تركيا والحرب الروسية-الأوكرانية..قراءة من الوجه الآخر
ــــــــــــ بقلم: د. خالد فتحي خالد الأغا ــــــــــــ
لا أعرف بلدة تستدعي الكتابةُ عنها استحضارَ جملة من العلوم والمعارف كما تستدعيها الكتابة في تركيا أو عن شأن يتعلق بها، فمن تاريخ تمتد جذوره في عمق الزمان إلى انتشار جغرافي تَراوَحَ بين مدٍّ وجزرٍ، مروراً بالحديث عن طبائع الأمة التركية، وانتهاء إلى تاريخ تركيا الحديث، ونظراً في تأرجح واقعها بين عوامل القوة والضعف؛ من ذاك إلى هذا يحتاج الكاتب إلى قراءة جَرْدٍ فاحصةٍ مشفوعةٍ بالقدرة على النظر الكلّي الذي يستحضر الصورة الكلية أولاً ليستعين بها على قراءة الحوادث الجزئية ثانياً.
لا يكفي في مثل الأنموذج التركي ما يمكنُنا أن نُسمّيَهُ: (القراءة الهيكلية)، وهي القراءة التي تستند إلى الفواعل السياسية والأمنية والجغرافية والاقتصادية وغيرها من العوامل المادية التي تتم بها عادة قراءة الموقف أو تحليله، لأنها باختصار قراءة مادية محضة، جاءتنا من ثقافة وافدة، تتعامل مع الدولة والأمة والحدَث تعامُلَها مع الإنسان، فتفترضه هيكلاً خاوياً آلَةً لا روح فيها، وكذلك حين تتعامل مع الأمة والدولة، وأمّتُنا والدول التي قامت فيها عبر التاريخ -ومنها الدولة العثمانية- ليست هكذا، بل ثمة عوامل أخرى كان لها أثر كبير في صناعة التاريخ في أطواره المختلفة نهوضاً كان أو تراجعاً، عوامل دينية وثقافية وأخلاقية ليست آثارُها دون آثار العوامل المادية بحال.
وليس من الإنصاف في البحث العلمي أن نجرد تاريخنا عن تأثير الدين الإسلامي في صناعته، لنقرأَه قراءة تتفق مع مُيول من يقول إنه لا علاقة في الإسلام بين الدين والدولة، فلا أصول التشريع الإسلامي تتفق مع ذلك، ولا الحقائق التاريخية تسانده، ولا الأمة العربية ولا التركية ولا الهندية ولا الفارسية ولا غيرها من أمم الشرق كان سيرتفع لها شأنٌ لولا الإسلام، ولو أن الإسلام حُذف من تاريخ هذه الأمم فما عساه يبقى لها من تراث وحضارة”1″.
الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه أن كُلّ حسنةٍ تُذكر في تاريخ الشرق فللإسلام الفضل الأكبر في صناعتها، وكُلّ سيّئةٍ وقعت فيه فإنما كانت للخروج عن أصول الإسلام التي جاءت بتمام التوافق مع السنن الكونية القدرية في بناء الأمم والدول، وهذه الجملة تحتاج في شرحها إلى وقوف طويل، لكن مما يذكر هنا أن الإسلام راعى في سياسته طبائع الأمم والشعوب، ولعل في الحديث المرويّ: اتركوا التركَ ما تركوكم، إشارَةً إلى ذلك، فإن الإسلام دين للبشرية كافة، والناس متفاوتون في طرق اقتناعهم، فمن اتصف بالصلابة والبأس منهم لم يكن إقناعه بمصادمته، بل يُترك حتى يبين له الحقُّ جلِيّاً، فإذا آمن به عن قناعة ورضا كان من أشد الناس تمسكاً به، وهذا ما ذكره المؤرخون في طبائع أمم الترك”2″، ولذا لم يحتك الفاتحون الأوائل بالأتراك إلا شيئاً يسيراً لمّا وصلوا إلى حدود نهر جيحون زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عبد الله بن زياد الأموي الأمير قد نقل بعض من أسلم من الترك إلى بغداد سنة (675م)، ثم لما تمكن المسلمون بقيادة قتيبة بن مسلم من بلاد ما وراء النهر وقعت بعض الحروب مع الترك، لكنها كانت سبباً لتعرف الأتراك على الإسلام، وقد ذكر المؤرخون أسبابا دينية واجتماعية وغيرها حملت الأمم التركية على اعتناق الإسلام، ومما يستشهد به المؤرخون على أن اعتناقهم الإسلام كان طواعية عن رضا واختيار أن الفتح الإسلامي لبلاد الترك كان في بدايات القرن الثامن، بينما وقع دخول الأتراك إلى الإسلام في صورة اجتماعية في القرن العاشر، وأول حكام الأتراك الذين اعتنقوا الإسلام هو صاتوق بوغرا خان حاكم الدولة القراخانية عام 924 للميلاد، تعرف على الإسلام عن طريق التجار المسلمين، فأسلم، وبإسلامه اعتنق آلاف الأتراك دين الإسلام، ثم كان من دور الترك في صناعة التاريخ الإسلامي ما يعرفه القاصي والداني، وبذلك يتجلّى سرٌّ من أسرار قوله: اتركوا الترك ما تركوكم.
