د. مليح لـ”برقية”: الرائد الصحافي ابراهيم صالح شكر تعرّض لتعسّف العثمانيين وناهضَ الاحتلال البريطاني..
طبقاً لوعدي في الجزء الثاني، استعنتُ هنا بأستاذ الفلسفة، والصحافي الكاتب المعروف الدكتور طه جزاع، ليتولّى تقديم الجزء الثالث من مقابلتي مع أستاذنا الصحافي، الباحث في تاريخ الصحافة، الدكتور مليح ابراهيم صالح شاكر .. يقول د. جزاع: “توثقت علاقتي عبر وسائط التواصل الاجتماعي (الماسنجر والواتساب) بالدكتور مليح ابراهيم صالح شكر خلال السنوات الأخيرة، الى الدرجة التي شعرتُ فيها بأنَّ معرفتنا ليست افتراضية، وأنها أقدم بكثير من تاريخ تواصلنا الإلكتروني على الرغم من أننا لم نلتقِ في الواقع لقاءً مباشراً، ولم يجمعنا يوماً أيُّ عملٍ صحفي أو إعلامي .
في السنوات هذه، تعرفتُ على العديد من المزايا والسمات الشخصية لمليح صالح شكر ، كما تبيّنتُ وجهة نظره في العديد من القضايا وفي مقدمتها آراؤه الجريئة عن الصحافة العراقية وتاريخها التي قدم فيها ثلاثة كتب مهمة أرخّت بموضوعية لهذا التاريخ المتشابك، فضلاً عن الكم الهائل من المعلومات الموثقة استقاها من التواريخ المكتوبة والوثائق ومن تجربته الشخصية الطويلة في ميدان العمل الصحفي ، بل إنه أول من أرَّخ للصحافة العراقية في حقبة ما بعد 1968 وسرد فيها حقائق غير معروفة إلّا لقلة من الصحفيين، ماراً بالكثير من الحوادث والمواقف والطرائف التي وقعت في تلك السنين بمختلف تقلباتها ومنعطفاتها، كما تحدث بصراحة عن بعض الكتاب والصحفيين وحقيقة ما أدوه من أدوار تجاه زملائهم في العمل الصحفي .
وتدين مكتبة تاريخ الصحافة العراقية المعاصرة بالفضل لمليح صالح شكر الذي انجز لحد الآن ثلاثة كتب مهمة، وكتب عشرات المقالات والآراء في ذلك التاريخ، وما زال ينقح ويُصحّح ويضيف ويوثق وينشر بهمة عالية كواحد من آخر الباحثين في تاريخ الصحافة الثقاة الذين يعملون وفق منهجية رصينة تجمع بين الأسلوبين الأكاديمي والصحفي، ويحرصون على نشر الوثائق التي تدعم عملهم، وتؤكد أقوالهم بصورة قاطعة لا تحتمل التشكيك، أو الطعن بمصداقيتها ، كما تحتل الصورة الفوتوغرافية – بكونها وثيقة مهمة – حيزاً مهماً في كتبه ومقالاته حول المراحل المتعاقبة التي مرت بها الصحافة العراقية .
في اغترابه عن الوطن منذ سنوات طويلة، وعلى الرغم من اعتلال صحته بين حين وآخر، يجالد مليح ابراهيم صالح شكر من أجل أن يتم عمله المُجهِد عن تاريخ الصحافة العراقية، فهو دائم المتابعة والسؤال عن خفايا ذلك التاريخ وأسراره ورجاله ومنعطفاته وتحوّلاته، ويعمل ذلك بجهد فردي، وفي غياب أي دعم من أي مؤسسة أو جهة داخلية أو خارجية، فالذي يهمه أن يكتب الحقيقة من دون تزويق، أو اخفاء مُتعَمَّد، أو مجاملات يمكن لها أن تُحرِّف الوقائع، وتفسد أي عمل يُراد له أن يبقى مرجعاً للأجيال”.
