بغداد التي كُنّاهَا كانَتْنَا أيضاً.. معنى “روح المدينة”..
إحساسُ الرَّاعي بقيمة العَصَا “حاجةٌ”، للهشِّ بها على غَنَمهِ، أو للدفاعِ بها عن نفسه، ولهُ فيها مآربُ أخرى، وإحساسُ المُسِنِّ بقيمةِ عَصَا يتوكّأ عليها “عَوْنٌ”، بيدَ أنّ العصا نفسَها حين تنتقلُ إلى يدِ أعمى، تتحوّلُ إلى معنى “الوجودِ” أي أنّها “حياتُه” عينُها، فهي أي العصا “عينُه” التي يرى بها..هي دليلهُ ومِجَسّهُ لنَبْذِ الخوف، وتلمُّسِ الطريقِ في دُجنّةِ دنياهُ التي لا عونَ له فيها إلا بصيرتُه، وبقيّةُ حواسّهِ، وتلك العَصَا التي لا فكاكَ منها، ولا غنىً عنها، هي أيضاً -مع فارقِ التشبيهِ- عصا الموسيقار، التي يضبط بها إيقاع فرقتهِ الموسيقية.
إنّ ذاكرةَ الظُلْمة عندَ البصيرِ، هي غيرُ ذاكرةِ الضوءِ عندَ المُبصِر!. وحينَ نفهمُ “أسرارَ” بيئتيهما، نُدركُ معنى روح العلاقةِ بين الإنسان والمكان، وما فيه أو حَوْلَهُ أو ما يكتنفهُ من حضورٍ لقوانينَ وأعرافٍ وقيمٍ وتقاليدَ وموروثاتٍ.
وروحُ المدينةِ هي حالُ (ولع عِشْقيّ) أو (وَلَهٍ صوفيّ) بين ما فيها من موروثٍ وتاريخ وفلوكلورٍ وانماطِ حياةٍ وفضاءاتٍ وأمكنةٍ وذكرياتٍ، وبين ثقافاتِ المجتمع وافكارهِ وتطلعاتهِ وآمالهِ وفنون إبداعهِ وتفاعلاتِ وعيهِ وكبرياءِ تاريخهِ الانسانيّ. إنّ قيام أيّ صَرْح فيها ما لمْ يأخذ هُويتَهُ من صيرورةِ الحياةِ الاجتماعيةِ يُصبحُ أشْبهَ بـ”المولود غير الشرعيّ” فنُصبُ الشهيدِ، والجنديّ المجهول في ساحة الاحتفالات لهما كمثالين قيمة (المكان بالمكين)، ولكلٍّ منهما بالضبط “بِنية تحتية” في حياة المجتمع، وتاريخه، ويومياتهِ. وهما غير ما قامت عليه صروحُ قصور صدّام في زمنِ الحصار والعوز وموتِ مليون طفلٍ عراقيّ تحت مقصلة الخنقِ الدوليّ . كانتِ القصورُ “برغمِ عظمتها العمرانية”، ولاداتٍ “غير شرعيةٍ” هي الآن شكلٌ من أشكالِ الدلالةِ على عدم امتلاكِها (روحَ المدينةِ) التي نُحسّها كلّما مَشيْنا في زقاقٍ أو شارع أو دَخَلنا عِمراناً لهُ ما يُسمّيها العراقيون (نكهة).
أنا مثلاً أحدّثُ نفسي دائماً: تُرى لو عَميتُ، ولَمْ أعدْ أرى شيئاً كيف سأستشعرُ “روحَ المدينةِ”؟!..سأحتاجُ حتماً إلى نظرية الشاعر الكبير الراحل أحمد الصافي النجفي، فطبقاً لموسوعةِ ويكيبديا “عاد عام 1977 من منفاه بلبنان في وهج الحربِ الأهليةِ حيث أصابته رصاصةٌ أطلقها عليهِ قنّاصٌ أثناءَ ذهابهِ لشراءِ الخبز، فحملَهُ بعضُ المارّة الى مستشفى المقاصدِ، ولم يَطِلْ بها مكوثهُ لصعوبةِ الوضع القائم آنذاك، فتذكّره صدام حسين، وأرسلَ إليهِ طائرةً لنقلهِ إلى العراق وهو شِبْهُ أعمى وأصبحَ مقعداً لا يستطيعُ الحِراكَ فلّما وصلها أنشد قائلاً:
يا عودةً للدار ما أقساها أسمعُ بغدادَ ولا أراها”
وأذكرُ أنَّ صديقي الكاتب البارع منذر آل جعفر، استعارَ نظرية النجفي “أسمعُ بغداد، ولا أراها”، عنواناً لمقالٍ نشرَهُ ذاتَ يومٍ بعد أنْ ضعُفَ بصرُه جداً، وشارفَ على العمى، شفاه الله من جميع أسقامهِ!.
