تحقيق

الهموم العراقية .. هل من الممكن عدّها ؟

بعدَ مساءٍ قصيرٍ ،توقّفنا لنشربَ الشاي عند چايچي في الجانب المطل على حديقة الأمة من عمارة مرجان في الشارع المؤدي من ساحة التحرير الى ساحة الطيران ، ولما عبرنا الشارع باتّجاه نصب الحرية في ساحة التحرير لنلتقط سيارة تاكسي ، كان صوت الراديو في تلك الليلة مرتفعاً من سيارة عابرة بأغنية (عد وآنه عد) لمطربة شابّة آنذاك .

     توقف حارث طاقة فجأةً عن السير، وصرخ بوجهي ملاطفاً : شوف إحنا العراقيين ، نتسابق حتى بالهموم !

     أقنعته بمواصلة البحث عن سيارة التاكسي لتوصلنا، هو الى بيت شقيقه الشاعر شاذل طاقة ، والسفير والوزير لاحقاً ،في حي  14تموز بشارع فلسطين ، وأنا الى بيت شقيقي باسم في سبع أبكار في الصليخ حيث كنا آنذاك، هو وأنا نعيش مع أشقائنا.

      يكثر الحارث بالحديث المفصل مع سائق التاكسي ليفهمه مقصدنا ، وتدخلت أنا لأفهم السائق الطريق السهل ليوصلنا الى منازلنا، فبعد أنْ نوصل حارثاً ، يستدير السائق عائداً الى شارع فلسطين ليواصل طريقه حتى سبع أبكار : ووافق السائق على أنْ ندفع  300فلسٍ! نعم كانت الأجرة في عام 1970-1971 تصل أحياناً الى 350 فلساً!

     وتناقشنا في وقت لاحق نهار اليوم التالي في قصة الهموم العراقية التي تردّدها المغنية الشابة لترى من هو أكثر هموماً:( عد وآنه عد ، ونشوف ياهو أكثر هموم؟).

     ورحنا نُعدّد همومنا الراهنة حينئذ والظروف السياسية التي تحيط بالوطن والأمة ، مع بضعِ ملاحظات قصيرة عن الحزن في الغناء العراقي.

     كان حارث طاقة يتمتع بروح بشوش، فهو مملوءٌ بالفرح والوفاء لكنّه يتألم لما يتعرّض له غيره من متاعب وهموم فيعبر عن مشاعره بقوة ووضوح.

    واليوم وبعد أن راح حارث طاقة ضحية للغدر في حادث تفجير السفارة العراقية ببيروت في  15ديسمبر/ كانون الأول عام 1981 ، واختطف حياته ، وترك همومه لأبنائه ولأصدقائه. وأنا أعيش بعيداً ، ومعي همومي وبانتظار ما سيحصل ، أجد أنّ الهموم قد رافقت  العراقي من المهد الى اللحد .

     كل أغانينا، والكثير من الموروثات الشعبية تنضحُ هموماً لا يتحمّلها سوى العراقي .

يا صبرَ أيّوب.. حتى صبرُهُ يصلُ

إلى حدودٍ، وهذا الصبرُ لا يصلُ

يا صبرَ أيّوب، لا ثوبٌ فنخلعهُ

إنْ ضاقَ عنّا.. ولا دارٌ فننتقلُ

لكنَّه وطنٌ، أدنى مكارمهِ

يا صبرَ أيّوب، أنّا فيهِ نكتملُ

وأنّهُ غرةُ الأوطانِ أجمعِها

فأينَ عَنْ غُرّة الأوطان نرتحلُ

هكذا وصف الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد صبر العراقي على همومه.

وسألوا الشاعر كريم العراقي ذات يوم عن سبب الحزن في الأغاني العراقية، فأجابهم بقصيدة قرأها من خلال شاشة التلفزيون :

يقولون: أغانيكم حزينة!

هو إحنا ياعمي إيش بإيدينا؟

من آدم ولليوم واحنا

دم تمطر الدنيا علينا

كل يوم فايض بينا طوفان

كل يوم غرقانه السفينة

توارثنا من نوح السفينة

وفوق الخناجر نمشي حُفّاي

ونغنّي عزة نفس بينا!

ويعبر الشاعر محمد مهدي الجواهري عمّا عنده من الأسى والهم، مثل كل العراقيين وهمومهم :

أنا عندي من الأسى جبلُ يتمشّى معي وينتقلُ

   وحسب معلوماتي فقد جرت خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين ، بضعُ محاولات في الدوائر الثقافية والإعلامية العراقية، لإخراج الأغنية العراقية من طابَعِها الحزين ، ولم تلبث حتى عادت بعد حين الى سابق عهدها بالحزن والألم .

    يقول عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في دراسته عن المجتمع العراقي :

      إنّ شاباً عراقياً من الذين كانوا يدرسون في أمريكا ذهب لزيارة زميل عراقي في محل سكنه ، فلم يجده فجلس مع صاحبة الدار يتحدّث معها عنه ، بانتظار قدومه.

   وصفت السيدة نزيل دارها ، بأنه شاب طيب ، ولكنه لا يكاد يدخل الحمّام حتى يشرع بالبكاء .

   وقد اتضح أن الشاب لم يكن يبكي في الحمام كما ظنت السيدة الأمريكية ، بل كان يغني أبوذية عراقية!!

     ويستفيض عالم الآثار العراقي طه باقر في مقدمته عن أدب العراق القديم في شرح الكثير من معالم الحزن والهم عند البابليين ، والمخاوف من غزو الجيران ، وفيضانات النهر العنيفة التي كانت تغرق كل الاراضي في جنوب العراق ، فتهرب العوائل الى سطوح منازلهم الطينية والقصب ، ويغني رب العائلة ألماً وحزنا من هذه الأذية ، فأصبحَ الناس يسمونها أبوذية، كما يخبرنا سعدي الحديثي.

وكذلك ، اعتاد سائقو الشاحنات والحافلات الكبيرة كتابة الشعارات والأدعية على مركباتهم، وكثير منها يتضمن هماً أو دفعاً لكل الهموم والحسد :

من راقب الناس مات هماً.

سيري وعين الله ترعاك،

قل أعوذ برب الفلق ،

وغيرها من الأدعية التي تُبعِدُ الشرَّ والحسد.

وحتى أن هدير النواعير وهي تغرف الماء من نهر الفرات لتسقي مزارع وبساتين مدن وقرى أعالي الفرات في محافظة الأنبار يسمونه أنيناً! وفيه مأثورات شعبية وأغاني أبوذية كثيرة.

فمتى سيفرح العراقي؟

مقالات ذات صلة