حميد سعيد..هالة الكتابة
حين نتحدث عن (الهالية) في شعر حميد سعيد، فإننا لا نتحدث عن أي شاعرٍ، بل عن نمط من الشعراء كانت هذه الرؤية محدقة بتجاربهم، فيقيمون حوارًا بين ذواتهم الشخصية، والأخرى الشعرية، حتى يمكننا أن نمايز بينهم طبقًا لهذه (الهالية) المهيمنة على كتاباتهم.
في شعرية حميد سعيد، ولاسيّما في دواوينه الأخيرة، نلحظ تمكّن التحوّل (الهالي) في شعره، فبدأت القصائد وكأنها تتجاوز ثباتها، ضمن ما وصف به نقاد الشعرية هذا الأسلوب بـ (الأسلوب الحيوي) الذي يرتكز على حرارة التجربة المعيشة، وهو الذي يتأسس على شبكةٍ من الانحرافات النصيّة، وتوسيع المسافة بين الدال والمدلول نسبيًا، ليشتمل على القيم الحيوية الشعرية، والكثافة التصويرية النابعة من مرجعين ثقافيين رئيسين، أحدهما: تراثي، والآخر: حداثوي.
وتبدو (الهالية) الثقافية متغلغلة في نصوصه، بمساحات غير نمطية، ولا ثابتة تصغر، أو تكبر، تتعدد، أو تتكثف.. وهكذا، ففي واحد من دواوينه الأخيرة (من وردة الكتابة إلى غابة الرماد) وبالتحديد رباعيته الأولى، نجد حضور (الهالية) في صناعة القداسة للكتابة، والبحث عن المرأة المثالية (الطوباوية)، في لحظات تجلٍ للمخيّلة الحالمة، وجمالية الانتقال من الواقع إلى مراحل تاريخية منسابة في القدم، ومتجذّرة في النفس لدى الشاعر، فالعنوان يعطي الإشارة إلى تلك القداسة الخاصة بالكتابة ووسمها بالـ(وردة)، وسواء أكانت وردة حقيقة أم رمزية، فهي تشير إلى دلالات منفتحة خارج الإطار الثقافي للمرحلة، نظرًا لما تحمله الوردة من بعدٍ ثقافي مرتبط بالمرأة، في النص بدءًا من العنوان الذي يشير إلى وجود (الأنثى) في ثنيات النص، وهو ما يتحقق في مقاطع النص كلّها.
تبدأ ملامح (الهالية)، التي توحّد بين ما هو شخصي وما هو ثقافي عندما يدخل في فضاء العزلة، فيكون ملاذه الخيال والبحث عن الحب الضائع، ضمن صورة الكتابة، الحاملة لبعدين، الأول متمثل بالكتابة –سلاح الهرب بوساطة المخيلة- لتحمل القدسية الخاصة به، والآخر يتمثل في الأنثى، الباحث عنها في منطقة خارج الواقع، ليرسم لنا الشاعر مساحة (هالية) تحمل رؤيته المزدوجة:
بعدَ أنْ نفدتْ خَمرتي..
واستباح الخَليّون أسرارها والخُمار
وانتبذتْ مكاناً.. قصياً .. قصياً.. قصياً
وصارَ الرمادُ أخي..
والنديمُ الغبار..
فاجأتني عطاياكَ
شمسٌ مبجلةٌ وطيورٌ محجلةٌ
وندى من يديكَ .. يبلِّلُ روحي
أيهذا السرورُ المضيء
صيِّبٌ .. ورعودٌ تجيءْ”[i]
في هذا المقطع يوظف الشاعر الدوال الحاملة لإشارات السعادة وعلاماتها، التي تنفد منه، فيكون المكان المنعزل (قصيًا) يمثّل منطقة الانفتاح، على غرار أنّ بعد كل عقبة انفتاح، فيصبح كل ما حوله مقيدًا وغير قابل للحركة (رماد، غبار)، لكن الانفتاح يحمل أبعادًا حلمية، لتكون العتبة هي الدخول في منطقة مغايرة، صانعًا لنفسه العقدة التي تحتاج إلى انفلات، لتحقيق الحلم، على غرار كسر الغصن الذهبي، أو قتل المسيطر[ii]، أو على غرار فكرة بروب في وجود العقدة[iii]، المؤدية إلى وجود بنية لغوية متكاملة من المعطيات الذاتية، لتحقيق الحلم، وبناء الرؤية.