وحينَ أكونُ في أيّ مكانٍ ببغدادَ، شارعاً كانَ أو زقاقاً، مطعماً، بيتاً، أو سوقاً، ستشدّني من صيوانيْ أذنيَّ “أصواتٌ..أنغامٌ..كلماتٌ، أو همساتٌ”، وسأتذكر عنوان “عمودِ” صديقي الكاتب الجميل زيد الحلّي “همسٌ وصُراخٌ” الذي يواصل كتابَتهُ منذ سنينَ في صحيفة “الصباح”، فدنيا البصيرِ تُلغي “الصمتَ” لتمتدَّ بين حدّي “الهمسِ” و”الصراخ” وما بينهما من تدرّجات تُشبِهُ تماماً تدرّجات الألوان!.
وأظنُّ أنّني عندها سأبدأ تاريخاً جديداً في بغدادَ الّتي أسمعُها، لأنّها غيرُ بغدادَ التي كنتُ أراها.. وبذلك سأعيدُ تعريفَ مصطلح “روح المدينةِ” بما يتّسقُ مع جوهرِ الفكرةِ الجديدةِ، فكرةِ أنْ أرسمَ شخصية المدينةِ، مزاياها، رأيي بثقافاتِها، تواريخِها، أو بأساليبِ حياةِ ناسِها..ستُعرّفني “الأصواتُ” بعالمٍ لم أكنْ أفقهُ عنهُ إلا “النزر اليسير”، أي أنّني سأنتقلُ مِنَ الصورةِ إلى الصوتِ، من البصر إلى البصيرةِ، وبالطبع سيكونُ شأنٌ أكبرَ من ذي قبل للَّمْسِ، والشمِّ، والإحساس، المتَّسقِ هارمونياً مع الأصوات التي سأسمعُها أو ستختزنُها ذاكرة ظُلْمَتي، بمستوىً يتباينُ تماماً مع ذاكرةِ الضوءِ!.
إنّ مصطلحَ “روح المدينةِ” سيذكّرني أيضاً بيومٍ نزولنا -الأستاذ زيد الحلي، ود. طه جزاع، ود. أحمد عبد المجيد، وأنا- مطار دبي، وكان أنْ نظرتُ من نافذة السيارة الى ما حولي من عِمرانٍ في “المدينة-الأعجوبة”، فسألتُ فيلسوفَنا جزاعَ قائلاً :”ما الذي ينقصُ كلَّ هذا العمران، أبا ياسين؟”.. أجابَ من دون تردّد: “روح المدينة”!.
إنّها “الروح” التي تنشأ من نتاج تراكماتِ ما مرَّ بالمكان منذُ ولادتهِ الأولى، وما اكتنف حياة سكانِهِ من أحداثٍ تاريخية، وما مارسَ فيهِ الناسُ من تقاليد، ونَبَتَتْ من أعرافٍ وثقافاتٍ، فحتى السّمات المعمارية للدور والعماراتِ والأبنية والجسور والأزقة والأرصفةِ، سيكونُ لها اتّساقُ تفاعلٍ، وعلاقةٍ، وتبادلِ ذكرياتٍ، وحكاياتٍ، وأفراحٍ، وأتراحٍ، بحيثُ يكونُها الناس، وتكونُهُم هي أيضاً!.
وإذن فبغدادُ التي كُنّاها، كانَتْنَا هي الأخرى، رسَمَتْنا ورسمْناها، ألِفَتْنا وألِفناها، هيَ من دوننا شيءٌ آخر، ونحنُ مِنْ دونِها “غرباءٌ”. هذا الديالكتيكُ بين المكانِ والإنسانِ، هو “الوطنُ” الّذي من دونهِ يعيشُ المرءُ، فاقداً توازنهَ، حتى لو كانَ مكوثُهُ في أجملِ بلدانِ الدُنيا، تماماً كَمَنْ يمشي على سطحِ القمر.
الآن في مدينة “كالغري Calgary” غربي كندا، وقبلَ ذلك بسنين في مدينة “هاليفاكس Halifax” الأطلسية، الجنوبية بكندا، لم أستطع تكوينَ فكرةٍ ما عن “روح المدينةِ” برغم مرورِ نحو ربع قرنٍ على عَيْشي في هذه الدولة-القارّة، التي تشكل 23 عراقاً من حيث المساحةِ!. إنَّ تكويني فيها تختصرُهُ علاقتي بأولادي وعوائِلهم، أو بِمنْ لي تاريخٌ مشتركٌ معهم في بلدي الأم. هُنا في كالغري، حين أجلسُ على مائدة عشاءٍ بين آن وآخر مع صديقي “أبي نور” د. رافد حداد، نضع في كلِّ مرّة “خارطة شبكة علاقاتِنا في بغداد”، لنمرَّ على الأحبّة والزملاءِ، جريدةً جريدةً، بيتاً بيتاً، مقهىً مقهىً، وأحياناً نطيلُ مع هذا أو ذاك من سليلي الموَدّةِ في تاريخ حياتنا الصحافية، حتى لنعجبُ في كلّ جلسةٍ كيفَ يَسْرُبُ الوقت . و”رافد” أو “أبو الرُفدِ” كما أدَلّعُهُ في النداءِ، فيه مدىً لا يُضاها من الإخلاصِ، والجودِ، والوفاءِ، وحُسن الخلُقِ، ثمَّ أنّهُ يتمتّع بـ”حُسْنَييْ المجالسة”، وهما جودةُ الكلامِ عند الكلامِ، وجودة الاستماعِ عندَ الاستماع. ومن خلاصةِ تجربتي لسنواتٍ التقيتُ خلالها عشراتِ المرّاتِ مع صديقي الحبيب د. رافد، اجترحتُ عبارةً، يُسعدني تِردَادُها، هي أنّ “الصديق في الغربة وطن”، ويمكنُ القولُ إنّ وطناً من دون أصدقاء، ليس إلا “رُبعَ الخراب”!. تلك هي فقط ملامحُ “روح المدينة” عندي في هذا “المنقطعِ الجغرافي” الذي نعيشُهُ في آخر الدنياً، ومع شتاءٍ، تصلُ درجة البرودةِ فيه إلى أكثر من (- 40) أو كما يُسمّونها هنا “Minus 40“، وآيةُ أعجوبة هذا المستوى من اشْتدادِ البرودة، أنّكَ في “عِزِّ الثلجِ والبَرْد يفرِكُ العظامَ” ترمي ماءَ قدح في الهواءِ، فتراهُ في التصوير البطيء استحالَ ثلجاً!!.