بعد غياب الدولة العثمانية تعرضت الأمم التركية إلى محاولات كثيرة لمحو هُوّيتها الإسلامية، وطالت مُحاولات التغريب الدين واللغةَ والثقافة، كما طالت الجغرافيا والتاريخ أيضاً لفصل حاضر الأمة عن ماضيها، وبالرغم من قرب الشعوب التركية من الشعوب الأوروبية النصرانية إلا أن الهُويّةَ الإسلامية لا تزال حاضرة بقوة في المجتمعات التركية”3″،فوفقاً لتقرير مؤسسة (كوندا)المتخصصة في دراسات المجتمع التركي ذكر تقرير أن (69.4) من المجتمع تلتزم نساؤهم بالحجاب”4″ ،كما أن اللغات الأجنبيةَ قليلة الحضور رُغْمَ التجاور الجغرافي بين الشعوب، وهذه ظواهر جديرة بالعناية والدراسة.
من الباحثين من يذهب إلى أن تركيا الحديثة أنموذج مصغّر عن الدولة العثمانية”5″، لا في علمانية الدولة بالطبع، لكن فيما تمتلكه من الأسباب والمُقَوِّمات التي تؤهلها لاستعادة دورها ومكانتها التاريخية، وإذا أُحْسِن استثمار هذه الوسائل فمن الممكن أن تستعيد مكانتها في زمن يسير، خاصة إذا لا حظنا أن جميع المحاولات التي سعت ولا تزال تسعى إلى تشويه صورة الدولة العثمانية لم تستطع أن تزيل مكانتها الرفيعة من نفوس الناس، وهذا عامل مهم جداً ينبغي لشداة الإصلاح من الأمة التركية وغيرها من أمم الشرق استثماره، فثمةَ إذن عواملُ داخلية وخارجية من جهة، وماديةٌ ومعنوية من جهة أخرى تشكل عناصر أساسية في أية معادلة تتعلق بالوضع التركي، وعلى قدر واقعية القراءة لطبيعة هذه العناصر ونِسَبِها وتفاعلاتِها تكون توقعات النتائج أقرب إلى الصواب.
واقع تركيا الحالي يفرض عليها ميزاناً دقيقاً في التعامل مع الحرب الروسية الأكرانية، فهي عضو في حلف الناتو، وعلى علاقات متعددة المستويات مع روسيا وأكرانيا، إضافة إلى موقعها الجغرافي على البحر الأسود، وتحكمها في المضايق البحرية، وتقاطع مصالحها مع المصالح الروسية في عديد من الملفات في أواسط آسيا، وفي حوض المتوسط، والبلقان، ودول الشرق الأوسط، كل هذا يفرض على تركيا حساب كل خطوة بالنظر في جميع هذه الملفات.
يظهر من المواقف والتصريحات المتوازنة للقيادة التركية أنها تتجنب أن تخوض أية مواجهة مع روسيا مهما كان نوعها، وإن أعلنت رسمياً معارضتها للحرب، وتأييدها وحدة الأراضي الأوكرانية، خاصة مع مواقف حلف الناتو المتقاطعة مع المصالح التركية في الشأن السوري وغيره، وقد استندت تركيا إلى التطبيق الحرفي لاتفاقية المضايق، كما فعلت عام 2008 لما احتلت روسيا الأراضيَ الجورجية، حيث أغلقت تركيا المضايق أمام سفن الناتو المتجهة إلى البحر الأسود، فخفف هذا من حدة المواجهة بين الناتو وروسيا، ويمكن أن يُتّخذ هذا قرينة على وِجْهَةِ السياسة التركية نحو الأحداث الجارية، ولذا فمن المتوقع أن تظل تركيا محتفظة بمكانة الوسيط بين الطرفين، وعلى اتصال مع الأطراف الدولية المعنية بالأمر كالناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية ثانية فبالنسبة لروسيا لا توجد دولة أخرى يمكن أن تكون وسيطا في هذه الأحوال سوى تركيا، وهو أمر يفسح لتركيا المجال لمناورات سياسية تتفق مع مصالحها.
