رحلة إلى قضاء (عنه)..المدينة التي أنجبت عشرات المثقفين والعلماء والصحفيين..


في الزمن القديم كان السفر برّاً الى قضاء عنه بمحافظة الأنبار يتم بعد مغادرة مدينة حديثة، متجهاً إلى الغرب حتى تلتقط الأنظار ( الگصر ) ، وتعني القصر وهو ليس قصراً ولا يوجد أي قصر بالقرب منه، بل هو وادٍ فوقه جسرٌ متوسط الطول ، وتتدفّق فيه مياه السيول العاتية لتصبَّ في نهر الفرات.
وحال عبور هذا الجسر يصبح المسافر ضمن الحدود الإدارية لقضاء عنه.
قضيت في عنه سنوات الطفولة والشباب واكتسبت من أهلها ثقافتَهم وتقاليدَهم وروحَهم الوطنية، ويتخَيَّل البعض أنني عانيٌّ لشدةِ معرفتي بها وبأهلها، ولكني لست عانياً ، وإنما أنا بغداديٌ أصيل .

ويتماسك سكان قضاء عنه في المدينة القديمة، في أحياء تسمى محلّات تتوالى الواحدة بعد الأخرى على امتداد نهر الفرات تتَّسم بالطول محصورة بين النهر والجبل بعرض يتراوح ما بين 200 – 300 متراً.
ومحلات عنه القديمة عكس مجرى النهر هي كما يلي:
محلة جُمّيلة برفع الجيم وتشديد الميم
محلة الشريعة
محلة الخُطبّة برفع الخاء وتشديد الباء
محلة السّدة
محلة حقون ويلفظها العانيون ( حگون) ،وهي مركز المدينة وفيها سراي الحكومة والدوائر الرسمية.
محلة شعيفة
محلة غازي
محلة كحلي
محلة دلّة علي
محلة الحوش ، ويقطنها ( السواهيك) وهم من أهل راوة في الأصل
محلة العباسية ، وتسمى الراس الغربي وتواجه بلدة راوة على الضفة الأخرى من النهر.
وكل هذه التسميات تحوّلت الى تسميات أخرى في عنه الجديدة التي تداخل سكان محلاتها القديمة بعضهم بالبعض الآخر ، وأصبحت محلاتهم تسمى:
حي القادسية
حي اليرموك
حي النصر
حي التآخي
حي الداخلية
حي السلام
حي الزيتون
حي التأميم
حي التضامن
وللأسف ألغت هذه التسميات السياسية تاريخ محلات عنه التقليدية.
ومحلة العباسية في عنه القديمة هي الوحيدة التي تواجهها مظاهر السكن في الضفة الأخرى تتمثل في بيوت أهل راوة ، أمّا محلاتها الأخرى فلا تواجه مظاهر سكن بل تواجه مرتفعات صخرية ممتدة على طول الضفة الأخرى من نهر الفرات.
وتجد في وسط النهر عدة جزر أغلبها مأهولة تكثر فيها أشجار النخيل والفواكه وزراعة الخضروات ، وأشهرها جزيرة الحضرة وجزيرة المقطعات وجزيرة الحاج شريف غير المأهولة ويملكها الحاج شريف العاني والد المحامي المعروف عزيز شريف.

وكذلك من الجزر المأهولة ، جزيرة نصّار مقابل محلة حگون والسراي، وأكبرها جزيرة القلعة مقابل محلة الخطبة ويجري العبور اليها بوساطة الزوارق الكبيرة ( الشختور) وفيها القلعة التاريخية ومنارتها ذات الثمانية أضلع.
تظهر أيضاً صيفاً عند انحسار مياه النهر جزر رملية وتُستغل لزراعة الخضراوات الصيفية.
وتعود مدينة عنه الى وقت مبكر جداً من فجر التاريخ وفَتَحَتْها جيوشُ الملك حمورابي، وأخذت اسمها من العهد البابلي وأشار الملك آشور بانيبال في عام 879 قبل الميلاد الى اسمها ( عانات) وكذلك الملك سنحاريب.
وفي عام 363 تعرضت جيوش الإمبراطور الروماني الى مقاومة سكان عنه فاقتحم أبوابها وأضرم النيران فيها.
تحدث الطبري عنها في تأريخه والحريري في مقاماته وابن خلدون في مقدمته وكذلك ياقوت الحموي.
كانت على الطريق الرئيس بين بغداد والغرب ، وضرب إعصار عام 1835 المركب الإنكليزي في شمالي عنه وهو ينقل البضائع.