وإليكم تفاصيل الجزء الثالث من المقابلة:
**”برقية”: لوالدكم الرائد الصحافي الوطني الكبير ابراهيم صالح شكر دور (يستحق أن يُروى للأجيال) بتعبير أستاذنا الصحافي الرائد الكبير محسن حسين، فكيف تتحدث عن هذا الدور، مذكّراً بأبرز عنواناتِه، ومحطاتهِ؟.
ــــــــــــــــــــــــــــ د. مليح: كان زهير أحمد القيسي أول من نشر عام 1962 في جريدة الاخبار مقالة، عدَّ فيها ابراهيم صالح شكر كاتباً صحفياً اختص بكتابة العمود الصحفي .وأكد المرحوم زهير أحمد القيسي ، وهو وأنا بالمناسبة أولاد خالة، رأيَهُ عديدَ المرات فيما بعد في الصحف التي اشتغل فيها أو كتب لها. ومنه التقط كثيرون من الصحفيين فيما بعد رأيَه ونسبوه لأنفسهم !
وعطفاً على ذكر جريدة الأخبار ، يجب التأكيد هنا على أنّ صاحبها ورئيس تحريرها عام 1962 هو جوزيف ملكون وهو إبن مؤسسها جبران ملكون الذي توفي قبل ذلك العام بسنوات ، وقد ارتكب أحد الكتاب من غير المختصين بتاريخ الصحافة خطأ فادحاً عندما قال إنّ جوزف وجبران شقيقان دون أن يعترض عليه من استمع إليهِ في ندوة عقدت له في خارج العراق لأن مستمعيه كانوا من غير العراقيين ، وقلة من العراقيين الذين لم يكونوا من ذوي الدراية بتاريخ الصحافة العراقية!
وبسبب اهتمامات الوالد في الصحافة والوظيفة الحكومية قد يجد الباحث في حياته صعوبة في الإحاطة بها. وبإيجاز أقول:
كتب ابراهيم صالح شكر ذات مرة في جريدته الزمان إنه ولد في 8 ذي القعدة عام 1310 هجرية. وقد اختلف الذين كتبوا عنه فيما بعد في تحديد تاريخ ميلاده بالتقويم الميلادي، واستعنتُ بالجداول المدرجة في كتاب (التقويمان الهجري والميلادي لتحويل التاريخ الهجري الى الميلادي)، فكانت النتيجة 24 حزيران 1892، علماً أن الوالد نفسه قد ذكر أكثر من تاريخ لسنة ميلاده، منها 1892 و1893.
ينتسب ابراهيم صالح شكر الى أسرة عراقية عريقة من عشيرة “الكُرْويّة” العتيقة التي ترجعُ الى قبيلة “قيس” العدنانية. وكان والده أحمد صالح الملا شكر، مختاراً لمحلة قهوة شكر، وأمه أمينة، قد حرصا على ولدهما الوحيد ابراهيم بعد ان فقدا أربعة أبناء من قبله، حتى أصبح بعمر 11 عاماً فالتحق بمدرسة الملا جمعة في جامع قهوة شكر، التي كانت تسمى الكتاتيب في مساجد بغداد المشهورة، وتعلّم فيها دروس اللغة العربية والقرآن الكريم، وتلقى أول دروسه عند الملا جمعة، ثم انتقل الى الدروس في مساجد أخرى، فتعلم عند العلامة محمود شكري الآلوسي بجامع الحيدرخانه، وعند عبد الوهاب النائب في جامع الفضل، وفي هذا الجامع كان عبدالكريم العلاف زميلاً له في تلقي العلم، وعند عبد الجليل آل جميل في جامع العاقولية، وعند نجم الدين الواعظ في جامع العادلية، وكان يتلقى العلم في هذا الجامع سوية مع ناجي القشطيني، وتعلم فيها كلها مبادئ النحو والأجرومية والفقه والأدب والبلاغة والقرآن الكريم.
