“باب الحنين”..شهادة معرفيّة بإمضاء حميد سعيد..و”أبواب إنصاف قلعجي..مشرعة”..
في رحلةٍ مُمتعة في عوالم المعرفة، تطوفُ بِنا الأديبة والكاتبة الأردنيَّة إنصاف قلعجي في تضاريس هذا العالَم المضطرب عَبْرَ كِتابها الموسوم (باب الحنين)، وتفتح أبوابه على مصراعَيْه لِتقدِّمَ للقارئ وجبةً دسمة في عناوين كِتابها، وتتوقَّف عِند أهمِّ إنجازات عوالم الثَّقافة في تعاطيه مع الزَّمن وشخوصه الَّذي تحاول قلعجي أن يكُونَ مُتعدِّد الرُّؤى والمصادر والإنجازات.
و(باب الحنين) كما يصِفُه الشَّاعر الكبير حميد سعيد في مُقدِّمته بأنَّه موسوعة في عالَم معرفي يعتقد مَن يقرؤه بأنَّه سيكُونُ أكثر معرفة ممَّا كان قَبل قراءته؛ لأنَّ (باب الحنين) ـ بكُلِّ ما نفتحُ عَلَيْه من عناوين وقضايا وموضوعات ـ هو شهادة معرفيَّة موضوعيَّة ذكيَّة عن العصر بتعدُّدِه من جهة، وانفتاحه وتواصُله من جهة أخرى. وهو موقف في الضِّدِّ من التَّعصُّب والانغلاق، فضلًا عن أنَّه مشاركة في التَّجديد.
وأرادتْ قلعجي في تطوافها أن تجعلَ من هذا التّطواف في حدائق الموريسكي (نصوصه الشِّعريَّة) أمرًا مُغريًا للقراءة والمُتابعة من جهة المتلقِّي، وتأسيَة لِنَفْسها وللشَّاعر حميد سعيد من جهة ثانية، في محنة ابتعاده عن بَيْتِه ووطن طفولته وصباه وشبابه، بعد احتلال العراق بهمجيَّة ووحشيَّة سنَة 2003، واضطراره للرَّحيل عن بساتينه وحدائقه، بل حتَّى عن حديقة بَيْتِه العائلي.
وتتزاحمُ الصُّوَر أمامها عِندما تُلامس ما يجري حَوْلَها بتداخُل المُدُن في صراعها نَحْوَ البقاء بالقول: الفلُّوجة وبغداد وبابل وغزَّة، وتستعيض مقولة الزَّعيم الرَّاحل جمال عبد الناصر (الخائفون لا يصنعون الحُرِّيَّة، والمُتردِّدون لن تقوَى أيديهم المرتعِشة على البقاء). وكما قال الرَّاحل محمد طميله في ذاكرة الأوراق:
ثمة عراق ودجلة
قل لن يجف الماء في دجلة
قل إن الفرات شامخ
والمُدُن العصيَّة على الأعداء عِند إنصاف قلعجي منزلة العشق والتَّمسُّك بِدُورها سكبنا على ترابها أحلام صبا جامحة. وتتساءل: لماذا تنسلُّ من الروح وتنأى؟
وأفردتْ مؤلِّفة كِتاب (باب الحنين) مساحةً لاستذكارِ واحد من أعظم رسَّامي الكاريكاتير في القرن العشرين (الرَّاحل ناجي العلي) الَّذي اغتيل في لندن عام 1987، وأبرزتْ دَوْره الوطني والقومي من أجْلِ فلسطين ومخاطر عمليَّات التَّهويد الصهيوني على مستقبل فلسطين والعالَم العربي.
وهُنَا تتساءل قلعجي في جانب آخر عن سِحر مدينة بابل، أكان نقمةً أم نعمة؟ وتضيف: سحرتْ بابل بتاريخها العريق، وكانت أهمَّ الحواضر في العالَم القديم، وقدِ ارتبطتْ بالقائد نبوخذ نصر وبالحضارة البابليَّة، وأمَّا البرج فقد بناه الملك نمرود تفاديًا للطوفان.
وتختم الأديبة والكاتبة الأردنيَّة إنصاف قلعجي آخر فصول كِتابها باستلهامِ مشهدٍ فيه الكثير من المعاني والدّلالات عرَضَتْه بطريقةٍ ذكيَّة بالتَّأكيد على أنَّ الأحلام هي الأحلام مهما كانت، وأن يثورَ النّمر ويكسرَ قضبان سجنه مهما بلغت سماكته ويلتهمَ جلَّاديه ومُروِّضيه ويموتَ جوعًا. فالغابات البعيدة (النَّائية) مَوطنُه ومَوطن أحبابه، لكن في اليوم العاشر اختفى المروِّض وتلاميذه والنّمر والقصف، فصارَ النّمر مواطنًا والقفص مدينة:
نعم صار النّمر مواطنًا وخنقتنا المُدُن الأقفاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أحمد صبري، كاتب، ورائد صحافي عراقي.