بيتٌ بلا أسوار.. أيّام “عابرة” للطائفية وتداعيات الانحياز الديني والقومي!!
بقلم: د. جعفر المظفر *
في عقد الخمسينيات من القرن الماضي هيَّأت لي نشأتي في حيّ (الخمسين حوش) من مدينة المعقل في البصرة أنْ أكون منذ أيامي الأُوَل عابراً للطائفية وتداعيات الانحياز الديني أو القومي.
صحيحٌ أن (الخمسين حوش) كانت تحتوي كما يدل اسمها على خمسين داراً، غير أنّنا, نحن الأطفال حينها, نجحنا أعظم نجاح لتحويل الأسوارِ التي تحيط بكل بيتٍ إلى أسوارٍ افتراضيةٍ فصار الحيُّ وكأنّه بيتٌ واحد. ومثله كانت هناك عشرات الأحياء التي كانت تعيش ذاك الزمن العراقي الواعد رغم همومه وتصدعاته.
في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي أنشأ المرحوم الباشا سامي فتاح, مدير الموانئ العام والذي أصبح بعدها وزيراً للداخلية في العهد الملكي, ذلك الحيّ على أسس عصرية. الحيّ الذي ضمَّ بيوتاً صغيرة كان يعتبر نقلة حقيقية في حياة ساكنيه الذين كان أغلبهم يعيش قبله في بيوت طينية متواضعة.
ثم، إنّ تصميم الحي جاء بطريقة تكاملت فيه شوارعُه وملحقاتُه وبيوته بشكل جعلته يبدو وكأنه يضمُّ بيتاً واحداً لا خمسين بيتاً، فلقد احتوى الحي ساحةً لكرة القدم قام أطفال الحي بتطويرها لكي تكون أيضاً ساحة للرياضات الميدانية التي تتضمن الركض والقفز في المستطيل الرملي, وما شابه ذلك.
كانت الحدود الخلفية للحي هي نهر صغير يلتف بعد نهاية الحي في تلك الجهة لكي يحيطه من الجهة الأخرى جاعلاً الحي يبدو وكأنه جزيرة سياحية يلتحق شارعها الوسطي بالشارع الذي يؤدي إلى أرصفة الميناء البحري, أما بوابة الحي الشمالية فكانت تحتوي على سينما صيفية ومسبح صيفي أيضاً, وغير بعيدٍ كان حي (الچاينه كامب:الحي الصيني) قد ضم داراً للسينما الشتوية, أي المغلقة, يقابلها على الجانب الآخر نادٍ عصريٌ رائعٌ هو نادي (البورت كلپ.. أي نادي الميناء الخاص حينها بكبار الموظفين) إضافة إلى نادٍ آخرَ لبقية المنتسبين على الجهة الأخرى تقابله ساحة لكرة القدم تابعة لدائرة الموانئ العامة.
وكنا قد أدْمَنَّا حضورَ مبارياتها الدورية, وقد أنجب النادي نفسه لاعبين كباراً مثل حمزة قاسم الذي لعب حارساً لمرمى المنتخب العراقي واللاعبين المخضرمين في المنتخب نفسه وهما علاء احمد وهادي أحمد, وغيرهم من اللاعبين الكبار الذين كانوا أعضاء بارزين في منتخب العراق.
في ذلك الحيّ الذي كان عبارة عن بيتٍ واحدٍ بلا أسوار, والذي كان يضم عائلاتٍ مسلمةً ومسيحيةً وصابئيةً, كردية وعربية وأرمنية وآثوريةً, والتي كانت شوارعُه ومرافقه قد هُيئَتْ لكي تجعلنا, نحن الأطفال حينها, نعيش وكأننا عائلة واحدة, حتى كأنّنا حوَّلنا بيوتنا وخاصة في العطل المدرسية إلى أماكِنَ للنوم ليس إلا, نلجأ إليها حينما نتعبُ من اللعب والسباحة والمهرجانات الدورية.
في ذلك الحي كان الوقت أسرع من أن يقف لكي يعلّمنا الفرقَ بين المسيحي والمسلم, بين الأرمني والعربي والآثوري, ولذلك لم يكن صعباً أن يتزوج المسلم من مسيحية، ويعيشان في الحي نفسه أو بالقرب منه . ليس معنى ذلك أن العائلتين كانتا تتقبلان الأمر بشكل سهل, لكن علاقات الشارع كانت قد تغلّبت على علاقات البيوت المغلقة ..
لقد نجحنا نحن الأطفال, من مختلف الأديان والأجناس والأعراق, في أنْ نخلق من خلال شارعنا المشترك لغةً واحدةً مشتركةً هي اللغة العراقية الجامعة, التي استطاعت أنْ تفرض ذاتها على لغات البيوت المختلفة. كان من حق (إيشو توماس) صديقي أن يدخل حديقة داري الصغيرة دون أن يضرب الجرس طلباً لإذن الدخول, ثم إذا به يشاركني أو أشاركه في بيته وجبةَ الأكل من دونِ دعوة مسبقة.
لقد جعلتني البيئة التي نشأتُ فيها أقاوم كل أشكال العنصرية والتخلّف الديني (لم أذكر الإنحيازات الطائفية إذ لم يكن لها أي ذكر في كراريس طفولتنا).
حينما أكتب عن الأكراد والصابئة مثلاً, وعن مختلف الأديان والمذاهب, أقول لمن يظن أنني اكتب بقلم عربيّ لا يا سيدي إنني أكتب بقلم (خمسين حوشي). وأقول لمن يريدني أنْ أكتب بقلم شيعيّ لا يا سيدي، أنا أكتب بقلمٍ مَعْقلي (من مدينة المعقل).
كلا القلمين هما قلمٌ بصريٌّ عراقيٌّ واحدٌ يرى العالم, كلَّ العالم, من خلال بيت في الخمسين حوش.
وهو بيت كان بلا أسوار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور جعفر المظفر، مفكّر عراقي، تعتزُّ “برقية” بنشر مقالاته الفكرية، التي نتعلّم منها دروساً في الوطنية، والكياسةِ الاجتماعية، ومنهج النظرِ في قضايا العراق والعرب والعالم، ببصيرةٍ نافذة إلى الجذور، وإلى بدايات التشكّل، ونحو عمقِ ما في تاريخنا المعاصر من تداعياتٍ، وتأثيراتٍ، وإرهاصات.