وقبل ان يبلغ عامه العشرين، اجتاح وباء الطاعون بغداد، وقيل إنه كان وباء الكوليرا، فأصاب بيته، وأودى بحياة الكثيرين، ومنهم ثلاثة من أهل داره، هم والده ووالدته وجدته لأمه، ولم يبق الا هو وشقيقته الصغيرة زبيدة.
وفي عام 1915 تعرض لتعسف العثمانيين بسبب حماسته وكفاحه من أجل الاستقلال العربي مما أثار ضغينة شفيق بك والي بغداد الذي أقنع قائد الجيش العثماني بالقبض على ستين ناشطاً في ليلة 3 تشرين الثاني 1915، وتقرر نفيهم الى الأناضول في تركيا، ونقلوهم بالقطار تحت الحراسة الى سامراء، ومنها الى الموصل على ظهر الدواب. لكن المجلس العرفي العثماني استبدل القرار لعدد من المنفيين، الى النفي في الموصل، وقضى ابراهيم فيها أربعة شهور، كان خلالها يكتب لأقربائه ببغداد يطلب مالاً لسد احتياجاته، وقد وثق ابراهيم صالح شكر فترة النفي هذه في سلسلة مقالاته بعنوان حتروش ، وهو صاحب الحمير الذي استخدمه العثمانيون لنقل المنفيين من سامراء الى الموصل.
وبعد عودته من المنفى، وكان ما يزال يرتدي العمامة والجبة، اختاره أهالي محلة قهوة شكر مختاراً، خلفا لوالده، وهي المحلة المنسوبة الى اسم جده، شكر، واشتهر بأنه كان يقدم خدمات المختارية للأهالي دون مقابل، ويرفض أية هدايا.
يقول رفائيل بطي فـي رثـاء نشره بمجلة الأسبوع العدد 20 عام 1953 :
في الموصل رأيت الأستاذ صالح شكر أول مرة وأنا يافع أقرمز الشعر المنثور وبين يدي الريحانيات، وقد نثرت أحزاني على صديقي في مرثاة عنونتها دموع الاخلاص.
ثم يقول في وصفه لابراهيم إن الرجل تتّقد في ذهنه جذوة التحرر، ويتناثر من لسانه شرر الثورة، ومن تلك الأيام السود تعارفنا وربطت الصداقة بيننا . وقد تعرف الرجلان على بعضهما في عام 1915 داخل مكتبة صغيرة في الموصل حينما كان ابراهيم يقضي عقوبة النفي هناك.
وكان أول عهد الوالد بالصحافة في جريدة بين النهرين التي صدرت لأول مرة في 6 كانون الأول عام 1909،لصاحبها محمد كامل الطبقجه لي، وعاشت حوالي ثلاث سنوات، وجريدة النوادر التي أصدرها محمود الوهيب عام 1911، وكتب فيهما موضوعات أدبية. وأصدر ابراهيم منيب الباجه جي، في 25 نيسان1913 1332هجرية ، مجلة الرياحين الأدبية، وأصبح ابراهيم صالح شكر محررها، وأصدر لوحده في نيسان 1913 مجلة أدبية هـي شمس المعارف التي ظهر منها 18 عدد.
وكان الباحث عبدالحميد العلوجي، الذي تقلد عدة مناصب ثقافية في عقد السبعينيات من القرن العشرين، ومنها المدير العام لدار الكتب العراقية، يحتفظ بخمسة أعداد من الرياحين ، كما يحتفظ ناجي القشطيني بالعدد الثاني من شمس المعارف الذي أهداه فيما بعد الى مكتبة المجمع العلمي العراقي.
