أدب

المتنبي.. قراءة جديدة

هذه ليست قراءة نقدية. كنتُ ناقداً سابقاً وأعرف أنَّ التصدّي لقامة شعرية بحجم المتنبي تحتاج إلى المزيد من الأدوات النقدية. مثل النجار أو اللباخ عندما تكون عندك شغلة ببيتك يحضر له “بيكب”، تحتوي على ” كومة غراض” حتى يصلح حائطاً أو باباً او درجاً او شيئاً من هذا القبيل. مع ذلك من الممكن أن أقول رأيا انطباعياً، إذا وضعناه في خانة النقد الانطباعي مع أنّ هذا النوع من النقد صار من الماضي بعد البنيوية وما بعد البنيوية واللسانية وما الى ذلك من مدارس النقد وتوجهاته الجديدة.

   أنا من جيل كان ” يهيم” بالمتنبي. قرأته في صباي ” منتصف سبعينات القرن الماضي” وما بعدها. كانت قصائده تهز مشاعرنا. يمدح واحداً حتى لو كان “هلفوتاً” كأننا نحن من نمدح. يهجو آخرَ حتى لو كان ” طرطبة”..وحتى شتمُهُ لكافور، لكأننا نحن من أخذنا حيفنا منه، مع أننا لا نعرف كافوراً ولا الطرطبة لكننا مع أبي محسّدٍ قلباً وقالباً.

     عندما ماتت خولة أخت سيف الدولة، ورثاها في قصيدته التي يقول فيها:    (يا أختَ خير أخ يا بنتَ خير أبِ…..كناية بهما عن أشرف النسبِ

 طوى الجزيرةَ حتى جاءَني خبرٌ…..فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ

حتّى إذا لم يَدَعْ لي صِدقُهُ أملاً….. شرقتُ بالدمعِ حتّى كادَ يَشرقُ بي).   

      كأننا نحن مَنْ فجعنا بها لا هو مع أنّ الفارق بيننا ألف سنة. حين ماتت جدته التي يصفها بأنها بنت أكبر والد احمرّت عيوننا دمعاً لموت الحجية “بيبية” شاعرنا الذي يشبه عمرو بن كلثوم الذي ” الهى بنو تغلب عن كل مكرمة”. كان شعارنا كل شي يهون من أجل المتنبي. مدح سيف الدولة صفقنا له. هجا كافوراً صفّقنا له. يزعل نزعل مثله. يرضى نرضى مثله. لا يوجد حل وسط في علاقتنا بالمتنبي.

    حتى الجواهري ” محمد مهدي” وهو ” شاعر العرب الأكبر” في العصر الحديث كان يهيم حباً بالمتني والدليل قصيدته التي ألقاها عام 1977 في المكتبة الوطنية انذاك لمناسبة مرور الف عام على وفاة المتنبي التي يقول مطلعها:

  ” تحدى الموت واختزل الزمانا…..فتى لوى من الزمن العنانا

   فتى خبط الدنا والناس طُراً…..وآلى ان يكونهما فكانا”.

    الآن قررت إعادة قراءة ديوان المتنبي بأجزائه الأربعة بمجلدين من شرح عبد الرحمن البرقوقي، وتوقفت عند أكثر من مسألة. في المقدمة منها أنّ ما قرأته وحفظته عن ظهر قلب قبل خمسين عاماً أو أكثر هو نفسه المثير واللافت في شعر المتنبي. لم أعثر على بيت جديد مما كنت حفظته وأبناء جيلي من المتنبي. ماذا حفظت وحفظنا؟ القصائد او الأبيات التي تتغنى ببطولاته ومعظمها “فارغة” من أي محتوى حقيقي. بل همُّنا في وقتها حتى في ” مَلْخياته” وهي كثيرة. المتنبي في الواقع لم يكن شاعر مدح إلّا ما ندر بل شاعر ” نفخ”. فلقد مدح أناساً لا وزن لهم، ولا حجم ولا تأثير، ولا أحدٌ منهم ترك أثراً في التاريخ حتى بعد أن مدحه أو هجاه، ما عدا اثنين وهما، سيف الدولة الحمداني وكافور الاخشيدي. أحبَّ سيف الدولة وكره كافور ولذلك لم يكن مدحه لسيف الدولة إلّا بناء على موقف حبٍ مسبق، ولم يكن هجاؤه لكافور الذي كان مدحه أيام اختلف مع سيف الدولة إلا بناء على موقف كرهٍ مسبق.