وبعد تلك المرحلة النافية للذات، والعزلة التامة، ونفاد الوسائل المساعدة في الحياة، تتكسر العوائق في ضوء توظيف الشخصية الوهمية (حلم، طيف، وردة، أنثى..إلخ) ليقول:
شدَّني من جَليد المنام
ومدَّ يدًا.. بين غيبوبتي وغيابي
قُلتُ دعني .. أنا متعبٌ
وأريد ..
أنام
أنام
أنام
هزَّني حيث كانت ثماري
مثلما لم يغنِّ المغنون.. غنَّيت.. فانفتحت غابة في غباري
وأقمت على ما تبقى من الوقت.. داري”[iv]
فما حددناه من وجود العقدة، وغياب الحياة، انكسر في لحظة، لحظة اشتعال المخيلة القادرة على صناعة الحلم والأمل، فبعد مرحلة المعاناة، التي تتضح في تكرار مفردة (أريد.. أنام)، التي تعكس حالة الأرق بحثًا عن الرغبة، أو وجود الحياة الحالم بها، يبدو النوم فاصلًا بين فراغين، أو بين زمنين، زمن الراحة، والدعة، وزمن الصحو، والمباشرة بقطف الثمار، (هزني حيث كانت ثماري) وهذه صورة (هالية) تفصل بين الزمنين، لتباشر الكتابة موسمها الجديد حيث الأغاني وانفتاح الغبار.. وتقفل صورة (وأقمت على ما تبقى من الوقت.. داري)، باب النوم (شدّني من جليد المنام) وتفتح باب الصحو على ما تبقى من الوقت.
وهذا الفصل بين الزمنين كان صريحًا وعاليًا، وهو يعكس ملامح الشخصية الضائعة بين الواقع والحلم، التي نسج النص على وفقها رؤية حالمة عارفة بما يجري، وبما جرى، لتبدأ مرحلة الهيام والسفر عل ضفاف التاريخ، بعد طرحه للأسئلة والرؤى حول ما يراه:
ربما كان هذا .. النداء الأخير
ربما كان هذا.. النفير[v]
فهو يضع نفسه أمام مرحلة التمسك بالحلم، وتحقيق الرغبة في الحياة، ليوظف دوالًا متتالية تكشف عن (الهالية) المسيطرة على كيانه، في البحث عن المفقود، ليقرر في لحظة أنَّ الهرب من الواقع، ومن العدم هو الفرصة الأخيرة، ليحقق أسطورة الذات، عن طريق صناعته للمقدس الخاص به (الكتابة / الأنثى)، فيمسرح المخيلة ضمن دلالات مفتوحة في تحقيق الغاية:
آن للؤلؤ.. الهروب من القوقعة
كي تكون معه
آن للنجمة الهاربهْ
أنْ تعود إلى بيتها
آن لي أنْ أشاركها في ثمار بساتينها
آن لي أن أُعلِّم أشجارها.. أتعلَّم منها
أفكُّ مغاليق أسطورةٍ غائبة
وأُرافقُ غطرسة اللحظة الشاحبهْ
آن لي .. أن أفتّش بيت الضحك
آن لي.. أن أعيد إلى النوم.. سلطانهُ”[vi]
فتوظيف الدال (آن) يكشف عن تأرجح الذات بين الوجود والعدم، وبين فاعلية الكتابة في صناعة الحلم وإيجاد ذاته المفقودة، عبر التوظيف الكتابي الدال على العدم، فعندما نقول الكتابة (دالة العدم)، فثمة إشارات كتابية – كما تبدو لي- دقيقة، تكشف عن هذه (الهالية)، ذات الأبعاد المختلفة، المرتكزة جميعًا على الذات الكاتبة والأنثى، فوجود السكون في نهاية المقاطع، يشير إلى ذلك الواقع الساكن، فهو يحرّكه في النفس بتوظيف (آن) غير أنه يصطدم بالواقع بتوظيفه للسكون، والسكون يحمل دلالة العدم، والارتباط مع الأصل في الخلق، والملاحظة الأخرى –إذا ما أقررنا بدقة الكتابة- سلبه للتاء في مفردتين (الهاربه، الشاحبه) -خارج قصدية الوزن- اللتين تحملان دلالة عدم التمكن الواقعي، فسلب الحرف وجوده الكتابي، يعني سلبه الواقعي، في غياب الأنثى (النجمة) في الواقع، ومن ثم تصبح المرافقة للحظة، مجرد حلم، حين يجرد (الشاحبة) من تمكنها، من حرفها الدال عليها، فضلًا عن وجود السكون، الذي يحمل دلالة الذهول والحيرة.
ويبدو لي أنَّ التشكيل الدلالي والتصوري هنا يتسم بالإشارات الدقيقة، الكاشفة عن (الهالية) المسيطرة على الذات، وهي تبحث عن لحظة للنوم، للهرب من التفكير بما يدور في الواقع، ليوهم نفسه بالقدرة على صناعة الحلم الذي يمكنه (النوم) بتوظيف الدوال (سلطانه)، إذا ما وضعنا في الحسبان أن النوم يهرب من الإنسان في لحظات التفكير العميقة، أو لحظات البحث عن المفقود، تصبح الطاقة الداخلية بتمثلاتها المختلفة، مسيطرة على الذات، ليمحوها عن السيطرة في توظيف مقدسه (الكتابة).
ويرسم الشاعر لوحة كاملة، تعبر عن حالة الصحو العالية، حين يدخل في حلم آخر، وصحو آخر، يجسد لونًا تعبيريًا جديدًا بعد (غابة الرماد) وبعد أن (فتشت بيت الضحك) ليحضر صوت الآخر ولعله المرأة، أو طيفها الذي يهزه مرة أخرى ليكون النوم بطرًا:
صاح بي..
أيها الرجل البَطِرُ
يا قائمًا بين فراغين .. من ورقٍ يابسٍ وجرادْ
أوقفتك الثواني على بابها .. واصطفاك الرمادْ
إنَّ هذي البلاد…
كوكبٌ من شذى ومدِادْ
إنَّ هذي البلادْ.. واحدٌ قَبْلَ أن تلتقيها
واحدٌ بعد أن فارقتكَ
فإن صارت اثنين
كان الحداد”[vii]
فالصوت الصادر من العمق، من النفس، هو الصوت الداخلي الباحث عن الذات، ليكون النص في لحظات صراع بين الماضي والحاضر، ولا فارق بين الأمس واليوم، وجملة (يا قائمًا بين فراغين) تشير إلى (الكتابة الأنثى) التي يحاول ملأها كتابيًا، مشكلًا هالته الكتابية، فيعود إلى توظيف الأسطورة لصناعة أسطورته الخاصة، وهو ما سيتضح في سيرورة النص، وبالتحديد في المرحلة الرابعة من رباعيته.
في نهاية المقطوعة الأولى يصنع العتبة لدخول منطقة الأساطير، وهي المنطقة الممثلة للمعادل الموضوعي، في البحث عن الذات، فنجده يوظف الماء، بما يحمله من رموز الحياة، ليكون المنطلق لديه والرابط مع المقطوعة الثانية، فجملة (أشارت إلى الماء.. جاء إليَّ)[viii]، تكشف عن لجوئه إلى القوى الخارقة المغيّرة لواقعه، الواقع الذي سلبه ذاته، ليكون الحلم هو المنقذ والمسافر به إلى مناطقه الخصبة عبر الأساطير:
الأساطير تُقبل من يومها.. من بواسقِ أشجارها
يتساقطُ تُفاحها..
