الوطن العربي

 “المُلحِد”..مجرّد فيلم؟..أم “صعقة إيقاظ” للوجدان العربي..؟أم “تجرّؤ” على الدين؟!

        بقلم: صباح اللامي   

      بدأت سُحب “البروباغندا” أو “الدعاية السوداء” تتلبّد في سماء مصر والبلدان العربية، لتفجّر “أزمة رأي” حيالَ فيلم “الملحد” الذي “صدر قرار بمنعه قبل 72 ساعة من موعد عرضه في الرابع عشر من الشهر الجاري”، طبقاً للمعلومات التي نشرتها صحيفة “الشروق” المصرية، وأكدتها “العربية نت”!.

    مؤلف الفيلم ابراهيم عيسى، وهو ذو توجهات عَلمانية، لكنّه دائم التركيز على إظهار تناقضات التراث الديني. ويشارك في أدوار الفيلم إضافة الى أحمد حاتم، وصابرين، حسين فهمي ومحمود حميده، وهما من مثقفي طبقة التمثيل المصري، التي تضمّ –برأيي- المرحومين نور الشريف، وفاروق الفيشاوي، وقبلهما جلال الشرقاوي، وآخرين.  

     الفنان الكبير حسين فهمي أكد في تصريحه للعربية، أنّ فيلم الملحد، سيدهش الجمهور، وسيناقش أفكاره ويختلف حولها، وعدّ ذلك “جمالاً”!. ووصف الفيلم عموماً بأنه “يجعل الإنسان يفكر ويتناقش ويبحث في المعنى”. وأوضح أن بالإمكان صناعة فيلم آخر يعكس “رأياً مخالفاً”.. ووصف قصة الفيلم بأنها “أطروحة عالمية وفي غاية الخطورة”. وبرأي حسين فهمي “أنّ الفيلم يسلط الضوء عقلانياً على الفرْق بين التفكير الزائد في الدين، وبين التديّن الذي يكون من دون تفكير أو تدبر” حسب تعبيره. وأشاد بالمؤلف ابراهيم عيسى، وبالمخرج محمد العدل.

    وكل ما نُشر بشأن فيلم “الملحد” أوضح أنّ الموافقات القانونية والفكرية، صدرت ولا غبار عليها، إلا أنّ أحداً لم يؤكد أنّ لـعلماء “الأزهر الشريف” رأياً بالفيلم، لكنّ هناك من قال إنّ “الأزهر” غير معني بذلك، فيما أثير رأي آخر ، مفاده أنّ أصل قرار المنع تم بموجب رأي “الأزهر”، الذي اعترض على مشاهد معينة وطالب بتعديلها، بينما قالت مصادر غيرها إنّ تأجيل عرض الفيلم سببُه “مشاكل تقنية، ويتم تعديلها حالياً” طبقاً لما قاله منتج الفيلم أحمد السبكي. ووَصَف ما قيل عن الفيلم بالشائعات. لكنّ هناك من اتهم منتج الفيلم وكاتبه وأبطاله بـ”التجرّؤ” على الدين، وزعم أنّ دعاوى قضائية رفعت بشأن الإسم وبعض مشاهد “البرومو”، أي المشاهد الدعائية للفيلم. ولم يُخفِ البعض رأيه أنّ كل ما أثير من خلاف حول الفليم إنما هو مجرّد “بروباغندا” افتعلها أصحابه!.  

    هذه خلاصة بما دار حتى الآن بشأن فيلم “الملحد” الذي وُصفَ بأنه يعالج قضيتي التطرّف الديني من جهة  ونزوع الشبّان نحو الإلحاد من جهة أخرى، وقيل أيضاً إنّ الإطار الدرامي للفيلم يُحدِث “صدمة إيقاظ” من غيبوبة الإسراف في التطرّف وفي الإلحاد، نعم..”الإلحاد” الذي بدأ انتشاره الوخيم، يشكل “ظاهرة” في أوساط شُبّان المجتمع وكهوله من كلا الجنسين!.  

     نقول:

    “التطرّف الديني” يشغل حياتنا العربية، ويؤثر فيها منذ أكثر من أربعة عقود. وليس من اليسير استئصالُ شأفته، فعوامل التحريض على ظهوره، تزداد فداحة، وما فتئت مؤثرة بقوة:

       أولها، استمرار تأثير الفكر الديني المتطرّف، الذي بدأ انتشاره منذ أكثر من نصف قرن في تاريخنا المعاصر.

      وثاني العوامل، الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وجرائمه الإرهابية التي تمادت في “قهر” الوجدان العربي، و”إذلال” إرداة المجتمع الدولي.

    الثالث: تفعيل الدول الاستعمارية “أميركا وبريطانيا” وحلفاؤهما عمليات التدخّل السياسي، والاستخباري، والعسكري، في البلدان العربية، والتمادي في الهيمنة على قرارها، ونهب ثرواتها.

    الرابع: “الثورة” الإيرانية ومنهجها المعادي للعرب، منذ نشأتها أواخر السبعينيات، واستمرارها بخطط التغلغل الفارسي تحت يافطة “النُصرة الطائفية”، وهي التجسيد الحقيقي لما تسميه أدبيات طهران “تصدير الثورة”!.

