تفجير كنيسة (مار الياس)..اغتيال لبقايا جمال شرقي من طراز خاص



من جرمانا حيث أقيم، وصولاً الى كَراج (العباسيين)، يقلني صباحاً (بولمانٌ) عجوز، هو نسخة شبه قديمة من (الكوستر) (البغدادي). يحشر في جوفه عشرات الركاب، بين جالس وواقف، مع بدء نهارات دمشق المكتظة بالحياة، قبل أنْ يأخذني (سيرفيس) ابيض يحاكي (فوردات) زمان، الى مكان عملي في (مؤسسة “الأيام” الاعلامية) بضاحية الأسد، والتي تُصدرُ مجلةً تحمل الاسم نفسه، تُعَدُّ واحدةً من أهم نشاطاتها المتنوعة، ويرأس تحريرها الصحفي والكاتب المعروف عامر بدر حسون.
رحلةٌ يوميةٌ، تعيش تفاصيلها في ذاكرة مجزأة بين مدينتين، واحدة ودعتها في ربيع 2006 بالدموع، وثانية اتخذتها محطة مؤقتة في انتظار عبور الاطلسي الى منفاي الاختياري (كندا) التي بلغتها في خريف 2008. مدة اقتربت من العامين ونصف العام، شابها الكثير من القلق والتوتر المتراكمين، وخوف مشروع مما يحمله المجهول.

يمضي الوقت سريعا مهما طال أمده بمراقبة المحال والعمارات وحركة الناس عبر النوافذ، أو بدقائق شرود تتخللها نداءات: (ياللا حجي)، (ع السفارة)، لا ع(الصناعة)، وصولا الى الباب الشرقي، قلب (دار السلام) الذي أرهقته السنون..
صرخاتُ أحداثٍ نصف أجسادهم في الهواء، مُعَلَّقين بتلابيب سيارات سريعة، يسعون من خلال الانهماك بدوامتها، إلى ما يؤمن قوتهم اليومي في شوارع بغداد المترامية الأطراف.
صورة صرتُ أتخيلها باستمرار، بعد مشهد طفل كبير يقف بالقرب مني داخل الباص الدمشقي ذاك، حاملا كُتبهُ ذات صباح. اجهش بالبكاء، بل انفجر باكيا بدموع غزيرة، لأنه نسي ان يقول للسائق: (ع اليمين معليم) او (ع اليمين لو سمحت) طلباً للترجل في حي (الطبالة) الذي يسبق (الدويلعة) بقليل.

اكتشفتُ انه تلميذ عراقي ستنفد (ميزانيته) المقررة، ولن يملك ما يكفي من نقود صغيرة تضمن رجوعه الى (البيت) في نهاية الدوام، اذا ما دفع اجرة اضافية للعودة الى المدرسة التي فاتته. وهي لا تزيد عن ليرات عشرٍ وقتذاك، على ما اذكر. طيبتُ من خاطره ونقدته خمساً وعشرين ليرة كي ازرع في نفسه أمنأً واطمئناناً فقدهما في لحظة حرج.
وواقعاً، هي لم تكن لحظة واحدة فقط، بل لحظات تناسلت، لتشَكِّلَ زمناً صعبأً، أثقل كاهل صغارٍ يحاولون التكيف مع أوضاع جديدةٍ خارج مدنهم، وفي مدارس غير مدارسهم. واربكت كباراً خرجوا على عجالة، فانقلبت حياتهم رأساً على عقب، بعد ان تيقنوا ان الوطن القائم فوق تلك الارض التي كانت طيبة، لم يعد يسعهم ولا صالحا لهم، في ظل عنفٍ متفجرٍ يحرق الاخضر واليابس، ورعبٍ يكمن للجميع في المداخل والمخارج.

لم يكن الامر سهلا، رغم كل ما وفَّرهُ الاخوة السوريون من ظروفٍ وتسهيلات، ورغم الثقل الذي سببه مئات الاف من عراقيين، يتوافدون بكثافة يومية على العاصمة والمدن الكبرى. فالعراقي، ومهما كان سعيدا في حياته خارج الوطن، يظل يعيش وكزة (من غادر دارَه يقلُّ مقدارُه).
عندما كنت امر بالدويلعة كل يوم، كان (البولمان) (بيُمْرُق) في شارع مزدحم امام مجموعة كنائس، من بينها كنيسة (مار الياس) ببنائها الشامخ وصليبها المحفور في الواجهة. اسمع رنينَ الناقوس في الصباح ممتزجاً بصوت فيروز الذي يستنشقه الجميع مع اقداح الشاي والقهوة. أتامل مشهد الناس يدخلونها لحضور قداس الاحد، فاشعر بغبطة تعتصرها حسرة على اماكن مماثلة تتوزع انحاء مختلفة من بلاد غادرتُها، مدركا حقيقة تشبه الصفعة بانني لن أعود اليها يوما.