أخلعُ نَعليَّ.. أتبعُها.. فتُريني مفاتنها
وأرى..
ثمَّ أفتح بابي”[ix]
فالأسطورة بما تحمله من تقبل وانفتاح، ومقبولية لدى المجتمع، تصبح الملاذ، بل الباب الذي يدخل منه لينظم ذاته، ليصنع أسطورته الخاصة (الهالية) في إشارات صريحة ورمزية إلى ثنائية (الكتابة/ الأنثى)، فصناعة الذات تتطلب التخلص من التأرجح الثقافي بين الماضي والحاضر، والاقرار بما يكون، وهو ما لا يتحقق عند الشاعر، لتكون النهاية في الوردة الأولى هي المفتاح والباب المفتوح إلى الوردة الثانية.
وهذه الطريقة من القول تعكس التماسك النصي، والتراتبية في عمليات اقصاء للواقع، ليبدأ الوردة الثانية بما أنتهى به من الوردة الأولى:
بابٌ على ما كان
ماذا لو يكون الباب مفتوحًا على الآتي..
وماذا لو يكون؟!
تتنزل الأفراح في روحي .. ولكنْ..”[x]
فالصراع الداخلي للشاعر بين الحاضر والماضي يحوله إلى منطقة التمني، أو منطقة صناعة الذات، حين يجعل الباب مفتوحًا أمام المخيلة (ماذا لو يكون الباب مفتوحًا على الآتي)، فتوظيفه للدال (لو، مفتوحًا) يكشف عن التوجه الثقافي للانتماء إلى الماضي المطلق، وتنمي حضوره المستقبلي، ما بين الماضي والمستقبل، لتصبح (الهالية) الثقافية والذاتية هي المحرّك للبناء النصي، الذي يجسده في المسرحة الصورية الذهنية، فينتقل بالقارئ إلى منطقة الأمان (الماضي/ الأساطير)، ضمن مجموعة من الاحتمالات التي يطرحها في انبناء الذات، في ضوء الوجود الواقعي (الاستلاب) والثبات في الماضي، ليجد مخيلته في السيرورة قائلًا:
رُقُمٌ مُخرَّمةٌ وألواحٌ.. بقايا من نقوشٍ.. أو بقايا من لقى..
ومعابد وملاعبٌ وقصورْ
مرَّ الظلامُ .. يجوس بين كواكب الماضي.. ويأتي بالضياء
ونزلتُ أتبعه إلى ريّا بساتين الفرات.. إلى الفرات
إلى النشيد البابلي.. إلى إينانا..”[xi]
فإذا كانت الأسطورة ليست بابًا لصناعة الحاضر، فهي منطقة للهرب صوب الذات، وهو ما نجده في هذا النص، وما يليه من دوال حاملة للبناء المشابه للفكرة نفسها، فالرؤية لدى الشاعر تقع ضمن الهاجس الداخلي (الهالية)، التي يرسمها بوجود ملامح الضياء، والبساتين الحاملة لدلالة الحياة والخضرة، وليصدر ذاته ضمن الفاعلية الداخلية بتوظيفه للدال (آتٍ..)[xii]، بعد عودة الصوت الصادر من الداخل، وهو الصوت المغاير للصوت في الوردة الأولى، فهناك إيقاظ من الحلم، وهنا دعوة إلى الحلم:
آتٍ..
سمعتُ نداء غيمتها.. فأطلقت البروق
قلتُ املأي بحري بمائكِ .. وليكن ظمأي امتيازك
وليكن خمري.. صبوحك والغبوقْ
كُنّا هناك معًا ببابل .. قبلها في أور
في آشور..”[xiii]
وفي هذه الرحلة الأسطورية تنفلت الدلالة من الذاتية إلى الكلية، من الأنا المسلوبة إلى الوطن المسلوب، ليعمل الشاعر على صناعة الأمل باسترجاع الأمل الماضوي، الذي تمنى حضوره المستقبلي، وهذا الهمَّ المسيطر على الشاعر هو (هاليته الكبرى) في البناء القولي، ومسرحة المخيلة ضمن فضاءات متعاقبة زمنيًا، وتراتبية في الألق والوجود، ومن ثمَّ الحضور الذاتي، في تصويره للغياب التام للهوية (مُذْ فارقتني…)[xiv]، فهي الهوية والأنثى والحضارة والوطن، وهي الكتابة التي جسدت الوجود ضمن رسم يحدده الشاعر:
كان اسمها في البدءِ.. لا ماء أطلَّ ولا أطلّوا
كان اسمُها قبل الفيافي والبحار
قبل الكلام..
