أدب

حكمةُ الحِمارِ.. في زمن هيمنة "أشباه الرجال"!!

بقلم: صباح اللامي

  • لمحة تاريخية  

   توارثَ الناسُ حكاياتٍ كثيرةٍ عن حكمةِ الحِمارِ!. وأشهرُها ما قاله الرواةُ في قَصَصِ حمارِ جَحَا الذي عَرَفهُ العربُ منذ زمن الأمويين باسمِ “أبي الغصن دُجين الفزاري”، وسمّاهُ الأتراك العثمانيون في اسطنبول باسم “الشيخ نصر الدين خوجه الرومي”. وأشهر ما قيل فيه إنّه شخصية خيالية، عَرَفتها جملةٌ من الشعوب!. وكان للحمارِ ذِكْرٌ في كتاب “ألفِ ليلةٍ وليلةٍ” الذي لا يُعرَف له مؤلف، وكتابُ “كليلة ودِمنْة” الذي تضمّن قصصاً على لسان الحيوانات ترجمها إلى اللغة العربية، عبد الله بن المقفّع في إبّان الحكم العباسي، وفيه حُكيَ ما لمْ يُحكَ قبل ذلك من نوادر الحكمة والمَثَل وأعاجيب الحكايات. أمّا في عصرنا الذي نعيشُه، فأشهرُ ما عُرف عربياً كتاب “حمار الحكيم” للأديب المصري الشهير توفيق الحكيم الذي اقتفى فيه أثرَ من كتبَ قبله عن حكمةِ الحمار، وطرائف المواقف معه!.  

    ومن أشهر ما كان يرويه “القصّخون” في مقاهي بغداد، والشام، واسطنبول، والقاهرة، ومدنٍ أخرى أنّ جحا شُوهد ذات يومٍ يمشي ولجامُ حماره بيده، فاعترضه أحدُهم قائلاً: أأنتَ مغفلٌ، تمشي، وتتركُ حمارَك يمشي إلى جانبك. لم لا تعتلي ظهره؟. ولمّا ركب جحا حمارَه صادفه آخرُ، فلامه قائلاً: لقد أتعبتَ الحيوان المسكين، خفّفْ عنه يا رجل!. نزلَ جحا عن حمارهِ، فبادَرهُ أحدُهم مازحاً: عرفتُ حمارَك ولم أعرْفك!. فلم يملِك جحا نفسَه من فرطِ غضبهِ، فأجابهُ من فورهِ: لا تعجبْ، يا هذا، فالحميرُ تعرفُ الحمير!.

  • حكمة الحمار في وليمةُ الأسدِ!

    ذات يومٍ قائظٍ، يخنُقُ الصدور، وينفدُ فيه الصبرُ على الجوع، زأرَ أسدُ الغابةِ، منادياً عدداً ممَّنْ حولَهُ مِنْ حيواناتِها، فأسرع إليهِ الثعلبُ، والأرنبُ، والحمارُ. كان واحدهم يتقدّم، بعدَ الآخر، نحو عرين الأسدِ، منحنياً، مؤدّياً فروض الطاعة، منتظراً في الوقت نفسه ما سيأمرُ به الملك، فقال بصوته الذي يئزُّ أزّاً:

   -اسمعوا وعوا، أنا لم آكلْ شيئاً منذ البارحة، وتكاد معدتي تشبه قٍربة خاوية. لذا لن أقوى على الصيدِ اليومَ، فكونوا أنتُم الثلاثةُ فريقَ صيدٍ واحداً، يقنَصُ لوليمتنا المشتركة، فريسة ننعمُ بلحمِها في يومنا شديدِ الحرِّ هذا.

   انحنى الجميع لملكِ الغابِ، لكنّ الثعلبَ الماكرَ، تمتمَ بصوتٍ خافتٍ: نعرفك كسولاً، أيها الملك، لكنْ ما بأيدينا غيرَ أنْ ننصَاعَ لأوامرِكَ الظالمة!. فمن ذا الذي يُضارعُ الأسدَ الذي عرفنا له مئات الأسماء: الليث، الضرغام، الغنضفرُ، القسورة، الحيدرة، وغيرها.. سمع الأسد هسيس تمتمتهِ، فسألَه مُغضَبَاً: ماذا قلت يا ثعلبُ؟!.