جمالٌ، اغبطهم عليه كلما عايشتُ تلك المشاهد التي هوت من صفحات تأريخ (ما بين النهرين) مثل اوراق الشجر المتساقطة في موسم الخريف. أسترجع احاديث اصحاب سوريين في مجالس تجمعنا، يتوجسون خيفة من عواقب مصابٍ يُولِمُّ بالشام شبيه بما حصل في العراق. يقولون ذلك بكلام هامس، ثم يرددون: (سوريا الله يحاميها).
تراودني همومهم واسمع اصواتهم الخافتة تلك، فاقول لهم، وكأنني أُحَدِّثُ نفسي على الطريقة العراقية: (الله لا يجعل). و(الشر بره وبعيد) كما يدعو اخوتنا المصريون.
تغزو مخيلتي تلك الخواطر مثل كابوس ثقيل وانا ادخل بعض كنائس دمشق وازور الاديرة القريبة في بعض (الضِيَع) والارياف والضواحي. في (دير سيدة صيدنايا) و(الشيروبيم) (جوقة الملائكة المذكورة في عدة مواضع من الكتاب المقدس _ ويكيبيديا). في (وادي النصارى) بمحافظة حمص. في (معلولا) التي أمضيت فيها بضع ليال استيقظ فيها مع الفجر، واتدثر ببطانية سميكة صيفا، جالسا في الشرفة، متأملا الكنائس والصوامع والبيوت المنحوتة في الصخر والمشيدة فوقه وتحته، بطريقة تجعل التمييز بين حجارة الجبل والبناء امرا عسيرا احيانا!!

ذكرني الأمر بليلة ليلاء ذات صيف في دير (الربان هرمزد)، على سفح جبل القوش، أُضطررت فيها الى سحب نصف الفراش من تحتي وطيه كي اجعل منه غطاءً يقيني البرد القارس.. .. بردٌ (حبيب) يداعبك بهدأة لذيذة شفيفة، لكنهااليوم، يعتريها خوف حقيقي من رِدَّةٍ تريد اجتياح ما تبقى من جمال شرقي، عبر سنوات (داعشية)، وعقائد ظلامية تشد عقارب الزمن الى وراء.. وراء جداً، في بلدان هي مهبط الرسالات السماوية العبقة بتاريخ وضّاء يشع على المعمورة كلها.
عندما كنت اعود الى البيت في نهاية النهار، كان (البولمان) يتخذ طريقا مختلفا في الإياب، فيسلك شارعا خلف تلك الكنائس، يمر بالـ(زبلطاني) و(باب شرقي)، لكنني كنت المح بسهولة الاجزاء العلوية من القباب او ابراج النواقيس والصلبان.

وفي مساءات الآحاد، تزدحم دور الصلاة والتعبد تلك بمصلين يُهرعون الى تلك الاماكن، لأنها فرصتهم الافضل، لاداء طقوس يحرصون على حضورها بعد انتهاء ساعات العمل، اذ ان معظمهم يشتغلون موظفين في دوائر الدولة او مؤسساتها او في الشركات والاعمال الحرة، او طلبة من مختلف المراحل الدراسية..
ومن هنا كان مدبرو التفجير (اختاروا) التوقيت (الافضل) لارتكاب عمليتهم تلك. مساء الاحد 23 حزيران 2025.. وفي كنيسة تعد الأكثر استيعابا في سوريا كلها.. تتسع (350) شخصا، كي يلحقوا اكبر خسائر بشرية ممكنة. وكادوا ان يحققوا مآربهم لولا الشهداء الشجعان الذين تصدوا لهم، عندما القوا باجسادهم على (الانتحاري) ذي الحزام الناسف، فتحولوا الى أشلاء، انتصرت ارواح اصحابها لقيمِ جمالٍ شرقي من طراز خاص، معمدٍ بالقدسية والمحبة والتسامح.

جمال، تمثل بالوجود المسيحي الذي طالما تفاخر به أبناء اﻻديان والطوائف اﻻخرى، واصفين إياه ب(المكون الأصيل) و(ملح اﻻرض) الذي يراد له البقاء ينبوعا دافقا بالمحبة والتسامح، يعانق ينابيع اخرى تؤمن بمعاني اﻻنتماء المشترك للوطن، لكنه وللاسف مهدد اليوم بالتآكل او الزوال والأفول اكثر من اي وقت مضى، بسبب ما تعرض له من تهميش ومضايقات واضطهاد وصلت حد شن هجمات مدروسة على اﻻديرة والكنائس، واغتيال أساقفة وكهنة وراهبات أو اختطافهم. وكذلك الحال مع مواطنين أبرياء عُزّل من كل اﻻعمار، فضلا عن عمليات اﻻستيلاء على دورهم وممتلكاتهم، ليس في العراق وحده بل في بلدان أخرى مثل مصر، بالإضافة إلى سوريا طبعا، رغم اختلاف الزمن والظروف واﻻماكن.

كل ذلك القى بظلاله الثقيلة على واقعهم ومستقبلهم، وتطايرت شظايا ترهيبهم إلى معظم اﻻماكن التي اقاموا فيها، وتحولت الى بذور لزرع الخوف والفتنة والكراهية والتَزَمُّت الأعمى، ورياح مسمومة مصدرها الأفكار الظلامية السوداء الرامية الى التفريق بين أبناء الوطن الواحد.
وكل ذلك ايضا، يقرع ناقوس خطر حقيقي تقول دقاته إن الوجود المسيحي العريق في الشرق العربي يعيش اصعب ازمنته.. خصوصا في ظل غياب الديموقراطيات الصحيحة، وأوضاع سياسية معقدة قائمة على المساومات والمتاجرات والتحالفات والوﻻءات والمصالح الفئوية الضيقة التي تجعل كل اﻻمور بعيدة عن تحقيق حلم بناء الدولة المدنية والمواطنة الكاملة التي تعد طوق النجاة الفاعل للخروج من نفق مظلم طال أمد العيش تحت وطأتهِ، ليس للمسيحيين، وحدهم بل لكل أبناء العراق الطيبين..