قبل الكتابة..
كان اسمُها.. ما لا يكون.. وما يكونْ[xv]
فهذه (الأنيما إليش)[xvi]، يوظفها الشاعر ضمن نصه، ليصنع صورة الذات المفقودة آنيًا، والحاضرة في التاريخ، ليصنع له ذاتًا خارج نطاق السلب القسري، فقبل كل الحضارات، قبل الكون كان الوجود، فيتحول الشاعر من مرحلة المصنوع إلى الصانع، من مرحلة متقبل الأسطورة إلى صانعها، في لحظات تضخم الذات، وبناء الهوية، فالماضي يشبه الغيبوبة، والغيبوبة هي الرؤيا القائمة عليها الأسطورة، والمنتجة للرؤيا الأسطورية، والمنتجة للذات، لتصبح ذاته رهينة الحضور التاريخي، ضمن مراحل البحث عن الهوية فيقرّر:
كوني .. أكون
تحررت سفني وعاد إلى الصبا..
حُلُمي ومائي”[xvii]
فالحلم عائد ضمن نهاية مشابهة لنهاية الوردة الأولى، لتكون الأسطورة والتاريخ فاعلين في صناعة الذات، القائمة على وجود (الهالية) والثيمة المهيمنة على صناعة القداسة للكتابة والذات المسلوبة، فالأنثى متشظية الحضور بين (الوطن، التاريخ، الأسطورة، الخليقة.. إلخ)، ليبدأ الوردة الثالثة بما أنتهى إليه في الوردة الثانية، المرتبطة بالأولى:
بين قوسين كُنا معًا، في الكتابة.. كُنًا
وإذْ غادر القوس من جهتي.. فلبثتُ
وأنتِ تسللتِ .. غادرتِني.. وبقيتُ وحيدًا..
ومنشغلًا بالوعود..”[xviii]
فالصراع الحقيقي هو صراع داخلي، بين الحاضر والماضي، وترميزات الدوال تشير إلى عبق الأسطورة، وسطوتها على المخيلة، وعبق الماضي، وحضوره الفاعل في بناء الهوية التي تتشكل في ضوء البناء النصي ضمن الوردة الثالثة التي تشكّل مرحلة التحقق الذاتي، الذي يرتسم للوجود في صراعه مع الحضور والغياب، ومع الواقع والخيال، ليهندس الصورة التكوينية للذات على وجود الأنثى، ووجود الحضارة التي تتحدد في نهاية الوردة الثالثة ضمن رؤية كاملة مترابطة مع ما تقدمها، فيتماسك النص ضمن هاليته الوجودية فيقول:
معي تكون.. وإذْ نكون معًا..
أكون..”[xix]
فالذات تتحقق بوجود الماضي، سواء أكان على مستوى (الأنثى، الحضارة، التاريخ، الأسطورة)، فهي مكونات الهوية والذات، ضمن انسلالات الرموز البشرية وتكوين الهوية، فالضياع الحقيقي هو ضياع تلك الهوية، وهو ما يحدده في الوردة الرابعة التي كانت مغايرة للوردات الثلاث السابقة شكليًا، ومغايرة من ناحية الموضوع، بوصفها عاملة على نفي المتحقق الخيالي، واللجوء إلى الواقع.