في محلة حگون اكتسبتُ عاداتِ أهلها وثقافتَهم وكرمَهم وأخلاقَهم ودرستُ في مدارسها الابتدائية والمتوسطة.
تغفو عنه بين الفرات والجبل وتروي بساتينها من ماء الفرات الذي تنقله النواعير، وفي عنه القديمة كثيرٌ منها، ويستخدم أهلها نوعاً من الزوارق الكبيرة يسمونه ( الشختور )المصنوع من خشب شجر التوت والمطليّ بالقير لكي لا تتسرّب المياه الى داخله ، وكذلك قوارب أصغر للتنقل من وإلى الجزر وعبور أبناء الجزر للالتحاق بمدارسهم يومياً.

تتمتع المدينة بمحاصيل زراعية متعدّدة منها التمور والتين والزيتون والبرتقال والتفاح صغير الحجم والمشمش والفواكه الأخرى ، وجميع أنواع الخضروات.
وشهدت عنه في نضال أهلها الوطني المظاهرات والاضطرابات والاحتجاجات كما هو الحال مع مدن العراق الأخرى.
وعندما جرى بناء السد، أنقذت هيئة الآثار العراقية من الغرقِ، وبنجاح، مجموعة من الآثار والمنائر وقبور شيوخ أولياء وتكايا.

ففي جزيرة القلعة مقابل محلة الخطُبة ترتفع منارةٌ مُثمَّنةُ الأضلاع يعود تاريخها الى العصر العباسي ومشيدة على قاعدة ذات ثمانية أبعاد وباستخدام الحجر والجص وترتفع بثمانية أضلاع لكل منها ثمانية نوافذ ومجموعها 64 نافذة تسمح بدخول الضوء الى درجات السلم داخل المنارة .
وبعد أن تصعد 99 درجة على السلم تصل الى القمة حيث توجد قبة صغيرة يتم دخولها من أربع فتحات.
قام خبراء الآثار العراقيون في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بتقطيع كل المنارة ونقلوها الى عنه الجديدة ، وتعرّضت للتخريب أيام ظلام داعش وأعيد بناؤها مرة أخرى.
ونقل خبراء الآثار أيضاً تكية الشيخ أحمد وضريحه وقبور أولاده، وهم ينتسبون الى الإمام الحسين بن علي بن إبي طالب ويتّبعون الطريقة الرفاعية. وهي تكية كانت في محلة السّدة ويتبارك بها أهل عنه وتحمل عائلته لقب بيت الشيخ ، ومنهم شخصيات معروفة بينهم عزيز الشيخ العضو المرشح للمكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي أوائل عقد الستينيات.
شخصياتٌ عانيةٌ..
يحتار المرء في التعرّف على الشخصيات والكفاءات العراقية التي جاءت من عنه ، ومنهم سياسيون وعلماء وأطباء وضباط جيش وشرطة ومختصون في كل العلوم والفنون وشعراء وأدباء .
منهم في الماضي الشاعر المنتجب العاني المتوفّى عام 400 هجرية ، وحديثاً عشرات الشعراء منهم شفيق الكمالي ورشدي العامل.
من عنه أيضاً شفيق العاني رئيس محكمة تمييز العراق في الستينيات وعارف قفطان النائب عدة مرات في العهد الملكي وناصر الحاني وزير الخارجية الأسبق.

ومن الأطباء العانيين طارق هليل أخصائي الأمراض الجلدية وحميد العاني أخصائي أمراض القلب وفؤاد شاكر مصطفى أخصائي التخدير ، وكثير غيرهم.
ومن المهندسين رقيب عبد الرزاق القاضي مدير معمل الزجاج في الرمادي وفاروق البندر وكيل وزارة الصناعة وعدنان عبد المجيد وزير الصناعة وهو شقيق القيادي البعثي القديم حمدي عبد المجيد وطاهر توفيق وزير الصناعة ومحمد حمدان الحدو محافظ بغداد وكريم شنتاف وزير الثقافة .
ومن عنه ايضاً الصديق المرحوم خالد هليل العاني خبير الجيولوجيا وعضو أول تشكيلة للجنة الطاقة الذرية العراقية.
وكذلك من عنه الفنان يوسف العاني وكاتب القصة شجاع العاني.

وللحركة الوطنية العراقية نصيب واضح من العانيين بعضهم أصبحوا قادة في الاحزاب السياسية بينهم يوسف زعين رئيس وزراء سوريا حتى 1970 وهو عانيٌّ لكنه من مواليد ألبو كمال، وله شقيق عاني كان يقيم في الأعظمية بينما هو رئيس للوزراء في دمشق.

ومن القيادات البعثية حمدي عبد المجيد وعزت مصطفى وزير الصحة وتايه عبد الكريم وزير النفط وفؤاد شاكر مصطفى.
كذلك تولى عانيون أعلى المناصب القيادية في الحزب الشيوعي العراقي وكلهم من عوائل مشهورة في مجال الفقة والشريعة الإسلامية ،ومنهم عامر عبدالله وعزيز شريف وشقيقه عبد الرحيم شريف وعزيز الشيخ وخاله شريف الشيخ وحمدي أيوب العاني وثابت حبيب العاني وغيرهم.

