تحقيق

ذكريات عن لقاء (المتنبي) وفطور (الرصافي) مع حسين حسن

      الثامن والعشرون من اذار 2025، صادف الذكرى الأولى لرحيل الأديب والشاعر والمترجم الكبير حسين حسن. تلك الزهرة التي نبتت وارتوت مع رائعين كثيرين زاملتُهم في حديقة اسمها مجلة (الإذاعة والتلفزيون).

    هناك تعرفتُ عليه في بداية سبعينات القرن المنصرم، ورافقتُه سنواتٍ عديدة في إبحارٍ لم يخلُ من عواصف أنهكتْ جسَده النحيل، لكنها لم تنلْ من طيبته وإبداعه وصبره.

   وبعد فراق طويل ترتَّب بسبب ابتعادي عن الصحافة في مطلع التسعينات، التقينا في أكثر من مكان. جمعتنا المصادفة، مرة في وضعٍ أثارَ شجونَنا نحن الاثنين، قبل أنْ يلتمَّ شملُنا من جديد إثر عودتي الى ديار المهنة في ربيع 2003، لنواصل في جريدة (الصباح) ثم (الصباح الجديد) طريقاً بدأناهُ معاً في زمن لا تمحوه الذاكرة..

  بدا مرهقاً، كئيباً أكثر من أي وقتٍ مضى، لكنَّ روحه لمَّا تزل تحتفظ بجمال مُمَيّز عرفته لدى (أبي رشا) أيام شبابنا المليء عنفواناً..

   ويوم صافحته مودعاً الجميع قبل مغادرتي العراق. قال كلمتين بالانجليزية ولم يضف اليهما شيئاً: take care، وكأنه يُذَكِّرُني بما كنا عليه وأين أصبحنا، وأنّ علينا أنْ نعيش قدرنا كما ينبغي!! ثم جلس متهالكاً على مقعده القريب في مقر آخر جريدة عملت بها في العراق، حيث القيتُ عليه نظرة أخيرة، تبقى تذكّرني بالمرة الأولى التي شاهدت فيها زهرة ذبلت قبل الأوان.. لكنّ عطر ذكراها يعيش معي في كل زمان..

     وفيما يلي سطور كتبتها عن صديقي الجميل الراحل، ما إنْ سمعتُ بالنبأ الحزين في العام الماضي..

       حسين حسن.. باي كلماتٍ ارثيك؟

———————————————————————————————————————————رياض شابا

    من اين لي ان اجمع ما يكفي من كلمات أرثيه بها؟

  وهل من طاقة لي بعد لرؤية نجوم تتهاوى من سماء عراقية ظلَّلَتنا ذات وقت مستقطعٍ كنا نسرق خلاله ساعات السعادة من محطات عُمْرٍ رَحَل؟

   ما من مناسبةٍ أو مصادفةٍ أو سطورٍ أو وقفةٍ اتذكَّر فيها مجلة “الإذاعة والتلفزيون” أو اذْكُرها، الا ووجه حسين حسن يقفز أمامي ببسمته التلقائية الصادقة، وبلمعة عينيه التي تحاكي البحور الصافية، وبهدوئه الذي يشبه النسيم الخافت

   بالأمس.. وفقط قبل شهور، كنتُ وأنا أخطُّ الكلمات دموعاً في رحيل شوكت الربيعي، تذكّرت كيف أننا اصطحبناه سيراً على الأقدام فوق جسر بغداديّ من الكرخ الى ركنٍ قصيّ في الرصافة، أو الى مكان منزوٍ من مساءات الصالحية، نقصُ فيما تبقى من الليل، بقية أحلامنا وأمالنا المؤجلات..

   قريبان من بعضنا، بل كنا جميعا كذلك في تلك المجلة-المدرسة. أستعين بزملاء عدة كي اكمل مهمتي. يوسف عبد المسيح ثروت، حسين عجه، سهيل سامي نادر، فالح عبد الجبار، زهير الجزائري، أو أي واحد يفوقني في لغة اجنبية اتعامل معها باستمرار.