وهذه الصورة تعكس قدسية الكتابة لديه، فرسم الكتابة في الوردات الثلاث قائم على وجود اثني عشر مرحلة تكوينية للنص، وهذه المراحل ترتبط بالرقم الذي يحمل التاريخ، وبملحمة كلكامش المتكونة من العدد نفسه، وهي مرتبطة بالعدد القدسي (الكواكب البابلية، الكواكب القرآنية (يوسف)، الاثنا عشرية، السنة التقويمية) أو (دلالة خاصة) أخرى، فكلّها مكونات قائمة على العدد نفسه، مما خلق لنفسه أسطورة ثلاثية ترتبط بالثالوث المقدس (المسيحي) والعربي، ضمن تحديد الهوية والوجود، فالمسيحي يتجسد في ثالوثه (الله –الروح- عيسى) العربي (الصفا، مكة، المروة)، وهو ما يتجسد ضمن النص القرآني في تحديد نوع العبادة “أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى”[xx]، التي تمثل الحضور الثلاثي للوجود، المرتبط بالقوة الخالقة، التي تتماهى مع الثلاثة، لينتج الكينونة (الهوية) التي تتمظهر عند الشاعر في الوردة الرابعة، الحاملة لرمزية الاطلاق، ضمن تجليات البنية العميقة، لتكون الرابعة خالية من ترميزات العدد، ومتماهية مع الثلاثة، وهي الصورة الحاملة للهوية الضائعة في الوجود السابق.
وتصبح صناعة النص بحسب الصورة التي رسمناها قائمة على (الهالية) أو البحث عن الذات بوساطة الكتابة (المقدّسة) التي اكتسبت الوجود من الذات أولًا، ومن البناء التركيبي الشعري ثانيًا، فالوردة الرابعة جسدت الغياب والحضور، ومن ثمَّ صنعت الهوية المنتمية إلى الوطن في ترميزات الكتابة والأنثى، عندما يقرر أنه على الرغم من الانفصال القسري بين الحضور والغياب إلَّا أنه في حالة عشق دائمة:
أقول لها أُحبُّك.. ثمَّ أقول لها أُحبكِ..
ثم أقول..[xxi]
ليصبح القول منفتحًا على المطلق، ضمن توظيف الرسم الكتابي، وانفتاح الدلالة في الحب، بين الأنثى ورمزياتها المختلفة، والقول صادر من الذات، التي وجدت هويتها في الماضي، وضاعت في الحاضر، لكنها ما زالت تقول، والقول هو العامل على بناء الذات.
مما سبق يتضح أثر (الهالية) في صناعة النص الشعري، ضمن توظيفات الدوال المختلفة التي تشير بكل ثنيات النص إلى تلك الهالية، التي تجسدت في صناعة المقدّس الكتابي لدى الشاعر (البحث عن الذات)، وفي وجود الأنثى، الحاملة لرمزيات مختلفة في النص، لكنها تبقى الهاجس الأكبر المسيطر على المخيلة، لتصبح (الكتابة/ الأنثى) هي (الهالية) التي وظفها الشاعر في صناعة رباعيته الشعرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-1من وردة الكتابة إلى غابة الرماد، حميد سعيد: 13.
– 2ينظر: الغصن الذهبي، جيمس فريزر، ترجمة نايف الخوص، دار الفرقد، ط1، 2014: 15-17.
-3 ينظر: بنية النص السردي، حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1991: 25-26.
– 4من وردة الكتابة: 14.
-5 من وردة الكتابة: 15.
-6 من وردة الكتابة: 16.
– 7من وردة الكتابة: 21.
-8 وردة الكتابة: 24.
– 9المصدر نفسه: 24.
– 10من وردة الكتابة: 27.
-11 من وردة الكتابة: 29.
– 12المصدر نفسه: 30.
-13 من وردة الكتابة: 30.
-14 من وردة الكتابة: 31
-15 من وردة الكتابة: 32.
-16 أسطورة الخلق البابلي.
-17 من وردة الكتابة: 38.
-18 من وردة الكتابة: 41.
-19 من وردة الكتابة: 52.
-20 النجم: 19-20.
21- من وردة الكتابة: 60.