د.عبد المطلب محمود العبيدي لـ”برقية”: هدف “العولمة” إرجاع البشرية إلى “ما قبل الدين”!!
أجرى المقابلة: صباح اللامي
لا يختبئ أستاذ الأدب العربي، الدكتور عبد المطلب محمود العبيدي، وراء لافتاتٍ ثقافيةٍ، أو عنواناتٍ يصطنعها لنفسه، فهو “محارب ثقافي” لا خندقَ له ولا خوذةَ تحمي رأسه الذي اشتعل شيباً، ولا يَنْهَجُ إلّا سُبُل نحّاتي الصَخْر، بثباتِ الطرْق ودِقّته، لكنْ بإزميل “الكلمة-الفكرة”، قصةً، شعراً، مقالاً أدبياً، أو رواية، وأحياناً نقداً، أو غيرَ ذلك.. وبحكم صداقتنا الطويلة صحافياً، عرفتُ عنه أنه “كِتمانيّ الفكرة” في فعّاليّتهِ الكتابية، فهو -ربّما إلى الآن- عندما يكتبُ، يُحيطُ ورقته بكفٍ، ويترك لقلمه الخطّاطي “تلويز فكرته”، أي لوزنتها، وبمعنى لتَخرُج إلى القارئ بقشيبِ حلّتها “اللوزية”. و”التلويز” مصطلح فرضه علينا “أصطه” الصحافة عبد المطلب، أو “طِلْبه” كما نحب أنْ نسمّيه، فظللنا “نلوّز” و”نلوّز” إلى أنْ احدوْدَبتْ ظهورُنا، لكنّنا إلى الآن على المسار نفسه، نافضين دائماً عن أكتافنا مللَ التكرار، وكلَلَ التعبِ من “التلويز”.. أردّتُ بهذا أنْ أقدّم الكاتب، المعرفي، الأكاديمي “أبا يزن”، بل “طِلبه”، لقراء “برقية” بكل ما فيه من أنْسِ الحضور، وقيافةِ المعشر، وأيضاً بابتسامتهِ الموناليزية التي مهما حاوَل إخفاءَها، لاحتْ على محيّاهُ السمح، مقتحمةً جدار “حذره الفطِن”، مهما تكاثفت حجارتُه..
أدعُكم مع نص “المقابلة” ألـ “Interview” بتمام أسئلتها وإجاباتها مع د. عبد المطلب محمود العبيدي:
*”برقية”: كيف تنظر إلى “واقع الحركة الثقافية اليوم” في العراق؟
“د.عبد المطلب”: أنتَ ألمحتَ في سؤالك الثاني إلى أنّه واقعٌ ثقافي عام مأزوم للعظم، ولا أراهُ يمرُّ بأزمةٍ فقط. لقد اضطربت أحوال العالم وأوضاعه –لا العراق حسب- وأثّرت على واقع الحركة الثقافية بالضرورة.
*”برقية”: هل الأزمة الثقافية عراقية محض، أم يمكن القول إنّها أزمة عربية وعالمية أيضاً؟
“د. عبد المطلب”: أظنّني في إجابتي على السؤال الأول أوجزتُ حالة عامة (عراقية-عربية-دولية) تتنازعها زلازلُ سياسية وعسكرية واقتصادية وارتداداتٌ اجتماعية مدمِّرة صارت تنعكس في مخرَجاتٍ ثقافية فيها الجميل والقبيح، يتجاذبان المتلقّين أو لأقل يفرضان عليهم تأثيراتهما بقوة لانتشار وسائل التواصل وسرعة وصولها إليهم، شاءوا هذا أم أبَوا.
*”برقية”: باعتقادك، هل خدمت وسائل التواصل الاجتماعي حركة الثقافة أم أضرّتها؟
-استطراداً لما ذكرتُه لك في الإجابة على سؤالك الثاني، أظن أنّ وسائل التواصل الاجتماعي نفعت بنسبة أقل كثيراً من نسبة ضررها، إذ كل إبداع –وأنت حدّدتَ أسئلتك بالواقع الثقافي- يتطلب هدوءاً عاماً يمكن أن يتحوّل إلى “تفجّرات” إيجابية تدفع بالمبدع لإنجاز مزيد من جنس إبداعه، أما الأحوال الخارجية المتفجّرة فأرى أنها تضغط عليه فتقوده إلى الاضطراب، بدلاً من الخلق الإبداعي (النوعي) إذا جاز القول.
*”برقية”: ما تقييمك أو تقويمكَ لتكنولوجيا العصر في مسار المعرفة والخلْق الأدبي والثقافي؟
-ارتباطاً بالإجابة السابقة، يمكن القول إنّ ما آلَ إليه حالُ المبدع النوعي من اضطراب، أتاح فرصاً واسعة لغير المبدعين –ولا أقول أنصافَهم وأرباعَهم- الإمساك بصفحات التواصل من أذيالها وراحوا “يقيئون” نتاجاتٍ بعيدة عن أسس الإبداع الراسخة، الفكرية واللغوية فالجمالية، مما زاد من أضرار هذه الوسائل ورفع من نسبتها أمام إيجابياتها وفوائدها العامة.
*”برقية”: هل كل ما نمرُّ به عراقياً وعربياً وعالمياً أيضاً، يدخل في نطاق “العولمة السياسية”، وإطارها “التآمري” في صناعة عقل بشري مسيّر لا مخيّر؟.
-يا صديقي.. (العولمة) صارت واقع حال مفروضاً على العالم بوسائل عديدة وأساليب عديدة. أرى أنها إطار عام لرؤية كونية في عصرنا الراهن، ومن سعى للإفادة منها ونجح –وإنْ في حدود ضيّقة- رآها من محاسن العصر، ومن توقف أمامها أو لنقل تراجع تماماً ولم يصل إلى ذيل ثوبها، عدّها “مؤامرة” على ماضيه وحاضره ومستقبله، واكتفى بدور “المتفرّج” الفاقد للتأثير عليها وفيها.
أظنُّ –صديقي- أنّ العولمة بثيابها السياسية وأنعكاساتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، هدفها الرئيس إعادة المجتمع البشري إلى عصور ما قبل الدين وتفرّعاته العقيدية، إذا ما توقفنا عند الآية القرآنية (كان الناسُ أمةً واحدةً فبعث الله النّبيين مبشّرين ومنذرين) فاختلفوا وصار منهم الصالح والطالح. ولأنّ العصر “العولمي” يسعى مؤطّروه ليكون عصر تشابُهٍ وتماثُلٍ في كل شيء، كل شيء بمعنى العبارة، صار الدفعُ نحو هاوية جحيم دنيوي تكون بديلةً عن بناء أسس جنّة الأرض التي خلق اللهُ البشرَ لإعمارها لا لخرابها. ولا أريد أن أزيد على هذا.
*”برقية”: باعتقادك، أيمكنُ مثلاً أنْ تولد عبقريات شعرية كالجواهري، ونزار، وبدر، وعبد الرزاق عبد الواحد، والفيتوري، والبياتي، ودرويش، ولميعة، أو غيرهم؟.
-د. عبد المطلب: أُفضّلُ أن أعود إلى إجابتي بشأن شيوع (الكم) على حساب (النوع) الإبداعي هنا فأقول: ما وصفتَه بـ”العبقريات” ليست حكراً على عصر، وتاريخ الأدب العربي تحديداً لم يخلُ عصر من عصوره من عباقرة ومبدعين في الشعر أوّلاً لأنه الجنس الإبداعي الأول. قبل أيام مثلاً وقفتُ وأنا أتصفّحُ مواقع على (الفيس) على أبيات شعر ونصوص نثر أظن لشبّان وشابّات من العراق ودول عربية مشارقية ومغاربية، أضافتها ذائقتي إلى مَنْ ذكرتَ من أسماء المبدعين الكبار، وإذ نشرتها/أرسلتها إلى عشرتِ الأصدقاء لم يقلّوا عنّي إعجاباً –بل اندهاشاً بها لما حملته من جماليات إبداعية حقيقية، شكلت إضافة الى ما تركه السابقون من عطائهم أمامنا، منذ امرئ القيس حتى اليوم.
وهنا سأسألك صديقي: هل الحركة الثقافية لأي مجتمع تعني إبداع الشعر والنثر وحدهما؟ من الأكيد ستكون إجابتك: لا.. بالضرورة، لأعود فاؤكد أنّ “براعتنا” في الشعر تحديداً لا تضاهيها براعة، وإنْ انقاد كثيرون منا إلى “صنوف” وأجناس غيرنا متوهمين أنهم يُجارون “تجارب” هذا الغير لأنها أكثر تمثيلاً للعصر. سمِّها اندفاعاً بوعي ناقص نحو طريق “العولمة” ولن تكون مخطئاً أبداً.
مشكلة مجتمعاتنا المزاجيّة والعاطفيّة المتوارثة، وقد صار الدخول منهما سهلاً على “صُنّاع العولمة” الذين راحوا يؤزّمون أحوالنا برضانا أو على الرغم منّا.