والكثيرون من الصحفيين أصلهم عاني، ومنهم مثلاً طه الفياض ورسمي العامل ونعمان العاني وعبد اللطيف حبيب ، ومنصب حاكم عنه الذي يمارس السلطة القضائية شغله رجال معروفون أبرزهم حسين جميل حاكم عنه في 1936 – 1937 وأصله من محلة قنبر علي ببغداد وهو من مؤسسي جماعة الأهالي في بداية عقد الثلاثينات وأصبح نقيباً للمحامين في الخمسينيات والسكرتير العام للحزب الوطني الديموقراطي ثم وزيراً للإرشاد لبضعة أيام عام 1959 واستقال من منصبه.
ومن حكام عنه أيضاً نوري أحمد الشيخ وهو جدُّ أولادي من ناحية الأم ،. وهو الشقيق الأكبر لعزيز الشيخ المذكور آنفاً ، كذلك حسن العلي التكريتي وهو عم صلاح عمر العلي وزير الإعلام.
ومن العسكريين الضابط سعدون غيدان وهو عانيٌّ من ناحية الام واللواء صلاح القاضي قائد أحد فيالق الجيش في الحرب والذي قيل إنّ صدام أخطأ بمعاقبته بالإعدام ثم ذهب الى عنه للاعتذار من والدته ، واللواء يعقوب عبد اللطيف مدير الإعاشة العام في بداية عقد الستينيات، وهو الذي تزوج تايه عبد الكريم من ابنته.
ومن ضباط الشرطة كامل فازع مأمور مركز شرطة السراي في بغداد منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي وكذلك أنور ثامر العاني مدير الأمن العام منتصف الستينيات.
كانت جميع الحكومات المتعاقبة على العراق تعدُّ مدينة عنه منفىً لإبعاد خصومها السياسيين إليها. فقد أبعدت الحكومة عام 1931 الى عنه الزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد بعد إخماد تمرده عليها في السليمانية شمال العراق. وفي أواخر عقد الثلاثينات أبعدت الحكومة الى عنه رشيد عالي الكيلاني وكان وزيراً للداخلية ثم رئيساً للوزراء قبل هذا النفي وبعده .
وفي الخمسينات كانت حكومات العهد الملكي تبعد خصومها الشيوعيين الى عنه ومن بينهم شخص أرمني أسمه سركيسيان الذي كان مطلوباً منه التوقيع يومياً في سجل مركز شرطة السراي لكي يتأكدوا أنه لم يهرب ، واتخذ من التصوير الفوتغرافي مهنة له بواسطة ذلك الصندوق الذي كان يستعمل لالتقاط الصور الشمسية.

والحال نفسه مع حكومة السنوات الأولى للعهد الجمهوري التي أبعدت خصومها البعثيين ومنهم بهجت شاكر حسن وعبد الله سلوم السامرائي ، وأقاما في منطقة الراس الغربي قرب ثانوية عنه.
وفي عنه وجدت طريقي الى أحد الأحزاب السرية وقضيت في تنظيماته في عنه بعض الوقت ثم انتقلت الى بغداد .
دخلت عام 1959 موقوفاً مرتين في موقف شرطة السراي في عنه ، مرة بتهمة توزيع منشورات بخط اليد لم أكن من كتبها لكني أعرف كاتبها ، وأخذوا مني بطريقة بدائية نموذج خط اليد وأطلقوا سراحي.
وفي المرة الثانية، في العام نفسه، أوقفتني الشرطة بتهمة المشاركة في اعتداء على أحد الشيوعيين وبقيت في الموقف أياماً وأحالوني مع عدد من العانيين الى المحكمة ، وهي الأخرى لم أكن طرفاً فيها لكني أعرف من قام بها.
وشاءت الظروف أن تنقلني العائلة على عجل الى المستشفى في بغداد لإصابتي بمرض ليس لدى مستوصف عنه القدرة على علاجه وجاءتني من محكمة عنه الى بغداد تبليغات رسمية، لمرتين، بالحضور الى المحاكمة، فكنتُ أرسل لهم التقرير الطبي بتعذر سفري ، ثم أغلقت القضية لعدم حضور المشتكي الذي هاجر الى بغداد وسكن في الكرادة الشرقية والتقيته هنالك مرتين مصادفةً.
وعند ازدياد عدد من غادر عنه لظروف دراسية أو معاشية اتخذوا السكن في أحياء معينة في الكرخ، فيسكن أهالي عنه وراوة سوق حمادة والرحمانية والشيخ بشار ومنطقة الشيخ معروف، واعتادوا قضاء وقتهم في مقهى العانيين المطل على نهر دجلة في ساحة الشهداء.