     الخامس: فشل الأنظمة العربية الجمهورية-الاستبدادية (أو ذات الطابع الحزبي) أو “الزعامي” الناصرية، الأسدية، الصدّامية، القذافية، الصالحية في “بناء حياة سياسية مستقرة، يكتنفها العدل والإنصاف، والانتقال السلمي للسلطة”، ومن ثم انهيارها السريع..وأيضاً فشل الحكومات الملكية في جانب صيانة الكرامة الوطنية والقومية لمجتمعاتها برغم ما تحظى به من استقرار وبحبوحة عيش!.  

    السادس: انتشار الأمية، والتخلّف الثقافي والعلمي والاجتماعي، وانتشار تأثيرات “طبقات الإثراء الفاحش”، ونزوع الكفاءات الطبية، والأكاديمية، والثقافية، والعلمية، والمهنية، والحرفية إلى الهجرة نحو الغرب، وبالتالي حرمان المجتمعات العربية من قدراتها!.

     نعم، بتأثير كل هذه العوامل، باتَ  التطرّف الديني”معرّشاً” في صميم حياة مجتمعاتنا، ومع تزايد تأثيره، وانكشاف “عوراته” وما فيه من خداع، وجهل، وشرّانية، وبؤس فكري، وضلال، تزايدت قوّة “النزعة الإلحادية” لدى الشبّان، والطلبة، والمثقفين، وبدأت مواقع “السوشيل ميديا” تكشف خفايا هذا الانحدار اللاواعي نحو هاوية الدمار، بتأثير عوامل أخرى مساعدة كالانحرافات الجنسية، وانتشار المخدرات، والميل الى النفعية المقترنة بالجريمة.

    ومع أننا مع بناء مجتمعات عربية “عَلمانية” متطوّرة، إلا أننا يجب أن نعي أنّ جميع من تحدّثنا عن “عدائهم” العلني والسرّي لوجودنا العربي الإنساني المجتمعي، يركّزون على تهديم الأسس الحقيقية لكياننا، تاريخاً وحاضراً. كيف؟ إنهم يسعون بكل السبل إلى تدمير أربع ركائز كبرى في بُنى حياتنا العربية:

  1. ركيزة “الدين”، بأطروحته المعتدلة، المعزّزة للوجود الروحي، والنفسي، والإنساني، والقيمي، والثقافي، والسلوكي.
  2. ركيزة الأسرة، التي هي عِماد المجتمع، وأحد أسس رسوخ بنائه، وعمرانه، في ضبط “الأصول الاجتماعية” وتعميق قيم تبادل الودّ، والتراحم، والاحترام، والمسؤولية.
  3. ركيزة احترام الذات، ولهذا يستمر الضغط على جرح عدم قدرتنا على إدارة بلداننا، وفشلنا في بناء نظام يتمتع بشيء من العدالة الاجتماعية، وبهذا يحضّون على “لابُديّة” الاعتماد على الغرب المتطور ، لا في الصناعات وحدها، إنما حتى في إشباع بطوننا من الرز، والقمح، والشعير، وغيرها من المحاصيل.
  4. ركيزة حبّ تراثنا، فأعداؤنا جميعهم يتفقون تقريباً على أنّ تاريخنا “زائف” و”إجرامي”، أي “كريه”، أما بعضه “المحبوب” فهو “أسطوري” و”خرافي” و”مليء بالمبالغات” التي تشوّهه، وبمعنى أننا يجب أن نكره ماضينا، فلا أبو بكر أمسك الأمة من هلاك الفُرقة، ولا عمر بن الخطاب عادل، وذو فتوحات، وأرسى دعائم الدولة، ولا أحد من الصحابة فيه خير، ولا أحد في الأمويين له شأن، ولا عصر هارون الرشيد ذهبيّ،.. أما علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين وبنوه، فهم أشبه “بآلهة يونانية” يُحيون، ويُميتون، ويطيرون في لمح البصر من الكوفة الى المدينة، ويسيّرون الكون وبيدهم الجنّة والنار، ويعلمون ما لا يعلم الأنبياء، بل يعلمون الغيب.. ماذا يعني ذلك؟..يعني أنّ جزءاً من ماضينا “مكروه السيرة” والجزء الآخر  “خرافات وكفر”!.

نقول:

   فيلم “الملحِد”، ليس “تجرُّؤاً” على الدين، وهو سيكشف عن حقيقته حين عرضِهِ على الناس، ولهذا لا يجب أنْ نرفع “عصا الرفض”، لمجرّد أنّ الفيلم يحمل هذا الاسم المثير، فالمرحلة خطِرة للغاية، والشارع العربي “مختنق” بالتناقضات، والصراعات، والتنافرات، والتضادّات، ولا تنفع معه إجراءاتُ المزيد من كبت الحريات، والقمع، والترهيب النفسي، وعلينا العمل بإجراءات الضبط القِيمي الفكري، اهتداءً بقوله الله تعالى: ((ادْعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموْعظِةِ الحَسَنَةِ وجادلهُم بالتي هيَ أحسنُ)). صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة