تحقيق

بدلاً من أنْ تلعن الغبار .. إزرع شجرة ..!

     الصورة التي نشرها الزميل عبد المطلب محمود، في 13 أيار (2023) ، مع التعليق الذي صاحبها، وأخبار قرأتها عن أيام مغبرة آتية تعم أنحاء من العراق، و 200 حالة اختناق في محافظة صلاح الدين وحدها في تلك الساعة، فتحت “شهيتي” لاستذكار مادة نشرتها في جريدة القادسية البغدادية، أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، وجعلتني أورد أسماء العديد من الشخصيات من زملاء راحلين أسال رحمة الله لهم، والعمر المديد للطيبين منهم، والذين شاركوني المشاعر، وعاشوا ما عشته من أحلام.

     كنت أؤدي خدمة (الاحتياط) ضمن مواليد 1947و 1948 من الخريجين الجامعيين و الموظفين في الدولة، الذين تمت دعوتهم بعيد توقف حرب السنوات الثماني، والذين لم يسبق استدعاؤهم من قبل، حيث نُسِّبتُ أو (سُحبتُ) بلغة العسكر، مع صحفيين وإعلاميين الى دائرة التوجيه السياسي ، بعد مدة تدريب في أحد معسكرات تكريت، لم تخل من عواصف ترابية، وإنْ لم تكن بالحِدّة التي نعرفها بها اليوم.

      أعجب بالفكرة الزميلان والصديقان أمير الحلو الذي كان على رأس تحرير الجريدة “القادسية”، و(الدكتور) عبدالأمير الفيصل، الذي كان ضابطا يدير التحرير وكنت أعمل تحت إمرته في إعداد التقارير الدولية والتحقيقات، بالإضافة الى زملاء آخرين من بينهم (الدكتور) رافد حداد، الذي وصف التحقيق بـ(الحلو) وتمنى أن أكتب المزيد من المعالجات التي تصب في تربتنا الصحراوية القاحلة تلك.

     ومنذ وقت مبكر من بداياتي الصحفية كنت أولي أهمية خاصة للموضوعات المتعلقة بالطقس و الطبيعة، فَأحّلّ “ضيفا” دورياً على كامل الدباغ صاحب (العلم للجميع) و شريكيه العراقيين اللذين صارا عالميين بعد سنوات، الدكتور عبد العظيم السبتي الذي أصبح عالم فلك والدكتور قدامة الملاح الذي أمسى عالماً نووياً، وهو نجل عبد الله الملاح رئيس تحرير جريدة (المواطن) البغدادية إحدى إصدارات المؤسسة العامة للصحافة أواخر الستينيات والتي عملت محرراً فيها منذ العدد الأول و حتى احتجابها، حيث كان قدامة يرافقني للترجمة عندما ألتقي بالوفود التي تتحدث الألمانية والتي يتقنها من خلال دراسته في الخارج.

       و كنت في الوقت ذاته، على علاقة شبه يوميه بمتخصصين في الوزارات و المؤسسات المعنية بهذا الموضوع، حيث كان الرجل المناسب في المكان المناسب، انهل منهم المعلومات الغزيرة والدقيقة عن التصحر والجفاف والبيئة والمياه، فضلاً عن جولاتي الميدانية في المحافظات، فأتذكر على سبيل المثال فنياً رائعاً اسمه جميل خاورد او خاور يشغل منصب مدير السدود بوزارة الري، و يرسم لي صورة مشرقة عن مستقبل ثروتنا المائية، من خلال أحاديثه و شروحاته المدعومة بالخرائط و الصور ..

     و يبشُّ في استقبالي مدير عام الغابات في وزارة الزراعة، أظنه بشهادة دكتوراه، لقبه الربيعي او العبيدي، رجل متوسط القامة لطيف المعشر، يقول لي: “ها بعدك تحلم بعراق أخضر ..؟” يضحك كلانا، وطفق يحدثني عن عشرات الأصناف من الأشجار التي تلائم الصحراء وتثبت الكثبان الرملية، وتشكل مصدات للرياح أيضاً، والتي بالإمكان زراعتها ديمياً، مثل (القوغ) و(الكزورينيا) و(اليوكالبتوس) و(المورينغا) (اليسر) وغيرها . ومن عنده، أحمل أوراقي الى الدائرة الزراعية بوزارة التخطيط .. ومنها الى مصادر البحوث الجامعية التي تعيش حلمي الأخضر نفسه ..

        ظلت المعطيات والتطورات في السبعينيات الأولى تبشر بتحقيق ذلك الحلم، حتى اهتزت الصورة مع السنوات اللاحقة، بانحسار الفرات، ثم دجلة وروافدهما و أنهر وجداول كثيرة وبحيرات وأهوار، ظلت تتبخر او (تتضاءل وتنحسر) ..لأسباب وعوامل معروفة، لست بصدد الخوض فيها، فأعود الى التحقيق الصحفي الذي نشرته في” القادسية”، ودعوت فيه: “بدلاً من أنْ تلعن الغبار .. ازرع شجرة.”، مقتبساً العنوان من مثل صيني يقول: “بدلاً من أن تلعن الظلام أشعل شمعة.”

       كنا في أواخر الثمانينيات، ولم يكن عدد سكان العراق يتجاوز العشرين مليونا، وكان بإمكان خمسةِ ملايين، كلٍّ منهم أن يزرع شجرة في السنة، فضلا عما يمكن ان تقوم به الدولة من نشر للغابات و”تصنيع” الواحات واتباع الطرق الاقتصادية الحديثة في ترشيد استخدام المياه وتقنينها باتّباع برامج سبقتنا اليها بلدان شبيهة بظروفنا الطبيعية، بدلاً من ترك الأمور تسير بلا ضوابط و لا دراسات ولا توقعات.. رغم أنني قرأت و في وقت مبكر من السبعينيات أن الحروب القادمة، ستكون حروب مياه، و لا يستبعد أن يصبح كل برميل ماء مقابل برميل نفط   ..!!

     كان ذلك تحذيراً مبكراً .. لكنَّ أحداً لم يُعِر الموضوع أهميةً، وتركت الأمور على عواهنها

 .. والكلام لكِ..يا جارة، يا جيران..

لم (نعرف التفاهم) معهم.. وأعطيناهم وأسقيناهم بسخاء!! و هكذا هي الحياة.  ولو أحصينا عدد الأشجار التي كنا زرعناها من ذلك الزمان و حتى يومنا هذا، أي بعد أكثر من ثلاثين عاماً، لكان العراق في طريقه الى استرجاع اسم (ارض السواد) التي ادهشت العالم ..

         أقول هذا وأنا أتذكر عشق العراقي لأرضه وخيراتها ، كيف كنا نحتفي بعيد الشجرة كل عام ونحن تلاميذ ابتدائية؟ كيف نتسابق الى الغابات والبساتين في العطل و المواسم؟ كيف يخلق البصريون عالمهم الجميل بين أشجار الاثل؟ كيف نجح صديقي عبود العنبكي من أهالي هويدر ديالى في تهجين وتطعيم العديد من اصناف الحمضيات ويتفنن في نشرها؟ كيف أصبحنا البلد الأول في عدد النخيل بالعالم؟ كيف اولينا الاهتمام بمواسمنا الزراعية في خططنا الانفجارية..

    كيف.. و كيف؟

    كيف ؟ و لماذا ؟ و أين؟ و حتى نهاية الأسئلة الصحفية الستة .. و التي سقطت الإجابات عنها بالتقادم . .!

      تذكرت أمراً للتو.. أنني استضفت في تحقيقي الصحفي يومها، الدكتور باسل بهنام مدير معهد الحساسية زمنذاك، والذي يقدم وعلى عادته تحليلاً علمياً لما يمكن أنْ تسبّبه العواصف الترابية من أذى للانسان، و طرق الوقاية والعلاج وسبل التصدي لهذا الوحش الذي بات ينغص حياة الملايين في زمن يهدد الجفاف و الانحباس الحراري البشرية كلها، فعقدت من أجل التصدي له المؤتمرات و القمم.

       تلك المنغصات ، ما هي إلّا أخطار من صنع الانسان نفسه، نتيجة الاهمال واساءة التصرف في استخدام الطاقة و الموارد وتصنيعها، الى حد أن بابا الفاتيكان نفسه (يوحنا بولص الثاني) دعا في رسالة أخيرة له الى” التوبة عن الخطايا البيئية “، و هي رسالة وجهها الحبر الأعظم مبكرا لمناسبة اليوم العالمي للصلاة من أجل الاعتناء بالخليقة و الذي يصادف الأول من ايلول – سبتمبر المقبل.

      ها .؟. ما رأيكم الآن..؟ هل يتولّى كل واحد منا زرع شجرة.. بدلاً من ان يلعن الغبار ؟؟

مقالات ذات صلة