إذن ففلسفة “روح المدينة” تتشكّل لا من سِماتِها وحدَها، إنما هي السِّماتُ ممتزجةً برحيقِ المشاعر، ومعماريةِ الصُروح، مسكوكةً بأريج التاريخ، وسُحناتِ البشر، مختلطةً بأنفاسِهم. ومن كل ذلك تُنفخُ الروحُ في كيان المدينة لتتشكّل هُويّتُها التي تتفرّدُ بها عن سائر مدنِ الأرض. ذلك هو “الجوهرُ” الذي عَرفتُهُ، واستشعرتُه، وأحسسْتُ بهِ في اسطنبول، وقبلَها في كلٍّ من عواصم العروبة القاهرة، عمّان، والخرطوم، والأخيرة كانت أوّلَ دولةٍ غير العراقِ أقيمُ فيها لأكثر من أسبوع ضمن زيارة وفدٍ عراقيّ ثقافي كبير ضمّني إلى جانب صديقي الشاعر المبدع، والكاتب الدكتور هاني عاشور، والشاعر الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعر الكبير علي الياسري، وآخرين، بضمنهم فرقة الفنون الشعبية. هناكَ في السودان، كنتُ و”أبو اللُبد” د. هاني، قد أحسسنا بالغربة لمجرّد أنْ ابتعدنا لأيام عن بلدنا، فكانَ إحساسنا المشترك أنّ الله تعالى جعلَ رفقتنا درءاً لغربة ربما تكون أشدَّ قسوةً لولا رفقتُنا التي اتّسمت بجمالِ الاهتمام والعناية ودفء الصُحبة.
سؤال:
تُرى لو نقلتُ جميعَ من يسكنون العراقَ الآن، بقضّهم وقضيضهم ليعيشوا على أرض كندا، وأحللتُ بدلاً منهم جميعَ من يعيشون في كندا؟!.. هل سيبقى العراقُ عراقاً، وكندا كندا؟!.. أم ماذا؟! أعتقدُ لا هذا سيبقى هذا، ولا تلك ستبقى تلك!.
أستنتُجُ من كلِّ ذلك، أنّ جوهرَ “روح المدينة” لا يعني فقط أرضَها، ماءَها، شجرَها، شوارعَها، أبنيتَها، إنما يعني أيضاً -كما قلتُ من قبل- ناسَها، ثقافاتِهم، تاريخَهم، موروثَهُم، فلسفاتِهم، أفكارَهم، تقاليدَهم، وحتى مشاكلَهم، وفي إطار “أمشاجٍ” بتعبير القرآن الكريم، أي أشبهَ بـ”خلطة” ماءَيْ الرجلِ والمرأة، لتكوين الإنسانِ نفسهِ!. بمثل هذا تتكوّن “روحُ المدينة”، بصفاتِ الروح نفسِها، أي أنها خفيّةٌ، كأسِّ الحياةِ، وهي مُنعَكَسُ الشخصية، بخصوصيّتها، وبجمالها الذي يُدركُ ولا يُحسُّ، ولا يُلمسُ..إنّها أشبهُ بالجِيناتِ، تَنْحدِرُ مِنْ جيل إلى جيل، وتتواثبُ أو تتراجع طبقاً لمواصفاتِ وجودها في مرحلة من المراحل. وأعترفُ أنني لم أستطعْ إيجادَ تعبير أفضل من “كُنّاها وكانَتْنَا” لتفسير معنى امتزاج الإنسان بالمكان،ـ معنى “الألفة”، و”التراحمِ” بينهما، معنى غشيانِ الدِّفءِ، واقتحامِ الفرح، واشتهاءِ الحياة..معنى أنْ لا تسكنكَ “الغُربةُ” كذئبٍ تنهشُ قلبَكَ أنيابُهُ، كلّما غنّى فؤاد سالم “رايحينْ..رايحينْ..نشوف أهلنه شلونهم..والله مشتاگين..مشتاگين، نور عيونهم”!!.