التوازن في علاقات تركيا مع الغرب والشرق في ظل توجهات تركيا الحديثة معادلة أخرى، لكن في الوقت نفسه فإن أية ضغوط تُمليها الحرب الروسية الأكرانية على الوضع التركي سيثبت لتركيا صحة قراراتها السابقة في العودة إلى محضنها الأساسي الذي عاشت فيه قرونا طويلة، وهذا سيزيد تركيا استقلالاً في قراراتها، وقناعةً بصحة المسارات المستقلة التي سلكتها من قبل.
صحيح أن الحروب والأزمات توقع الأمم والشعوب في الشدائد، لكنّها تَسْتَبْطِنُ كثيراً من الحِكَمِ”6″، وإذا كانت تركيا من أكثر الدول عرضة لآثار الحرب المادية لأسباب عديدة، فإنها بالنظر إلى العوامل المعنوية التي سبقت الإشارة إليها من أكثر الدول استعدادا لليقظة، وبحسب قدرة القيادة على الجمع بين العوامل المادية والمعنوية إدارة واستثماراً يُتوقع أن تكون النتائج، فالأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم وازدادت تفاقما مع اندلاع الحرب الروسية الأكرانية قد تفتح الباب أمام تركيا لابتكار سياسات جديدة تخفف من آثار الأزمة على البلاد، لكن الإدارة الرشيدة من مهامها اقتناص الفرص، وإحياء الأسباب المعنوية التي من شأنها التعجيل بعجلة النهوض، وعلى رأس هذه الأسباب المادّةُ الأساسية التي كانت روح تاريخ الأمة التركية، ولولاها لم يكن للأمة التركية مكانة ولا تاريخ ولا حضارة، إنها الإسلام، ولا شيء سواه، وأكبر دليل على هذا أن الإسلام هو الذي مَكّن الدولة العثمانية من احتضان الحضارات المختلفة زمن اتساعها، دون أن تحتاج إلى إقصاء طرف على حساب طرف آخر”7″، ومن يروم الإنصاف في البحث العلمي فلا يسعه إهمال هذه الحقيقة، وكذلك من يروم النهوض بالأمة التركية، فترميم الأطلال واستخراج الآثار لا يكفي وحده لنهضة الأمة إن لم يعمل المصلحون على بعث هذه الروح فيها من جديد. 18/6/2022
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“1”- قد أحسن المصنف الأستاذ عثمان نوري طوباش في كتابه: العثمانيون، رجالهم العظام، ومؤسساتهم الشامخة، إذ حاول إبراز الجوانب المعنوية من التاريخ العثماني، فخرج بذلك عن المعهود في قراءة التاريخ قراءة جافة لا روح فيها. الكتاب من ترجمة د. محمد حرب، مراجعة وتصحيح: محمد أقوموش، ط: 2018، دار الأرقم، إسطنبول.
“2”- كلمة (تورك) في اللغة التركية، تعني: القوي، وقد كان أصول الأتراك الذين عاشوا في أواسط آسيا قبل أربعة آلاف سنة تقريبا معتادين على تربية الثيران والإبل، معتادين على القتال والصيد، فهم مقاتلون بالطبع، كما كانوا يعظمون النسور، ويزينون مقابرهم بمخالبها. وللتوسع في هذا الباب يمكن مطالعة كتاب: التاريخ التركي قبل الحقبة العثمانية، يلماز أسطونا، نقله إلى العربية: أرشد هورموزلو،ط1، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، 2021.
“3”- الهوية الإسلامية جعلت الشعوب التركية أقرب إلى الأمة العربية وأمم الشرق منها إلى أمم الغرب، فالتقارب بين الأمم التركية وأمم الشرق ومنها الأمة العربية حتمي، ولا بد لتحقيق هذا التقارب من العودة إلى الماضي، لكثرة العوامل المشتركة التي تعين كل أمة على فهم الأخرى.
“4”- نشر التقرير بتاريخ 26/مارس، 2017.
“5”-من رواد هذه الفكرة الأستاذ أحمد داود أغلو، في كتابه العمق الاستراتيجي.
“6”- مما تُرجم شعراً من شعر شكسبير، الشاعر المعروف، قوله: إنّ النوائبَ حيّةٌ رقطـــــاءُ في أنيابِها السمُّ الزعاف الساري لكنّ فــي فيها جواهرَ أُخْفِيتْ تَزْهو على التِّيجان يوم فخار
“7”- تركيا من العمق الاستراتيجي إلى العمق الحضاري، د. الزبير خلف الله، موقع ترك برس، 24/2/2015.