وابن شقيق رئيس الوزراء الأسبق أنهم أعادوه في مكانه رمزا وطنيا يجسد التطلع إلى عراق مستقل وتقرير مصير الشعب العراقي. وشدد السعدون على أن المرحوم عبدالمحسن السعدون يحظى بسمعة جيدة بين مختلف فئات الشعب من أحزاب وعشائر..