   لكنّ أكثر من أُهرعُ اليه، يكون حسين حسن. أُقاطعه في أية لحظة من انشغالاته من دون تكلف أو “بروتوكول“:

  “هاي الكلمة شنو معناها حبيبي ابو علاوي الوردة؟

   يرفع رأسه عما هو فيه، ليسعفني في لحظة حرجٍ وأنا أترجم نصاً لأغنية بالإنجليزية شائعة، كي أضعها في زاويتي الموسيقية لعدد جديد. ثم أشكره وأنا اتفرّس في وجهه البريء الجامد في أغلب الأحيان، فأراهُ طفلاً كبيراً يخفي وراءه الكثير من قلق ووجع لا أدركُ سرَّهما بسهولة..

     وليس سراً ، وهذا شأنٌ يعرفه جميع أصدقائه والمقرّبين إليه، أنه عاش زمناً شقياً، لم يرحم روحه المفرطة في الطيبة وجسمه الذي أكله النحول وعنفوان إحساسه المبدع!

   “نعلة عليكم .. ليش تأخرتو؟!”!!

    يرفع ذراعه دلالة الانفعال، ويلوّح بقبضته في الهواء، ونضحك نحن، لأننا نعرف أنه إنما يصطنع الغضب، ولأنه لا يعرف ماذا يكون الغضب، ولا من أين ياتي أصلاً.

    يفعل ذلك وهو  يستقبلنا في الباب ليلة عرسه!.. ولعلها الفرح الحقيقي الوحيد الذي عاشه في حياته وعشناه معه حاملين طقوسنا وأجواءنا حتى الفجر في بيته البعيد الذي ما عدت أذكر أين من بغداد التي تحتضننا جميعاً رغم  “بيوتنا” المتناثرة.

    تمضي السنوات، مسرعة تارةً، وبطيئة في أخرى، ولا نعرف كيف؟ المهم أنها “تمشي”. نتبادل تحايا الوداع ليلاً لنلتقي في النهار التالي، في سبعينات هي الأسعد في أعمار الكثيرين.

   لكن سنوات الحرب وما بعدها تجعل مدة الفراق تطول وتطول.. وأفقد انا أثرَ حسين حسن وعشرات آخرين يوم انتزعتُ نفسي من دنياي الصحفية، حتى يأتي صباح شتائي أعثر فيه على (ابي رشا) في شارع المتنبي مرتدياً دشداشة بنية غامقة، يرتِّب كُتبَه على طرف من رصيف بارد، بينما أضع أنا  “شليفاً” أي “كيساً” تحت إبطي، وأحمل حقيبة على كتفي ملأى بـ”ضَبّات” فلوس لا أجلب بها الا القليل للمحل الرياضي الذي أديره.

  يومها، ظننت أن الفطور الذي أصر على أنْ يدعوني إليه في ركن شعبي نحبه جميعا من منطقة الرصافي، سيكون اللقاء الأخير مع حسين حسن، الا أن انتظاري لم يطل قط، فما إنْ جاء صيف 2003 حتى التقيته مجدداً في جريدة “الصباح” ومن بعدها ” الصباح الجديد”..لأكتشف أنّ علاقة قربى تربطه بالراحل اسماعيل زاير رئيس التحرير، وهو أمرٌ كنتُ أجهله رغم وجود ابراهيم شقيق الأخير معنا في المجلة لمدة ليست بالقصيرة.

   وفي المكانين، في الجريدتين، ظلّت طاولته قريبة من طاولتي كما في الأيام الخوالي لمجلة “الاذاعة والتلفزيون”.. خطوات وأقدام فقط تفصل بيننا، لتتحول الى آلاف الأميال بعد زمن قصير.

     دائما السنوات عمرها قصير مع من نحب، وفوق الأرض التي نحب..

   في السنوات الأولى من اغترابي، أسأل عنه ابن شقيقته زميلنا (الدكتور) واثق صادق عندما نتكاتب في فتراتٍ متباعدة بهدف الاطمئنان عليه.. ثم ينقطع التواصل بيننا، مثل صلاتٍ كثيرة تقطَّعت في زمننا الصعب، لكنّني اتذكر أنني قلتُ له وللمرة الاخيرة: سَلّم لي على خالك حسين!

                      

مقالات ذات صلة