      هل هذا الذي قلته وهو رأي انطباعي يقلل من قيمة المتنبي؟ بالتأكيد لا. فشاعر بحجمه تخطى أمر إعادة التقييم بعد كل ما قيل وكتب عنه. أنا شخصياً أُحِب المتنبي حين يتألق في مثل هذا البيت الذي يُعدُّ من معجزات المتنبي حيث جمع فيه ست مطابقات:

” ازورهم وسواد الليل يشفع لي … وانثني وبياض الصبح يغري بي”.

   أو قوله على لسان حصانه في شعب بوان في بلاد فارس:

   ” يقول بشِعبِ بوّانٍ حصاني… أعن هذا يسارُ إلى الطعانِ ..

     أبوكم آدمٌ سنَّ المعاصي  وعلّمكم مفارقةَ الجِنان

      أو قوله:

    ” أدرن عيوناً حائرات كأنها .. مركبة احداقها فوق زئبقِ“.

    لكن مع ذلك عند قراءتي الثانية له لم أجد ما هو جديد على كثرة ما كتب من شعر هامت به الأمة العربية لأنَّ ما يحتويه ديوانه من درر شعرية، ينتمي إلى مجال الشعر عبر أغراضه المعروفة التي تخرج من ميدان ” الشعرية” إلى ميدان “الحياة” مثل المدح أو الذم أو الهجاء، بينما لو تأملنا شاعراً مثل امرئ القيس الذي لم يترك شعراً كثيراً كالمتنبي، لكن ما تركه من شعر، فضلا عن كونه اول ما وصلنا من شعر عربي، فإن أحداً من وجهة نظري لم يستطع تجاوز امرَأ القيس بمن في ذلك المتنبي نفسه. امرؤ القيس صاحب أول معلقة وصلتنا في زمن الجاهلية -وبالمناسبة الجاهلية تسمية خاطئة- لكن هذا ليس وقتها.

     لم يصلنا من شعر قبل القيس سوى أبيات تعود إلى المهلهل بن ربيعة الذي هو بالمناسبة خال شاعرنا المعني.

     وللخيلفة عمر بن الخطاب ” رض” رأي مهم في امرئ القيس عندما قال إنه ” هو الذي خسف لهم عين الشعر”. امرؤ القيس ترك ثلاث قصائد هي معلقته التي مطلعها:

    ” قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ.. بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ”. وقصيدته الثانية ومطلعها:

   ” ألا عِمْ صباحاً أيها الطللُ البالي.. وهل يَعِمَنْ مَنْ كان في العُصِرِ الخَالي“.

وقصيدته الثالثة المذهلة ومطلعها

“سما لكَ شوقٌ بعدَ ما كان أقصرا…..وحَلّت سُليمى بطنَ قوٍ فعَرْعَرا

كنانيةٌ بانت وفي الصدر وُدُّها…..مجاورةٌ غسان والحي يَعمُرا

والتي يقول فيها ابياتاً مشهورة،

بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دونهُ

 وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقيصرا

 فقلتُ له لا تبكِ عينُك إنّما

 نحاولُ ملكاً أو نموتُ فنُعذرا“.

    من وجهة نظري، أعظم شاعرٍ هو امرؤ القيس لا المتنبي. المتنبي ينتمي إلى المجال العام، بينما امرؤ القيس ينتمي إلى مجال الشعر. “الشعرية” هي التي تحكم أداء امرئ القيس، بينما الشعر بوصفه غرضاً مدحياً أو رثائياً أو هجائياً هو الذي يحكم مجال المتنبي أو مساحة القول عنده.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق