مقابلات

د. مليح لـ”برقية”:  كان ابراهيم صالح شكر يهرب من الوظيفة ليطلب امتيازاً لإصدار صحيفة جديدة!!

                                     الجزء الرابع والأخير  

         قوبِلتْ وقائعُ ثلاثة أجزاء سبق نشرها من مقابلتي مع الصحافي الرائد، والأكاديمي، الباحث في تاريخ الصحافة العراقية د. مليح ابراهيم صالح شكر، بكثير من الترحيب، لاسيما في أوساط الصحافيين، والأكاديميين الذين أكدوا  أنّهم عرفوا أشياءَ كثيرة لم يكونوا قد اطعلوا عليها من قبل، ولنا الأمل في أنْ يكون الجزء الرابع في سياق ما قدمناه خلال أربعاءات، أو رأربعاوات الأسابيع الماضية. والتزاماً بوعدي للقارئ، أترك مِسْك الخِتام في تقديم آخر أجزاءِ المقابلة، للزميل الصحافي المترجم الأستاذ سعدون الجنابي…يقول:      

      “عند تأسيس وكالة أنباء العراق، أو ما تُعرفُ اختصاراً (واع) نهاية الخمسينات، عمِلتْ فيها مجموعةٌ من الأساتذة الصحفيين والمترجمين عالي الكفاءة والمهنية. و بمرور السنين توجّب على (واع) أنْ يكون لديها مندوبون يعملون في عواصم الدول لمتابعة مستجدات الأخبار أولاً بأول، حتى قبل أن تنشرها صحف عالمية.

     وتبرز أهمية هؤلاء، ومعدنُهم المهني، وكفاءتهم العالية، عندما يكون العراق في حالة حرب، ففي مثل تلك “الحال الطارئة”، يتوجّب أن يعملَ مندوبو (واع)     24 ساعة في اليوم لاصطياد أية أخبار يُستفاد منها في حرب بلدهم العراق. وفي الثمانينات أثناء حرب الثماني سنوات وحرب الخليج عام  1991 لغاية تقاعدي 1995، برز مندوبون من (واع) في عديد عواصم العالم، وفي نيو يورك بأميركا حيث مقر الأمم المتحدة  وصنع القرار ، برز  هناك مندوب (واع) الزميل الأخ مليح صالح شكر. وكانَ سيلُ تقاريره لا ينقطع ليلاً ولا نهاراً ، خاصة مع فارق الوقت. وأنا عملتُ في صحيفة (بغداد أوبزيرفر)  الناطقة بالإنكليزية، كسكرتير تحرير أخبار لعقدٍ من السنين، وأعرف قيمة ما كان يرسلُه الأخ أ. مليح  والإخوة الآخرون من مندوبي (واع) الأكفاء على مدى ثلاثة عقود. و في الظلّ، يبقى صحفيو وكالات الأنباء الذين تملأ أخبارُهم الصحفَ، فالمعتاد، أنْ لا تُذيّل الأخبارُ بأسمائهم، إلّا في التقارير الموسعة التي تنشرها وكالاتهم”.

       بقي أنْ أدعكم -أحبّتي القرّاء- مع تفاصيل الجزء الرابع والأخير، حيث يستكمل د.مليح إجابته عن السؤال الثالث من أسئلة المقابلة التي ناهزت كلماتُها “11000كلمة”، أي أنها بسعة ربع كتاب. الشكر الجزيل لزميلنا العزيز على ما بذل من جهدٍ جهيد، يؤكّد إخلاصَه المُثمر لبحثه المستدَام في تاريخ الصحافة العراقية..يتابع د. مليح قائلاً:    

      وفي العاصمة التقى وزير الداخلية عبد المحسن السعدون الذي أبلغ والدي بأنْ لا سبيل لقبول استقالته ، واستحالة اعادة صحيفته الناشئة الجديدة الى الصدور، لكنه ترك له الخيار الوظيفي في أي لواء من ألوية العراق يرغب بالانتقال اليه بدلاً من الحلة، فاختار ابراهيم لواء ديالى على مقربة من صديقه المتصرف علي جودت الأيوبي، واعتبرت وزارة الداخلية مغادرته الحلة نقلاً وليس استقالة.

    لكنَّ الوالد عاد مرة ثانية الى مغادرة الوظيفة فكتب في 6 حزيران 1925 استقالته من وظيفة مدير تحريرات لواء ديالى بحجة أنّ لديه ظروفاً تمنع عليه القيام بالوظيفة، وقبلت وزارة الداخلية الاستقالة، ليقوم في اليوم التالي 7 حزيران بإصدار العدد رقم 30 من الناشئة الجديدة بالرغم من أن قبول استقالته لم يكن قد صدر رسمياً بعد، وملأ هذا العدد بمقالات كتبها كلها بنفسه، ومنها مقاله المشهور ثلثمئة وثلاثون يوماً ليتحدث فيه عن أيام اشتغاله موظفاً حكومياً، ومقالات أخرى هاجم فيها توظيف غير العراقيين في الدوائر الحكومية، ومنهم بحوشي في وزارة المالية، وساطع الحصري في وزارة المعارف، وغيرهم من الأتراك والهنود والأرمن. وكان هذا العدد من صحيفة الناشئة الجديدة آخر عدد لها، فعطلتها الحكومة.

    ووافقت وزارة الداخلية بكتابها رقم 15424 بتاريخ 14 حزيران 1925 على الاستقالة، وكان ابراهيم قد عاد في نفس يوم استقالته 6 حزيران الى بغداد، وتمكن من إصدار عدد جديد من جريدته الناشئة الجديدة ، فأصدر في 7 حزيران 1925 ، عدداً حرر مقالاته كلها، كما ذكرنا آنفاً، ومنها مقاله ثلثمئة وثلاثون يوماً التي قضاها موظفاً في بداية حياته الوظيفية.

    ونشر في الصفحة الثانية حقله المعلوم والمجهول ، وبتوقيع عدو الباطل ، هاجم فيه الحكومة لترفيع الموظف الأجنبي المستر بحوشي الى الدرجة الممتازة، وفي حقل رؤس حراب ، وبتوقيع محارب هاجم ساطع الحصري لأنه أحد الأجانب في الوظيفة العراقية.

    وفي الصفحة الثالثة كتب نظرات سريعة وبتوقيع مستعجل لام فيها وزارة المعارف على استمرارها في بقاء الحصري وغيره من الأجانب، وكتب تحت عنوان جناية السياسة على السياسة، للمقارنة بين جريدة السياسة العراقية آنذاك، وجنايتها على جريدة السياسة المصرية.

     وربما استخدم ابراهيم صالح شكر اسم ولده رياض لتوقيع إحدى مقالاته، فنشر بتوقيع رياض مقالة في الصفحة الرابعة في ظل الدستور ، وفي حقل سماه حقل رياض ، وكان رياض في حينه قد ولد تواً

    وفي الصفحة الرابعة نشر أيضاً على المكشوف ووقعه باسمه الصريح، ابراهيم صالح شكر، حمل فيه بشدة على مَنْ كان يسميهم الدخلاء الثلاثة ، وهم الأرمني، المفتش العام بوزارة المالية، والتركي، المدير العام في المحاسبات العمومية، والهندي، معاون سكرتير بوزارة المالية، وعاب عليهم عدم معرفتهم باللغة العربية، الا بقدر معرفته هو باللغة الأرمنية وكان الوالد لا يعرف شيئاً على الاطلاق من اللغة الأرمنية.

     كما هاجم في الصفحة الرابعة عبد الحسين الجلبي وزير المعارف في وزارة عبد المحسن السعدون المستقيلة. والمعروف أن الجلبي،اشترك في جميع الوزارات التي ترأسها عبد المحسن السعدون، ففي الوزارة الأولى كان وزيراً للمعارف، وفي الوزارة الثانية أصبح وزيراً للأشغال والمواصلات، ثم وزيراً للمعارف مرة أخرى في الوزارتين الثالثة والرابعة.

    وتعدّدت وظائفه بعد ذلك، وكذلك المدن التي عمل فيها في وسط العراق وجنوبه، ومنها مدير تحريرات لواء بغداد، ولواء ديالى، ومدير ناحية شهربان المقدادية حالياً وناحية قزلرباط السعدية حالياً وناحية تكريت، قضاء حالياً ، ثم قائمقاماً في أقضية شهربان بعد أن أصبحت قضاءً، وقلعة صالح والهاشمية والصويرة وسامراء وخانقين والمحمودية والفلوجة والكاظمية، ووكيل متصرف لواء ديالى، ولواء الدليم، وملاحظ، ثم سكرتير المكتب الخاص بوزارة الداخلية. وسافر الى مدن وبلدات في أنحاء العراق بحكم وظيفته أو للزيارة، منها الموصل وكركوك والبصرة والعمارة والرمادي ومندلي، وكتب انطباعاته عنها في الصحف.

     وقضى ابراهيم صالح شكر في الوظيفة بشكل عام، فترة 13 سنة و28 يوماً، قدم خلالها ثلاث استقالات، وحصل على 634 يوماً اجازات أي سنة وعشرة أشهر ، منها 238 يوماً إجازات مرضية و21 يوماً إجازات بدون راتب، ولم توجه له خلالها أية عقوبة.

      وقد تسنى لي تدوين نص اضبارته الشخصية بوزارة الداخلية عام 1962 بفضل موافقة مدير الداخلية العام، هادي الجاوشلي، وهو في حينه الشخص الثاني بالوزارة قبل العمل بنظام وكيل الوزارة، وكان رجلاً كردياً فاضلاً، وشخصية معروفة في تاريخ العراق، ساعدني كثيراً، وأخذني شخصياً الى غرفة الأوراق بالوزارة ليبلغ الموظف المسؤول بالسماح لي الاطلاع على اضبارة ابراهيم صالح شكر، وكانت من ثلاثة أجزاء، وتدوين ما فيها من معلومات، وقمت بذلك بشكل كامل، وهي النسخة بخط يدي التي ما تزال محفوظة عندي حتى اليوم.

   وللتاريخ، يبدو أن أمراضه قد بدأت بوظيفته مديراً لناحية قزلرباط السعدية حالياً التي بدأها في 14 كانون الأول عام 1925، وبقي فيها حتى 25 آب 1926، وبعدها في أيلول تم نقله الى وظيفة مدير تحريرات لواء ديالى.

     ففي قزلرباط حصل بتاريخ 11 تموز 1926 على اجازة اعتيادية لاصابته بمرض الملاريا، وأتبعها باجازة مرضية لمدة شهر، ثم تتابعت الأمراض ليصيب الروماتزم الحاد كتفه، والقرحة جدار المعي، والسكري، وغيرها، كان يقول عنها انه يحمل أمراضاً عجز الطب عن علاجها .

   وباشر ابراهيم صالح شكر في 11 أيلول وظيفته المنقول اليها في مديرية تحريرات اللواء. وبقي فيها ثمانية أشهر، حصل خلالها على اجازة طبية لمدة 15 يوماً، وعاودته في 22 شباط 1927 الحمى الحادة فحصل على اجازة لمدة 15 يوماً أخرى استناداً الى التقرير الطبي الصادر من الطبيب المركزي في بعقوبة، ثم مددها مجدداً بتقرير طبي وقعه الدكتور استاوري في البصرة، دون أن ينسى معرفة دوافع سفره الى البصرة وهو مريض، ولكنه بالتأكيد حاول إصدار جريدة في البصرة باسم الثغر وقدم طلبه بهذا الشأن الى وزارة الداخلية، سوية مع طلب ثاني لإصدار صحيفة في بغداد، باسم الزمان .

    وتعددت صداقات ابراهيم وتنوعت، ومنهم رؤوساء حكومات ووزراء وأدباء وصحفيين، وكان أقربهم اليه رئيس الوزراء لثلاث مرات، علي جودت الأيوبي، والسياسي يونس السبعاوي، والصحفي عبد القادر اسماعيل البستاني، والصحفي رفائيل بطي، والصحفي لطفي بكر صدقي.

     وما تزال بعض أوراقه المحفوظة عندي تحمل توقيع الأيوبي عندما كان رئيساً للوزراء، وهو الذي أهداه القلم الذي كتب به سلسلة مقالاته المشهورة قلم وزير ، وكذلك بضعة رسائل موجهة اليه من لطفي بكر صدقي، وكذلك رسالة واحدة من بطي من معتقل العمارة عام 1941.

لطفي بكر صدقي

   وقد قابلت علي جودت الأيوبي عديد المرات في الستينيات في منزله بالوزيرية، وأكرمني بكل ذكرياته عن والدي. وقال لي ان الوالد كان يهرب فجأة من الوظيفة عندما كان يعمل معه وهو متصرف في لواء الحلة أو لواء ديالى، حالياً محافظة بابل، ومحافظة ديالى ، وان الوالد في اجازة متى أراد ذلك ، ويذهب الى بغداد ليقدم استقالته الى الوزارة مباشرة، ثم يطلب امتيازاً لاصدار جريدة.

    وللتاريخ، لابد من القول بأن علي جودت الأيوبي عندما كان نائباً لرئيس الوزراء بحكومة جميل المدفعي، التي تشكلت في 5 آذار 1953 بعد استقالة حكومة الفريق نور الدين محمود العسكرية، قد أحاطنا نحن أبناء ابراهيم صالح شكر بعناية خاصة، روى لي تفاصيلها، خالي عبد الوهاب عبد الرزاق الفرضي، وقال انه كان ذات يوم في فترة الغذاء من عمله طباعاً في احدى مطابع شارع المتنبي، وسمع بمن يناديه، ولما التفت الى مصدر الصوت، اكتشف انه معالي علي جودت الأيوبي الذي كان مكتبه في رئاسة الحكومة بالقشلة، جوار شارع المتنبي. وسأل الأيوبي خالي عن مصير أبناء ابراهيم، وفهم منه أنهم يعيشون في كنف سيدات العائلة المعلمات في قضاء عنه بلواء الدليم ، الأنبار حالياً، فطلب الأيوبي من الخال موافاته الى مكتبه في اليوم التالي، وأملى عليه صيغة عريضة باسم أخي باسم الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر، ولم يغادر خالي مكتب الأيوبي في ذلك اليوم الا ومعه كتاب بتاريخ 21-4-1953 وصادر من ديوان رئاسة مجلس الوزراء وبتوقيع الأيوبي، موجهاً الى أخي باسم، يقول الأيوبي فيه إن شاء الله سأسعى لإيجاد طريقة لكم لتأمين معيشتكم على قدر الامكان .

      والأيوبي في هذا التاريخ كان نائباً لرئيس الوزراء في حكومة جميل المدفعي، ومن أعضائها نوري السعيد وزيراً للدفاع، وتوفيق السويدي وزيرا للخارجية، وأحمد مختار بابان وزيراً للعدلية وغيرهم، وتولى الأيوبي رئاسة الحكومة ثلاث مرات في حياته ، هي

من 27 آب 1934 ــ 4 آذار 1935

من 10 كانون الأول 1949 ــ 5 شباط 1950

من 20 حزيران 1957 ــ 15 كانون الأول 1957

    وقد أوفى الأيوبي بوعده، فمنذ ذلك الحين أصبح لنا الثلاثة، أبناء ابراهيم صالح شكر، راتباً تقاعدياً ظل يصرف لنا حتى عام 1961، حينما صار أخي باسم ضابطاً في الجيش العراقي، فانقطع الراتب التقاعدي لأن الأخ الكبير أصبح معيلاً لنا وفقا للقوانين.

    وقد ضاقت السبل بالوالد عام 1928 نتيجة ملاحقة وزارة عبد المحسن السعدون لصحفه، وبعد تعطيلها اثر صدور العدد رقم 44 من جريدته الزمان ، وحاول رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون رشوته بعشرة اشتراكات في الجريدة لكل قضاء من أقضية العراق مقابل سكوته عن الوزارة والتوقف عن مهاجمتها، لكنه رفض، فضربته الحكومة بسلاح التعطيل، ووضعت بهذا الاجراء نهاية لجريدته التي لم تعد الى الحياة ثانية.

      وسافر غاضباً الى سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر بجواز سفر ما زال محفوظاً هو الآخر عندي، وينص على ان مهنته هي الصحافة، ويحمل أختاماً للسلطات الفرنسية على الحدود مع سوريا ولبنان، وأختاماً لحكومة فلسطين، وأختاماً وطوابع عراقية ومصرية. وتوطدت علاقاته مع الأدباء العرب والسياسيين في تلك الأيام، وقد ذكرهم ابراهيم جميعاً في مفكرته لعام 1928 وما دار بينه وبينهم، والتقط معهم صوراً ما تزال بعضها محفوظاً عندي وهي تحمل اهداء أصحابها. ومنهم في سوريا ولبنان، معروف الأرناؤوط صاحب جريدة الفتى العربي ، والأديب صهيب العطار، وفوزي الغزي، وهاشم الأتاسي، والشاعر فخري البارودي، والشاعر اللبناني أمين نخلة، ونجيب الرئيس صاحب جريدة القبس ، ورشيد الملوحي محرر جريدة العرب ، وفائز الخوري، وأدمون رباط، وعبد اللطيف العسلي، والأمير حسن الأطرش، وقابل الأخطل الصغير بشارة الخوري في بيروت.

أما في شرقي الأردن وفلسطين فقد التقى مع الأمير عبد الله عدة مرات، وسجل أراء الأمير في الانكليز والصهيونية، ومصطفى وهبي التل، وعارف العارف، والتقى في حيفا مع الشيخ كامل القصاب الذي أوصله في اليوم التالي الى محطة قطار حيفا ليسافر الى مصر عبر القنطرة على قناة السويس، وفي عودته الى القدس، قابل حسام الدين الخطيب صاحب جريدة جزيرة العرب ، وزار الحرم الشريف. وتوطـدت علاقاتـه في مصر مـع محمد علي الطاهـر صاحـب جـريدة الشورى ، ومع أحمد زكي باشا، وتوفيق دياب،وخير الدين الزركلي، وسامي السراج، وأسعد داغر، ورشيد الخوجه، وزار عزيز المصري في منزله في عين شمس وقضى عنده نهاراً كاملاً، وحضر حفل حزب الوفد في ذكرى الجهاد الوطني، واستمع الى خطبة النحاس وقصيدة الشاعر عبد المحسن الكاظمي، وسجل في مفكرته انطباعاته عن المطربة أم كلثوم. وكان الوالد مواظباً على حضور المجلس الأدبي في مقهى الشط ببغداد، مع جميل صدقي الزهاوي، وعبدالحسين الازري، ورشيد الهاشمي،ومحمد الهاشمي وابراهيم حلمي العمر، وعبد الرحمن البنا، وصادق الاعرجي، وعبد الجبار صدقي، وعباس العبدلي، ورافائيل بطي، ومحمد أحمد السيد،وحسين الرحال، وعوني بكر صدقي، وصديق الخوجة، وناجي القشطيني.

   **”برقية”: اعتماداً على تخصّصكَ في دراسةِ تاريخ الصحافة، وخبرتك المهنية العاليةِ واطّلاعك على تجارب الغرب الصحفية دراسةً ومعايشةً، هل تعتقد أن دورة الحياة ستُرجع للصحافة الورقية ازدهارها مجدداً، وفي حالتي الإجابة ، ما هي المؤشرات والركائز ؟

    ـــــــــــــــــــــ د. مليح: عندما اكتُشف التلفزيون ظن المتابعون أن عهد الراديو قد انتهى!. ولما أكتشف التلفزيون الملون ظن المتابعون أن عهد الصحافة قد انتهى!. وفي الحالتين لم ينتهِ الراديو، ففي الولايات المتحدة وحدها مثلا اكثر من ألف محطة راديو. أما التلفزيون الملون فلم يتمكن من القضاء على الصحف اليومية والاسبوعية وما تزال تصدر في أنحاء العالم.

   واليوم يرى المتشائمون ان التكنولوجيا والكومبيوتر والفيسبوك وغوغل وإكس وغيرها ستقضي على الصحف المطبوعة ، ولكنهم لم يتمكنوا من إثبات ذلك .

  هنالك دول تغرقها الصحف المطبوعة مع أنها متقدمة في التكنولوجيا ومنها الصين والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا ودول كثيرة اخرى ومنها العراق الذي يغرق في الصحف المطبوعة الورقية مع انه يغرق بالمواقع الإلكترونية!

    قد يتصور البعض ان موضة منصات التواصل الاجتماعي ستكون بديلاً عن الصحافة الورقية ، ولكنهم يتجاهلون أن تلك المنصات أصبحت البوابة لأوسع حملة أكاذيب والأخبار المزيفة تثير الضجر حتى من تكرار أصدقاء نشرها على صفحاتهم او يرسلونها لك عبر الموبايل دون أن يدققوا في مصدرها او صحتها ومصداقيتها. 

    إذاً فهذه المنصات غير موثوقة لا يمكن ان تحل محل الصحف الورقية التي فيها من يدقق كل ما ينشر من المندوب والمحرر وسكرتير التحرير ورئيس التحرير. فلن تنجح وسائل التواصل هذه في إزاحة الصحافة ولن يقوم الذكاء الاصطناعي بذلك ايضاً.

  وأحدث مثال على ديمومة الصحافة الورقية جاء اليوم ،الاثنين 28 تشرين الأول 2024 حين ألغى أكثر من 200 ألف شخص اشتراكهم في جريدة واشنطن بوست احتجاجا على التخلي على تقليد قديم بتبني الجريدة أحد المرشحين للرئاسة الامريكية.

