العراق

جمالاتُ رحلة “سعدون الجنابي”* في ذاكرة “شارع الرشيد”!

                       بقلم: صباح اللامي

         الكتاب: رحلة في ذاكرة شارع الرشيد

         المؤلف: سعدون الجنابي

         المراجعة اللغوية والمعلوماتية: د. نعمان الهيمص

         الطبعة الأولى 2019، مطابع دار الأديب، عمّان، الأردن

      ما فتئت أحزانُ “شارع الرشيد” بعد انهيارات 2003، تُمزّقُ قلوب البغداديين..أنا شخصياً، مشيتُهُ سنة 2005، من ساحة الميدان، مروراً بساحة الرصافي، فساحة حافظ القاضي، فساحة الباب الشرقي، فانهمرت دموعي حسرة على جمالات هذا الشارع “الأثير” عند البغادّة، أو البغاددة، أو البغداديين، كنتُ أمضي من مقهى الى مقهى، ومن زقاق إلى زقاق، ومن دكان إلى دكان، نازفاً ما امتلأت به شرايين دمي من حسراتٍ على ذكرياتنا التي لم أجد لها أثراً على رصيف أو في واجهة مبنى، أو محل، أو حوالي مئاتِ الأعمدة التي اعتدنا أنْ نسميها “دنك” وواحدتها “دنكه”.  

    هذا الشارع الذي كان بهياً مكتنزاً بجمالاته حتى مغادرتي العراق أواخر سنة 1998، رأيتُه  لمرّاتٍ ومرّاتٍ في 2005، 2009، وخلال سنوات (2011-2016)، وسنة 2022، فلم أرَ إلا “بقايا ذكريات” مرميةً في الأوحال، والنفايات التي قتلت الشارع، كرهاً بـ”رشيده” هارون ذي العصر الذهبي في هذه المدينة التي تغنّت بأمجادها يوماً كوكب الشرق، عندما أنشدتْ قصيدة الشاعر المصري محمود حسن اسماعيل، بألحان الفنان الكبير رياض السنباطي: 

    بغداد يا قلعة الأسودِ   

    يا كعبةَ المجد والخلودِ

    يا جبهة الشمس للوجودِ

    سمعتُ في فجركِ الوليدِ 

    توهّج النارِ في القيودِ

    وبيرق النصر من جديدِ

    يَرجِعُ في ساحة الرشيدِ        

   وحسب كتاب صديقي الأريب الأستاذ سعدون الجنابي، فـ”شارع الرشيد مقر النخبة في العراق من سياسيين وكتاب وشعراء وأدباء ومثقفين في مختلف التخصصات”. وفيه “بيوتات ثقافية”، “مقرّات الحكومة، وسكن الملوك والبعثات الأجنبية”.  و”كان شاهداً على جانب مهم من جوانب الصراع السياسي بين القوى والأحزاب المختلفة”. وفيه أيضاً “مقرات لشركات تتعامل مع العالم في الاستيراد والتصدير وبنوك ومصارف متنوعة، ومركز الاتصالات العالمية”.

     ويقول المؤلف “تعتمد هذه الدراسة على مذكرات ومشاهدات شخصية للكاتب على مدى أكثر من نصف قرن، فقد ولد في محلة المربعة، التي تعدّ محلة التعايش الديني بحق، إذ سكنها يهود، ومسيحيون، ومسلمون من الطوائف كافة”. و”سُمّيت بالمربعة، حسب ما ذكره الراحل الكبير د. حسين أمين، لأنها بحدودها تشبه المربع”.

   ويسترسل الأستاذ سعدون الجنابي في الحديث عن سيرته بشارع الرشيد قائلاً “ولدتُ في العام 1947، في منطقة المربعة، وولد معي في السنة نفسها ابن جيراننا داود بن سليمان، وهو يهودي، وموفق إبن أم ناصر وبولص إبن كوريا، وهما مسيحيان، وعامر السعودي”. و”العيش بالمربعة يعني أن نكون ملتصقين بشارع الرشيد”… “كبرنا على أخلاق البغادّه: حب الآخر، مساعدة المحتاج، احترام الكبير، تعلمنا الحيا حضوري (الحياء في حضرة الكبار)، أي الخجل المهذب، وحسن التصرّف، واحترام خصوصية الآخر، وحب التعلم والدراسة، والفرح بأفراح جيراننا، والحزن لحزنهم”.

     وكان المؤلف طفلاً، يوصل ظهراً سفرطاس الغداء إلى محل والده المجاور لجامع سيّد سلطان علي، وفي طريق عودته يطيل زيارته لـ”مخازن تجارية تسمى أوروزدي باك، وهي بمرتبة المول في تسميات الحاضر”. ويذكر أنّه يتعرّف على “الأدوات الكهربائية والموسيقية والمشروبات الغازية والكحولية ورفوف تزخر بأنواع الكتب العربية والأجنبية بلغات مختلفة، والأسطوانات والملابس، والعطور الرجالية والنسائية”. ويضيف: “لاحظتُ قصوراً كبيراً من الباحثين من الكتاب والأدباء تجاه بغداد وشارع الرشيد ومعالمهما”.

   ويؤكد الكاتب قائلاً “هذا الكتاب عن شارع الرشيد…يوثق صوراً محكية، وبصرية عن شارع لخّص تاريخاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً لمدينة حضارية عريقة”. ويقول: “إنّ دوافعي التوثيقية لا تخلو من همّ أريد له الوضوح التام، وهو الدفاع عن الألق الحضاري لشارع تتعرض عمارته ومفاخر أمكنته الاستثنائية إلى التخريب والإهمال والتآكل والتهميش”. والكاتب يعد شارع الرشيد “رمز مدينة بغداد، عاصمة السلام، ورمز التكوين الأول للدولة العراقية الحديثة”. 

    وإذ أحيي الصديق الكاتب الجميل الأستاذ سعدون الجنابي (أبا سلمى، وسارة، وعلي، لكي لا يزعل علينا أحدٌ من أولاده)، أعبّر عن شكري لمطابع دار الأديب بعمّان في المملكة الأردنية الهاشمية على عنايتها بنشر هذا المطبوع المهم، كما أود أنْ أشكر صديقنا الدكتور نعمان الهيمص على مراجعته اللغوية والمعلوماتية للكتاب.

     ولنا مع رحلة الجنابي في ذاكرة شارع الرشيد، نظَراتٌ ونظراتٌ، نكشف فيها للقارئ المزيدَ من أسرار “الرشيد”، والكثير من مسرّاته القديمة، وأحزانه الجديدة التي “تتفطّرُ” لها قلوبُ البغداديين.   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عندما تقرأ كتابه “رحلة في ذاكرة شارع الرشيد”، ستكتشف “سر الشارع” في الرقم “4”، ويقول الجنابي عن بغداد: هي “مدينة ألف ليلة وليلة”..هكذا بدأ المترجم الصحافي الكاتب الأستاذ سعدون الجنابي حديثه لمحاوره الأستاذ أنور ترجمان في بودكاست “المهاجرون” بواشنطن. وتابع الجنابي -المقيم في ولاية فرجينيا الأميركية- قائلاً: وبغداد، حكمها العباسيون، والعثمانيون، والانكليز!.

    وقدّم نفسه لمشاهديه، أنه مولود سنة 1947، ببغداد، وفي منطقة لا تبعد عن شارع الرشيد، سوى عشرة أمتار، وأكملَ دراسته الثانوية عام 1964، وتخرّج في الجامعة باختصاص اللغة الإنكليزية سنة 1968، ومارس التدريس حتى سنة 1980، وأتيحت له فرصة القبول لمتابعة دراسته اللغوية في الترجمة الفورية والتحريرية بالمملكة المتحدة. بدأ رحلته فيها بمدينة “يوك” لتقوية لغته، ثم درس الماجستير لسنتين في “أدنبره”.

     وقال إنّه برغم تخصصه بدأ عمله الصحافي من مندوب، فمحرّر، ثم كاتب، ثم أصبح فيما بعد سكرتير تحرير الصحيفة العراقية “The Baghdad Observer” التي كانت تصدر باللغة الإنكليزية.

    ومنذ سنة 1983 حتى سنة 1990 –يقول الجنابي- استمررتُ بعملي الصحفي، ثم حدث ما حدث، فتغيّرت البوصلة، بعد أنْ دقّت طبول الحرب عام 1991، فأصبحتُ مدير العلاقات لوزارة الثقافة، ثم أضيفت إليّ  مهمة القيام بعمل مدير المركز الصحفي الأول في فندق الرشيد، كما أصبحتُ المشرف الميداني لعمل الصحفيين الأجانب في العراق، وكان من صلبِ مهماتنا أنْ نغطي جميع مناطق بغداد ومدن العراق التي قُصفت. وكنتُ أرافق الصحفيين الأجانب في سائر جولاتهم. وانقطع عملي الوظيفي -لا الصحافي- سنة 1995، بعدما طلبتُ إحالتي إلى التقاعد.

     وفي عام 1996، عمِلَ الجنابي في اليونيسيف، ثم في “UNDP”، أي برنامج الإمم المتحدة الإنمائي، وبعدَ عمله في BBC من سنة 1998 إلى سنة 2001، اشتغل لستة أشهر من سنة 2002 في CNN، ثم في CBS بين سنتي 2002-2005، ليعمل مديراً للترجمة في قناة الجزيرة سنة 2006.

     يضيف الجنابي زافراً حسراتٍ يكتنفها صدرُه: ولأنني بلغتُ من العمر عتيّا، صار لزاماً عليّ أن أبحث لأولادي عن مجالات أفضل للدراسة والعمل، لكنّ الأزمة التي عشتُها بعد الاحتلال، وسقوط النظام السابق، باختطاف أحد أولادي، كانت أهم دوافع مغادرة العراق إلى سوريا سنة 2007 ، وبقيت فيها إلى سنة 2011، منتقلاً إلى عمّان، ثم غادرتها في شهر نيسان من سنة 2014، متوجّهاً إلى الولايات المتحدة!.

ويؤكد الجنابي مستدركاً: “كنتُ قد ذكرتُ المزيد من هذه التفاصيل في كتابي الأول الذي أصدرته عام 1992 بعنوان: يوميات صحفي في فندق الرشيد”.

    وهذا هو رابط حواره إنْ رغبتم في المزيد:

مقالات ذات صلة