   أجابَ الحيوان المعروف بمكرهِ، وحيلتهِ: لا شيءَ سيّدي، علينا أنْ نُسرعَ في تحقيق طلبِك!. قالها بقلبٍ مرتجفٍ، خوفَ بطشِ الملك!.

   كانَ الأرنبُ يتبسَّمُ لما يسمعُ ويرى، فيما كان الحمارُ يهزُّ أذنيهِ الطويلتين، مُخفياً ضجرَهُ، محدّثاً نفسه: ليسَ غيرَ الصبرِ على هذا البلاء، يُنقذني مِنْ هؤلاء الذين لا أطيق الحياةَ معهمْ، بانتظار أنْ أعيش في المدينة مع البشر، برغم أنهم لا يقلّون عُسفاً عن أبناء عشيرتي في هذه الغابة.

     شرَعَ الثلاثةُ، الثعلب الذي يُعرف بالمكرِ في الانقضاض على فريستهِ مستخدماً المجال المغناطيسي للأرض، والأرنبُ المشهور بحاسّة سمعهِ، والحمارُ المعروفُ بأنكرِ الأصواتِ، والشائع بين الناس أنّه ذو حكمةٍ، وحُسْنِ تصرّفٍ، برغم تهمةِ الغباء التي ألصقَها بهِ الناسُ، جزافاً، وافتراءً!.

    انتبهَ الثلاثةُ إلى وجودِ غزالةٍ في المكان الذي اعتادَ الأسدُ الصيدَ فيه. رأوها تتلفّتُ يميناً ويساراً، تأكل ممّا تحتها من عُشبٍ. كانوا حذِرينَ جداً، خشيةَ أنْ تهربَ الغزالُة التي يقال أنّ سرعتها تزيد على ثمانين كيلومتراً في الساعةِ. اقتربَ الثلاثة شيئاً فشيئاً من ثلاث جهات، كانوا يتسلّلون دون أن يُحدثوا صوتاً. اقتربوا، ودنوا كثيراً، حتّى كوّنوا دائرة لا يمكنُ للغزالة أنْ تفلت منها. وبسرعة البرق، انقضّ الثعلب على الفريسة من خلف رقبتها، ثم ركلَها الحمارُ بضربةٍ، أوقعتْهَا ميّتةً. حملوا الغزالةَ على ظهرِ الحمار، وأسرعوا إلى مليكِهم الأسدِ فرحينَ، بصيدٍ ثمينٍ، ربما ينالُهم منهُ شيء، لم يتناولوه بعدُ في صباحِهم الباكر!.

   سَبقَهم الأرنبُ ليبشّرَ الملكَ بقربِ وصول الفريسةِ الشهيةِ. تجمَّعَ الثلاثةُ بينَ يديْ الأسدِ، والغزالةُ المسكينة ممدّدة على الأرض، لا يقوى أحد على لمسِها بعدَ أنْ صارت إلى عرينِ ملكِ الغاب.

    لم يتركهم الأسدُ يتنفّسون الصُعَداء. أمرَ الثعلب بتوزيع الفريسة بين الأربعة. قال: يا سيدي العزيز، ومولاي الملك الحبيب، لك نصفُها، ولنا نحن الثلاثة نصفها الآخر. وما إنْ أكمل جُملتَه حتى لكزَه الأسد بضربة أطارت صوابَهُ، فظلَّ يتلوّى ووجهه مصطبغٌ بدمه!.

   وبنفادِ صبرٍ، قالَ الأسدُ للأرنبِ: وزّعْ أنتَ أيها الخِرِنْق!. ما إن سمع الأرنبُ إحدى صفاتهِ على لسان ملك الغاب، حتى ارتعَدَتْ فرائصُهُ، قال مسرعاً: ثلاثة أرباع الفريسة لك أيها السيّد المطاعُ، والربع لنا نحن الثلاثة، إذا أردّتَ ذلك، فلحق به أقسى مما لحقَ بالثعلبِ. ولم يبقَ أمام الأسدِ إلا أنْ يُوكِل المهمة إلى الحمارِ الذي عُرف بكنيتهِ الشهيرة “أبو صابر”، وخشي أنْ يفطنَ الملكُ إلى “النهّاز” إحدى صفاتهِ التي يكرهها، كما تذكّر للأرنبِ صفة “الخِرِنق”!.  