    هكذا نرى أن هذه البلاد التي أصبحت التكنولوجيا فيها اساساً في نواحي الحياة، مازال سكانها يستخدمون الصحافة الورقية التي تصلهم الى منازلهم ومكاتبهم.

   **”برقية”: تسعون بالمائة من مثقفي العراق وكتّابه وصحافييهِ وأدبائهِ لم يعودوا يتقاضون أجوراً عما يكتبونهُ، أما مؤلّفو الكتب فيطبعونها في الأغلب على نفقتهم وأحيانا على حساب قوتِ عيالهِم. كيف تنظر إلى هذه الحالة؟!

   ـــــــــــــــــــــــــ د. مليح: لا أتفق معك في أن مثقفي العراق وكتابه وصحفييه وأدبائه لم يعودوا يتقاضون أجوراً عما يكتبونه…إلى آخره. ببساطة اقول ان اصحاب الصحف ودور النشر يمارسون التجارة فقط ،وهم الذين لا يدفعون وليس المثقفين من لا يتقاضون أجوراً!

    قبل سنوات إتصلت بناشر عراقي يقيم خارج العراق أستفسر عن شروط النشر عنده، فإذا به يطلب مني 800 دولارٍ ليطبع ويوزع كتابي، فاضطررت لطبع ذلك الكتاب في دولة أخرى مقابل 50 نسخة وضمان توزيع الكتاب في بغداد وأربيل. ذلك الناشر للمفاجأة كذب علي، فلم يسلم لي نسخي الخمسين واكتفى بعشر نسخ !! ولم يوزع كتابي لا في بغداد ولا في اربيل!. هكذا يجري الاتجار بالثقافة والأدب والصحافة من قبل أشخاص لا يهمهم سوى الربح على حساب المؤلف.

    **”برقية”: أختتم أسئلتي برجاء أن تُحدّث قراءنا، وهم بمئاتِ الألوفِ عن (واع) الوكالة العراقية التي كنتَ أحدَ أقطابِها. وماهية الأسباب التي جعلت الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2003 حتى الآن تغفلُ عن أهمية إعادة الحياة إليها، لاسيما أنها موجودة قبل تسلم البعث للسلطة سنة 1968؟

    ـــــــــــــــــــــــــــــــ د. مليح: بعد كل ذلك المجد الصحفي الذي أحاط وكالة الأنباء  العراقية والمدرسة التي تعلم فيها عشرات الصحفيين ،  تعرضت وللأسف للتشويه بعد احتلال العراق عام 2003. ولكي لا أظلم أحداً أريد أن أقول أن تاريخ الوكالة ضاع بين ادعاءات بعض من لم يكن كما حاول تكراره.

    باختصار شديد، شارك بعض مثقفي المارينز في جهود الحاكم الامريكي بول بريمر لاغتيال وكالة الانباء العراقية .وكنت أول من اعتبر (واع) شهيدة بعد أسبوعين من الغزو في نيسان 2003 وراح آخرون يستخدمون هذه الصفة وكأنها من مصطلحاتهم!

    مرة أخرى أكرر أن (واع) تعرضت للظلم بعد الاحتلال عندما نسب البعض لنفسه تأسيسها بينما الحقيقة الثابتة قانونياً وتاريخياً ان الدكتور فيصل السامر وزير الإرشاد وأحمد قطان خبير القانون الذي كتب قانون إنشاء الوكالة وكذلك نظامها الداخلي ولذلك أصبح أول مدير عام لواع.

-انتهى –

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  ولدت عام 1942 في محلّة “رخيته” بالكرادة الشرقية في وقتٍ كان فيه الوالدُ عندما يستأجر بيتاً لا نبقى فيه طويلَ وقتٍ، حتى أجبرت العائلة بعد وفاة الوالد في مايس1944 على العودة الى محلة “قهوة شكر بالرصافة .

    لابد من ان يكون عمري حينئذ قد لفت الإنتباه ! . كنتُ ابن عامين عند وفاة الوالد الذي لم يكد جثمانه يوارى الثرى حتى لحقته الوالدة بعدة شهور ، ولكي تكتمل الفاجعة، توفي شقيقنا الأكبر رياض عام 1945 في لبنان ودفن هناك.

    تكفلت جدتنا لأمنا بتربيتنا ، وكنا ثلاثة ، أنا الأصغر بينهم ولم يكنْ لهذه الجدة الفاضلة أي مورد مالي في السنوات الاولى من حياتنا عندها.

   وتفضل نائب رئيس الوزراء علي جودت الأيوبي عام 1954 بتخصيص راتب تقاعدي لنا الثلاثة كان عوناً لجدتنا في رعايتها لنا، حتى عام 1961 عندما أصبح شقيقنا الأكبر ضابطاً في الجيش فانقطع ذلك الراتب التقاعدي لأنه اصبح معيلاً حسب القانون .

 التحقت الجدة مع بناتها اللواتي أصبحن معلمات في قضاء عنه بلواء الدليم، محافظة الأنبار لاحقا ،حوالي عام 1945 وكان من الطبيعي أن تأخذنا معها، وهنالك في هذه البلدة الغافية على ضفاف الفرات قضيت طفولتي وبعض سنوات شبابي، ودرست في مدارسها الابتدائية والمتوسطة.

    وعدنا عام 1961 الى بغداد فالتحقت بالصف الثالث بمتوسطة المثنى ثم بثانوية الاعظمية ،وفي عام 1964 التحقت بقسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة بغداد حال افتتاحه لأول مرة في تاريخ العراق.

    وكُنّا أول مجموعة تضم 48 خريجاً درس الإعلام أكاديمياً وتوزعنا على أجهزة الإعلام لكني كنت قد حصلت من خلال علاقاتي الحزبية في صفوف ما كان يسمى البعث اليساري على وظيفة مراسل الوكالة العربية السورية للانباء “سانا” فسافرتُ الى دمشق ووقعت عقد عمل  براتب معتبر لأكون مراسلًا في بغداد.

وبقيت مع “سانا” حتى تشرين الثاني عام 1970 عندما أطاح وزير الدفاع حافظ الأسد بنظام الحكم الذي كنتُ من أنصاره فكتبت استقالتي لألتحق بعد أيام بوكالة الانباء العراقية.

    وهكذا عشتُ مع (واع) كل سنوات حياتي المهنية، وعملت فيها مندوباً ومحرراً ورئيس محررين وسكرتير تحرير ، ومراسلاً في القاهرة أعوام 1976 – 1977 وقد تعرضت للإبعاد من مصر  مع مئات الصحفيين والدبلوماسيين وغيرهم من العراقيين والعرب الآخرين.

     ومن بعد ذلك ذهبتُ إلى الجزائر مراسلاً لواع وقضيت فيها سنتين .

ألتحقت عام 1982 بجامعة أكستر في بريطانيا للحصول على شهادة الدكتوراه وفي عام 1987 عدت الى بغداد بشهادتي العالية.

    وفي مركز (واع) توليت لبعض الوقت مهام رئيس قسم الأخبار الداخلية المسؤول عن كل المندوبين في بغداد وكل مراسلي الوكالة في المحافظات العراقية، ثم أصبحت سكرتير التحرير لقسم المكاتب الخارجية المسؤول عن كل المراسلين في العواصم العربية والأجنبية.

وفي عام 1989 سافرتُ إلى نيويورك مراسلاً لواع لدى الأمم المتحدة وقضيت فيها سنوات لعدم قدرة العراق على استبدالي بسبب قطع العلاقات مع الولايات المتحدة  وحتى  احتلال  العراق في نيسان عام 2003.

   بعدها اشتغلت لبعض الوقت صحفياً في بعثة عربية في نيويورك حتى انتهى عقدي معهم .

   وما أزال أقيم في ضواحي نيويورك مع عائلتي وأبنائي الثلاثة. واتقاضى عن خدمتي في (واع) التي امتدت لحوالي ثلاثين عاماً راتباً تقاعدياً شهرياً  لا يكفي لشراء خبز ويصلني دورياً من بغداد.

  ولي ثلاثة مؤلفات في تاريخ الصحافة هي:

تاريخ الصحافة العراقية في العهدين الملكي والجمهوري 1932 -1967

منشورات الدار العربية للموسوعات ، بيروت، لبنان، 1910

دفاتر صحفية عراقية ، البعث والصحافة، مرحلة عام 1968، دار البداية، عمان، الاردن ،2018.

– صفحات من تاريخ العراق ، تراث الكاتب الصحفي إبراهيم صالح شكر، دار البداية ، عمان ، الاردن ، 2018

مقالات ذات صلة