وأصدر ابراهيم صالح شكر أيضاً، عام 1921 مجلة شهرية جامعة الناشئة مكرساً صفحاتها للأدب العراقي، وكتب فيها عدد من الأدباء المعروفين، أبرزهم محمد رضا الشبيبي، وحسين البياتي،ومحمد بهجة الأثري، وعبدالمسيح وزير، ورفائيل بطي، ومحمد الشماع، وسلمان الشيخ داود، وشكري الفضلي، ومحمد رؤوف الكواز، وعبدالحسين الازري، ومحمود محمد، ونشرت شعراً لجميل صدقي الزهاوي، ومقالات جبران خليل جبران، والمنفلوطي. وأصدر منها ثلاثة أعداد فقط قبل أن تعطلها الحكومة، وأحتفظ بالأعداد الثلاثة منها سليمة في مقتنياتي الخاصة، وتحتفظ المكتبة الوطنية ببغداد بالعددين الاول والثاني.
وعاد عام 1922 ليصدر الناشئة الجديدة ، جريدة أسبوعية جامعة، بدلاً عنها، وبدأ فيها أولى كتاباته السياسية، وتعرضت للتعطيل عدة مرات، احداها بقرار شخصي منه اثر تعرضه لاعتداء مقابل بيت لنج في شارع الرشيد، قيل انه كانت بتحريض من بعض السياسيين. وفي 2 أيار 1924 شارك رفائيل بطي في اصدار جريدة الربيع ، وعمل فيها رئيساً للتحرير، لكن الحكومة عطلتها بعد عددها الأول.
واشترك في الكتابة لجريدة الأدب التي أصدرها محمد باقر الحلي في 7 أيلول 1924، وصدر منها ثلاث أعداد وتوقفت، ثم أعاد كامل السامرائي اصدارها في 6 شباط 1925، واحتجبت، وأعدادها محفوظة لدى مكتبة المتحف العراقي ببغداد. كما كاتب جريدة الفضيلة التي أصدرها عبد الرزاق الحسني عام 1925، وجريدة التجدد لمحمود الملاح عام 1930، وأعدادها وأعداد الفضيلة متوفرة في مكتبة المتحف أيضاً.
وفي 11 تموز 1927، دخل ابراهيم صالح شكر معترك الصحافة السياسية، وأصدر جريدته الأسبوعية الزمان ، وقال في صدر صفحتها الأولى إنها يومية أدبية سياسية اجتماعية انتقادية ، وكان هو صاحبها ورئيس تحريرها في آن واحد. وهو أول من أصدر في تاريخ العراق جريدة بهذا الاسم. وعاشت 44 عدداً، تخللها تعطيل لعديد المرات، مرة بقرار من حكومة جعفر العسكري، وأخرى بقرار من حكومة عبد المحسن السعدون، ومرات أخرى بطلب المندوب السامي البريطاني.
وليس صحيحاً إطلاقاً ما ادّعاه أحد ممّن هم لا اختصاص لهم في تاريخ الصحافة العراقية، أنّ رفائيل بطي كان رئيساً لتحرير الزمان.
وفي الزمان شن ابراهيم صالح شكر حملته السياسية ضد الانتداب البريطاني ومعاهداته وأذناب الانكليز في العراق، ودعا الى حرية التعبير والصحافة والتجنيد الاجباري وطرد الأجانب من الوظائف العراقية، وندد بزيارة الصهيوني الفرد موند لبغداد، منتصراً للطلبة الذين تظاهروا احتجاجاً على هذه الزيارة.
وانتقد في مقالاته، استعانة وزارة التعليم بمدرسين غير عراقيين ليدرسوا تلامذة العراق جغرافية فرنسا ويتركوا جغرافية العراق، ويحدثونهم عن انهار السين والتايمس، ويتركوا دجلة والفرات، وليرووا لهم تاريخ نابليون وبسمارك، ويدعوا تاريخ عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص .
وفي 29 كانون الأول عام 1929 اشترك مع صديقه عبد القادر اسماعيل البستاني في إصدار جريدة المستقبل، وأخبرني البستاني، فيما بعد، بأنهما أصدرا تسعة أعداد فقط.. كان البستاني صاحب الامتياز لأعدادها الثلاثة الأولى، وأصبح ابراهيم صاحب الامتياز لأعدادها الستة الأخيرة.