    قال الحمار بلسان حيوانيّ، رقيق، لا علاقة له بما يذكّرُ بالنهيق الذي هو أنكر الأصوات:

    -سيدي ملكَ الغابِ، ذا العقلِ الأريبِ، والزئيرِ العجيبِ، والنظراتِ الرهيبة، قوّتُكَ في حمايتنا تحتاجُ الكثير من الغذاء، لهذا أقترح أنْ يكون لك نصفُ الفريسةِ وجبةَ إفطارٍ تنعَمُ بها من فورِكَ في هذا الصباح الجميلِ، فيما نحنُ ننشغلُ بتهيئة الماءِ، والحلواءِ، ثمَّ نقسّم النصفَ الباقيَ إلى ثلاثةِ قِطَع، تتناولُ سيادتُك واحدةً في وجبةِ الغداءِ، ثم تتركُ الثانيةَ لوجبةِ العشاءِ ليلاً. أما القطعةُ الثالثةُ، فندَعُهُا لآخرِ الليلِ، إذْ ربّما تستيقظُ جنابُك، فتشعرُ بالجوعِ على عادتكَ، لتكونَ قطعةُ اللَّحمِ المؤجّلةُ تصبيرةً، تقيك عَناءَ الحركةِ والصيدِ في حُلكةِ الليلِ، وطوارقهِ.

    ابتهجَ الأسدُ لِما سَمِعَ، وارتَسمتْ ضِحكةٌ عريضةٌ على صفحةِ وجههِ، وتوجّه إلى الحمارِ بالشُكْرِ والثناءِ، قائلاً: مِنْ أينَ لكَ كلُّ هذهِ الحكمةِ أيها الحمارُ الذكيّ، الأريبُ، النابهُ!.

    قال الحمار: أتأذنُ لي سيدي أنْ أقولَ الحقيقةَ، فلا أنالُ منك ما نال صديقيَّ الثعلبَ والأرنب؟. قالَ الأسدُ بثقةٍ، ودهاءٍ: قل ما تشاء ولكَ الرأيُ والأمانُ:

    قال الحمارُ: تلكَ الضرباتُ القاصفة التي أدمت وجهي الثعلبِ والأرنبِ، هي التي علّمتني حكمةَ “القسمةِ العادلةِ” التي تشرّفتُ بها لخدمة مقامكَ العالي. استلقى الأسدُ على ظهره من شدّة ضَحِكِهِ ، وأمرَ الثلاثة بالابتعادِ، فبعدَ وجبةِ الغزالةِ، الدسمةِ، الشهيةِ، سيحتاجُ إلى سيّدُهم إلى إغفاءة يرتاحُ فيها من تعبِ ما جرى في بعض يومه.

    كانَ الحمارُ والأرنبُ، مرتاحيْنِ، مُطمئنيْنِ، فهما لا يحتاجانِ إلى كبيرِ عناءٍ في تحصيلِ معاشِهما، طالمَا هُما في الغابةِ التي يتوفّر فيها الزرعُ الذي يعتمدانِ عليه كلياً في غذائهما اليومي. أمّا الثعلبُ الماكرُ المحتالُ، فكانَ الخاسرَ الوحيدَ الذي مضى يَلعَنُ حظّهُ العاثرَ في قصة يومٍ كئيبٍ أمضاهُ في الخضوعِ لملكِ الغابِ، وشدّة استبداده، وأنانيّته!.          

  • حكمةُ القصة؟

    كانَ الفيلسوف اليوناني سُقراط الذي تُوفّيَ (339 ق.م) يقول: “الخوف يجعل الناس أكثر حذراً، وأكثر طاعة، وأكثر عبودية”. وما جرى في قصة “حكمة الحمار” كان تجربة حيّة، لخوف الثعلب، وحذر الأرنب، وعبودية الحمار. الثلاثة أوصلهم استبداد الأسد، ملك الغاب، والحيوان المفترس، الكسول، الذي لا يعرفُ قلبه الرحمة بخصومه إلى حالٍ بائسة في الخضوع للإرادة الغاشمة الأقوى. لهذا كان الفيلسوف الانكليزي المعاصر برتراند راسل (تُوفّيَ سنة 1970)، يقول “إنَّ الخوفَ مصدرٌ أساسيٌ للخرافاتِ، وأحَدُ أهمِّ مصادرِ القَسوةِ، لذا فالانتصارُ على الخوفِ هو بدايةُ الحكمةِ”. أيْ حكمةُ نُشدانِ الحقِّ لا الخضوعَ للباطلِ!. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *