تحليل سياسي

   توماس فريدمان*: أميركا في مواجهة العالم الصناعي..

انتابني العديد من ردود الفعل إثر تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى حد كبير عن خطته لفرض رسوم جمركية على العالم. عليكم بالتفكّر فيما ردده ترامب مراراً وتكراراً خلال الأسابيع الماضية هو ومجموعة من المسؤولين في حكومته، مثل هوارد لوتنيك (وزير التجارة)، ومساعده، سكوت بيسنت (وزير الخزانة)، ونائبه، بيتر نافارو (كبير مستشاريه التجاريين) حيث قالوا: لن يتراجع ترامب عن هذه الرسوم لأنه يحتاجها لعدة أسباب يمكنك الاختيار من بينها، مثل منع مخدر الفنتانيل من قتل أطفالنا، أو لزيادة الإيرادات لتغطية التخفيضات الضريبية المستقبلية، أو للضغط على العالم لشراء المزيد من السلع الأميركية، وهو لا يكترث بما يقوله أصدقاؤه الأثرياء في وول ستريت عن خسائرهم في سوق الأسهم.

       وبعد أن أحدث ترامب ارتباكاً في الأسواق متمسكاً بهذه «المبادئ» الثابتة، والتي دفعت العديد من الأميركيين إلى بيع الأسهم بأسعار منخفضة بدافع الخوف، تراجع عن الكثير منها يوم الأربعاء الماضي، معلناً تعليقاً لمدة 90 يوماً لبعض التعريفات الجمركية على معظم الدول، باستثناء الصين.

        وجاء ذلك برسالة إلى العالم وإلى الصينيين مفادها: «لم أستطع تحمل الضغط»، ولو كان كتاباً لكان عنوانه «فن الصياح». لكن لا تظنوا للحظة أن كل ما خسرناه هو المال، إذ تبخر أيضاً الكثير من الثقة التي لا تُقدر بثمن. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، أخبرنا أقرب أصدقائنا في العالم، متمثلين في الدول التي وقفت بجانبنا بعد أحداث 11 سبتمبر، في العمليات العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، أننا سنعاملهم على قدم المساواة مع الصين أو روسيا، حيث سيخضعون جميعاً للتعريفات الجمركية وفقاً لنفس القاعدة – ولن يُسمح بخصومات للأصدقاء والعائلة.

     هل تعتقد أن هؤلاء الحلفاء المقربين السابقين للولايات المتحدة سيثقون بالتعاون العسكري إلى جانب هذه الإدارة مرة أخرى في المستقبل؟ كان ذلك بمثابة المعادل التجاري لخروج إدارة بايدن الفاشلة من أفغانستان، والذي لم تتعافَ منه تماماً. لكن على الأقل، أخرجنا جو بايدن من حربٍ باهظة التكلفة لا رابح فيها، والتي أرى أن أميركا الآن في وضعٍ أفضل بكثير.

      إن ترامب قد وضعنا في حربٍ لا يمكن الفوز فيها.  كيف ذلك؟ هناك بالفعل خللٌ في الميزان التجاري مع الصين يحتاج إلى معالجة. ترامب مُحقٌّ في ذلك. تسيطر الصين الآن على ثلث التصنيع العالمي، ولديها المحركات الصناعية اللازمة لتوفير كل شيء تقريباً للجميع يوماً ما إذا سُمح لها بذلك.

      وهذا ليس جيداً للولايات المتحدة أو لأوروبا أو للعديد من الدول النامية. بل إنه ليس جيداً حتى للصين، نظراً لأنها تخصص الكثير من الموارد للصناعات التصديرية، في حين تحتاج شبكة الأمان الاجتماعي التي تقدمها لشعبها، والنظام العام للرعاية الصحية إلى مزيد من الاهتمام. إلا أنه في حالة التعامل مع بلدٌ بحجم الصين، يبلغ سكانه 1.4 مليار نسمة، ويمتلك هذا القدر من المواهب وبنية تحتية ومدخرات هائلة، فإن السبيل الوحيدة للتفاوض هو استخدام نفوذنا. وأفضل طريقةٍ لتحقيق النفوذ تتمثل في أن يحشد ترامب حلفاءنا في الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والبرازيل وفيتنام وكندا والمكسيك والهند وأستراليا وإندونيسيا في جبهةٍ موحدة، لجعلها مفاوضاتٍ بين العالم بأسره وبين الصين. ثم نقول لبكين: سنرفع جميعنا تدريجيا تعريفاتنا الجمركية على صادراتك خلال العامين المقبلين للضغط عليك للتحول من اقتصادك القائم على التصدير إلى اقتصادٍ أكثر تركيزاً نحو الداخل. لكننا ندعوكم أيضاً لبناء مصانع وسلاسل توريد في بلداننا، من خلال مشاريع مشتركة بنسبة 50-50، لنقل خبراتك إلينا بالطريقة ذاتها التي فرضتم علينا أن ننقل بها خبراتنا إليكم. لا نريد عالماً مُقسّمًا يكون أقل ازدهارًا للجميع وأقل استقراراً.

      ولكن بدلاً من جعل العالم الصناعي بأكمله ينافس الصين، جعل ترامب الأمر يبدو وكأن أميركا في مواجهة العالم الصناعي بأكمله والصين معاً. الآن، تُدرك بكين أن ترامب لم يكتفِ بالتراجع، بل أبعد حلفاءنا تماماً، لدرجة أن الكثير منهم قد لا يتحالف معنا لمنافسة الصين بنفس الطريقة، بل قد يرون الصين شريكاً أفضل وأكثر استقراراً على المدى الطويل مقارنة بنا. يا له من أداءٍ مُخجل ومُخزٍ!

                                                                             توماس فريدمان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشر المقال في صحيفة “الاتحاد” الظبيانية في 12 نيسان-أبريل 2025. ولأهميته الفائقة، أعدنا نشره.    

مقالات ذات صلة