الفرق بين “السياسي الكاتب” و”الكاتب السياسي”…


ما أفهمهُ، أنّ “الكاتب السياسي” هو غير “السياسي الكاتب”.
الأوّل يكتبُ بعقلهِ, والثاني يكتبُ بعاطفته. الأوّل يفرشُ على طاولته أوراقَ من يُحبُّ وأوراقَ من يكره, ثم يقرأها علينا جميعاً قبل أنْ يكتب ورقته في نهاية جولة القراءة، حريصاً على أن يُبيّن المحاسنَ والعيوب.
أما الثاني فليس على طاولته سوى ورقةٍ واحدةٍ هي ورقة حزبه وتياره, وهو يقرأها علينا من دون زيادة أو نقصان, حتى كأنه يحفرها على مسلَّة وينقشها على حجر, ثم يدعونا بعد ذلك لحفظها عن ظهر قلب.
الكاتب السياسي يقرأ علينا أفكاره, أما السياسي الكاتب فهو يقرأ علينا بياناً سياسيّاً أو افتتاحيةً لصحيفة الحزب الذي ينتمي إليه , لذلك تراهُ منحازاً بالمطلق لفكرته منذ البداية, فهوَ وهيَ, ومن دونه وبدونها, ليس هناك من فكرٍ ولا خليقةٍ.
لقد مر العراق في عهودٍ متضاربةٍ, عنيفةٍ ومتخاصمةٍ, وكان أسوأ دورٍ للمثقف في جميع تلك العهود، أنهُ كان راوية للسياسي وشارحاً لخُطَبِه, وما زال بعض مثقفينا حريصاً على أن يورث جيناتِهِ الأحاديةَ الرأي والعقيدة لأبنائه من بعدهِ.
لكنَّ المثقفين من أحادييّ الخلية, أي أولئك الذين يحبّون بالمطلق ويكرهون بالمطلق, ليسوا هم من يُحيرنا, وإنما أولئك الذين يحبون من واقع النكايةِ بالخصوم أكثر مما يحبون من واقع الوَلَهِ الحقيقيّ بالمحبوب.

إن عدداً غير قليل من الذين يحبون عبدالكريم قاسم إلى حد التقديس ظلوا على حُبّهم القدسي هذا نكاية بخصومهم, وليس لأن قاسم يستحق حقاً هذا الحب المفرط والمفتوح. هم يعرفون أن قاسماً لم يكن كله حسناتٍ, لقد كانت له أخطاؤهُ أيضا, فإذا قيل إنّ البعثيين كانوا قد غدروه في الثامن من شباط، فهو أيضا كان غدر بالملك وتسبّب بمقتله وأهله دون يسيرِ رحمة. وإذا قيل إنّ عبدالكريم قاسم كان نزيهاً فإنّ المطلق من خصومه الملكيين والجمهوريين كانوا على نزاهته, إذ لم يُعْرَف عن العراق منذ حمورابي وآشور بانيبال أنّ زعماءَهُ كانوا لصوصاً أو سراقَ مالٍ عام, حتى أتانا لصوص العملية السياسية الحاليّون بما لم تأتِنا به الأوائلُ.
إنّ قاسماً كان قد جمع الضدين, وقد صيَّرهُ خصومُهُ شراً بالكامل, في وقت صيّره خصومُ خصومهِ خيراً بالكامل, ومن الحق لمن يُحبّه أن يذكر حسناتِهِ ولا ينسى سيئاتِهِ, لأنّ الهدف من الكتابة عنه هو أن نضع أمام شعبنا تاريخاً حقيقياً من دون ألوانٍ زاهيةٍ يضيفُها قلمُ الودِّ أو من دونِ ألوانٍ معتمةٍ تضيفُها ريشة الكراهية!.