وفي عام 1930 كتب مقالاتِ مجلة “الوميض” التي أصدرها لطفي بكر صدقي في 28 تشرين الأول 1930، ثم أصبح رئيساً لتحرير جريدة الأماني القومية التي أصدرها عبدالوهاب محمود، وكان عبدالرزاق شبيب مديرها المسؤول، ولم يصدر منها سوى عددها الأول في 30 تشرين الأول 1931، وعطلتها الحكومة، وأصبح كلا من محمود وشبيب في فترات لاحقة من تاريخ العراق نقيباً للمحامين.
وبشكل عام كتب ابراهيم صالح شكر في صحف، أصدرها بنفسه، أو ترأس تحريرها، وهي حسب تواريخ صدورها، شمس المعارف 1913، والرياحين في العام نفسه، ومجلة الناشئة 1921، وجريدة الناشئة الجديدة 1922، والربيع لرفائيل بطي 1924، والزمان 1927، والمستقبل لعبد لقادر اسماعيل البستاني 1929، واليقظة لسلمان الصفواني 1932، والتجدد لمحمود الملاح 1930، والأماني القومية لعبدالوهاب محمود 1931. وبعضها لم يصدر منها سوى العدد الأول لتعالجها الحكومة بالتعطيل.
وبلغ مجموع ما أصدره من الصحف للفترة من بداية الحكم الوطني 1921 وحتى انتهاء الانتداب البريطاني 1931، حوالي تسعين عدداً من جميع الصحف التي حاول اصدارها، وكانت الزمان أطولها عمراً، وصدر منها 44 عدداً في فترات بين تعطيل وآخر.
وكتب في صحف أخرى، أشهرها الاستقلال لعبد الغفور البدري، ومجلة الوميض للطفي بكر صدقي، و البلاد لرفائيل بطي، وغيرها. وكان يهاجم باستمرار وجود غير العراقيين في الوظائف الحكومية الجديدة، ويدعو الى استبدالهم بالعراقيين، ويعيب على غيرهم بأنهم كانوا من مناصري الطورانية وجمعية الاتحاد والترقي، واستبدلوا جلودهم عندما قامت الدولة العراقية واصبحوا يدعون بأنهم عرب أٌقحاح. ولعله عاش حتى يومنا هذا، لما بعد 2003 ليرى من تسلق على أكتاف العراق وهم من غير العراقيين، ويزعمون بأنهم عرب أقحاح.
وكتب في العدد الأول من الزمان خطته الصحفية قائلاً لست مضللاً يتخذ من الوطن أحبولة لتضليل السذج، شأن المضللين من حملة الأقلام، ولست دجالاً يستهوي الحمقى باسم الأمة ليقودهم واياها الى الدمار، شأن الدجالين من حملة القصبات المرضوضة، ولست نصاباً يغري البسطاء بالألوان الزاهية لينهب منهم ما يسد به جشعه، شأن النصابين من ذوي الصحف الملطخة بالسواد، وانما أنا رجل أصارح الناس بالواقع وأخاطبهم على المكشوف .
ويضيف في المجتمع مضللون لهم صحف يضيق لها الحصر، وفي البلاد دجالون ماهرون لا يحصى لهم عد، وفي الوطن نصابون بارعون في النصب والاحتيال، اذن فالجمهور لا يحتاج لأن أجعل هذه الجريدة وسيلة الى التضليل أو التدجيل أو الاحتيال، ما دمت لست ماهراً في هذه الأخلاق المألوفة ، واذن فأنا معذور اذا لم أنشر في هذه الجريدة ما اعتاد الناس مطالعته في الصحف المرتزقة .
وندد بشدة بالمعاهدات البريطانية ــ العراقية، وقال إنها مكنت المندوب السامي البريطاني من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وألزمت الحكومة بالرجوع الى وزارة المستعمرات البريطانية في لندن في حالة الخلاف بينها وبين المندوب السامي، وان البلاد لا ترى لاستقلالها قيمة اذا كانت الكلمة النافذة في سياستها لوزارة المستعمرات.
وذكر خالد الدرّة في مقالة له نشرها في العدد 14 لمجلته الوادي بتاريخ 16 مايس عام 1948، إنه يتذكر بأن الوالد كان يجلس في مقهى أبو علي، على أحد التخوت ممسكاً بيده اليسرى ورقة طويلة يسندها على ركبته اليسرى ويشهر بيده اليمنى قلم الرصاص، ولا يقربه أحد من أصدقائهِ، فيبدأ يكتب ببطء شديد واذا به يسرع بالكتابة وهو يصفر لحناً مبهماً.
ويضيف، كان أكثر الناس عناية بأسلوبه وانتقاء لألفاظه، وهو تواق لاستحداث العبارات الرنانة التي لم يسبقه اليها أحد، ويقول إن ابراهيم كتب ذات مرة مقالاً بعنوان لنا وطن ولنا أمل ولنا زعيم وهو يقصد ياسين الهاشمي، وقد استغربت منه هذا الاتجاه الذي لم أعهده فيه، ولما استفسرت منه عن سر هذه المبادرة الجديدة أجابني بأن هذه الكلمة جواب على ما قاله لي نوري السعيد حيث طلب مني بالأمس أن أشتم الهاشمي كما أشتمه هو حتى لا يغلق جريدتي.
ورشح ابراهيم صالح شكر، ذات مرة للنيابة في 30 آذار 1928 عن منطقة باب الشيخ، ودعـا في منهاجـه الانتخابي الى الاستقلال التام للعراق بحدوده الطبيعية بلا حماية ولا وصاية ولا انتداب والى الغاء الانتداب البريطاني، وان لا تبقى في العراق أية سلطة عسكرية لغير الجيش العراقي، والى وضع قوانين لحماية حقوق الفلاحين، والعمال، فيؤخذ بتوزيع الأراضي وتقسيمها تقسيماً عادلاً على من يريد ان يكد ويعمل، والى ان يتمتع الشعب بحرية القول والكتابة وتنقيح قانون المطبوعات ليواكب القرن العشرين، ومنح التعليم حرية، وحصانة المدارس العالية والكليات من التدخل السياسي، ومراقبة المدارس الأجنبية لتكون مناهجها وطنية عراقية.
وفاز ابراهيم صالح شكر في المرحلة الأولى للانتخابات، التي كانت تجري على مرحلتين، لكن تدخلات الحكومة أحبطت فوزه في المرحلة الثانية ولم يصبح عضواً في مجلس النواب، ولم يكرر المحاولة بعد ذلك.
وعطلت الحكومات، صحفه الواحدة تلو الأخرى، فاضطر الى مشاركة أصدقاء له في اصدار صحفهم، وتبادل ابراهيم صالح شكر مع رفائيل بطي التنازل عن حقهما في اصدار صحيفة، لأحدهما، فقد تنازل رفائيل بطي عام 1924 عن امتياز صحيفته الربيع لصديقه ابراهيم صالح شكر الذي عطل قرار حكومي صحيفته الناشئة الجديدة .
وفي 1930 تبرع ابراهيم صالح شكر بامتياز صحيفته الزمان لصديقه رفائيل بطي الذي تعرضت صحيفته البلاد للتعطيل. وجاءت هذه الاعارة عام 1930 وابراهيم صالح شكر موجود في العراق حيث عاد من سفرته الوحيدة الى خارج العراق اواخر 1928، وليس صحيحاً ما قاله فائق بطي في الموسوعة الصحفية من أن ابراهيم صالح شكر سلم ادارة الزمان لرفائيل بطي بعد أن ترك البلاد الى الخارج.
وعندما شغل ابراهيم صالح شكر مهمة رئيس التحرير في جريدة الأماني القومية لصاحبها عبد الوهاب محمود عام 1931، عطلتها الحكومة بعد عددها الأول الذي حمل مقالاً بعنـوان حفنة تراب على مرقد الباجه جي مزاحم الأمين وزير الداخلية آنذاك الذي رفع دعوى قذف قضائية ضد كاتب المقال ابراهيم صالح شكر، والمدير المسؤول عبد الرزاق شبيب، فحكمت المحكمة عليهما بسنة لابراهيم وستة اشهر لعبد الرزاق. وبعد الاستئناف خُفّض الحكم الى أربعة شهور للأول وشهرين للثاني قضوها في سجن بغداد المركزي بباب المعظم.
وبين كل صحيفة يصدرها وأخرى، يكتب للصحف الأخرى، واتفق مع سلمان الصفواني على التصرف في جريدته اليقظة ،وسرقت داره ودار الصفواني، مع ان الجميع كان يعرف ان دار ابراهيم خالية من ما يطمع اليه اللصوص، لكنهم سرقوا حتى الحصيرة، كما ابلغي الصفواني وهو يستعيد لي ذكرياته في منزله ببغداد، واعتبرت الصحف أن السرقة كانت بدافع سياسي ومدبرة لارهاب ابراهيم.
وكتب ابراهيم في الصفحة الأولى للعدد رقم 17 من اليقظة ، وهو من مقتنياتي الشخصية في مكتبتي في العراق، مقالاً تحت عنوان للوطن نحيا وللوطن نموت قال فيه :
تفضل الكاتب المفضال الأستاذ سلمان أفندي الصفواني فأباح لنا التصرف في جريدته اليقظة ، فهي الآن تحل محل المستقبل التي عطلتها وزارة الماضي المجيد ، فللأستاذ وافر الشكر والثناء، ولوزارة الاستقلال الأعرج أن تعلم أننا للوطن نحيا وللوطن نموت .
سلمان الصفواني
لكنه لم يستطع مواجهة قرارات الحكومة في تعطيل صحفه أو الصحف التي يكتب بها، فلجأ لسد رمق العيش من الوظيفة التي كان يدخلها بين تعطيل وآخر لصحفه، مضطراً للسكون الى الوظيفة التي بقي فيها حتى أقصته الحكومة بسبب تأييده للثورة العراقية ضد الانكليز عام 1941.
وكان أول عهده بالوظيفة في 12 تموز 1924 حينما تم تعيينه مديراً لتحريرات لواء الحلة محافظة بابل فيما بعد،خلفاً لكامل الجادرجي، وكان صديقه،علي جودت الأيوبي متصرفاً للواء
العدد 10578
التاريخ 24 تموز 1924
سعادة متصرف لواء الحلة المحترم
بعد التحية، ولاحقة لكتابنا المرقم 9715 والمؤرخ في 3 تموز 1924
بناء على استقالة كامل أفندي الجادرجي من مديرية تحريرات لواء الحلة قد عينا ابراهيم أفندي صالح شكر مديرا لتحريرات لواءكم براتب 250 روبية شهرياً. نرجو انباءَنا تاريخ مباشرته بالوظيفة المذكورة وحسن استخدامه.
ولسعادتكم الاحترام
توقيع وزير الداخلية
ولم يبق الوالد في الحلة سوى 80 يوماً، أي حتى 12 تشرين الأول 1924 فاستقـال منـها ليعـود لإصدار جريدته الناشئة الجديدة بعد امتعاض وكيل المتصرف محمود نديم الطبقجلي الذي تولى المتصرفية عقب نقل الأيوبي الى لواء ديالى، من علاقاته الصحفية، فقدم في 4 تشرين الأول استقالته، وغادر الحلة بعد عدة أيام، دون ان ينتظر قبولها رسمياً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيرة حياةِ د. مليح صالح شكر بقلمه:
يمكنُ الإطلاع على تفاصيلها في ذيل الجزء الأول من هذه المقابلة.