“الطائفية”..مدخل بسيط لمشكلة معقدة..(الجزء الثاني)
وأجد أنّ المداخل السياسية للاقتراب من الظاهرة الطائفية، ربما تؤدي إلى التَيْهِ. مثلاً الادعاء أن ثورة الخميني الإيرانية كانت السبب الأساسي في ظهور الطائفية في العراق هو ادّعاءٌ يحاول كسبَ الجولة سياسياً أكثر من محاولته التصدّي لدراسة هذه الظاهرة بكل عمق وذلك من خلال البحث عن جذورها وتمظهراتها الموضوعية وتعرّجاتها التاريخية.
إنه القول ذاتُهُ الذي يُلقي سببَ وجود الظاهرة على كاهل الدول الاستعمارية, وخاصة بريطانيا وفرنسا وبعدهما أمريكا وإسرائيل، معتمداً على نظرية المؤامرة أولاً، ولكي يحسم بحثَهُ بانتصار هو بالنتيجة انتصار طائفي يعكس نفسه من خلال تحميله لتبعات التفعيل الطائفي على الطائفة المقابلة. إن باحثاً من هذا النوع يزيد الطين بلة، ويُضيفُ إلى الحشفِ سوءَ كيلٍ, ولكان الأفضل لنا لو أنه لم يتطوع, حتى بوجود حُسْنِ النيّات, على أن يُدلي بدلوه الذي حرك بهِ طينَ القعر بدلاً من أن يستعمله لتحصيل الماء الصافي من أعلى البئر.
من المهم تأكيد أن الانتماء للهويات الثانوية ليس فيه ضير ولا يحمل عدوانية, لكن إئتمان جانب العدوانية النائمة، لا يمكن تحقيقه إلا بوجود عاملين متفاعلين في الوقت نفسهِ, العامل الأول هو الثقافي الحداثي الذي يؤمن بحرية التدين والإلحاد والتمذهب أما الثاني فهو عامل ضبط الصراعات السياسية لكي تجري في ساحة الهوية الوطنية وضمن دولة علمانية تضمن سيادة القانون والمساواة وتفصل الدين عن السياسة وتعتمد على عدِّ العمل السياسي الديني محرماً.
إن الطائفية هي التعصب أو الإنتماء المتعنت لطائفة أو دين وتقديم هوية هذا الانتماء الثانوي على هوية الانتماء الأساسي وهو الانتماء الوطني. المجموعة تنغلق على نفسها وتبدأ بالتمأْسُس الفقهي والثقافي وحتى التنظيمي السياسي والاجتماعي خارج إطار المجتمع الموحد, ثم إذا بها تؤسس لها تاريخاً خاصاً بها متناقضاً مع تاريخ الأمة أو الوطن السياسي الجامع. إنها تتحول من ملة وطريقة فقهية للتعبد إلى مكون له حقوق بموجب الانتماء لطائفته.
يقول برهان غليون في كتابه (نظام الطائفية .. من الدولة إلى القبيلة) : إن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة٬ وأنها تشكل سوقا موازية٬ أي سوداء للسياسة٬ أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم او مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة.
ولكنْ هل بدأت الطائفية مع تشكيل الطائفة أو الملة أو المذهب، أم تُرانا نؤرخ للبداية بِتَسيّس الطائفة وتحوّلها إلى طائفية, وعلى يد من جرى ذلك.. قسم يؤكد أنّ الطائفية لم تتأسّس إلا بعد دخول الاستعمار وخاصة في فترة انهيار الدولة العثمانية حينما تم مثلاً تأسيس الكيان اللبناني على أساس طائفي وقبل ذلك حينما فرضت فرنسا نفسها تقديم حل لمشكلة جبل لبنان, فهل خلا التاريخ الإسلامي نفسه من تمظهرات طائفية على شكل تأسيس دول أو شكّل انفصامات إجتماعية وثقافية ساعدت بدورها الدول الإستعمارية لفرض حلول بهذا الاتّجاه .. إذن كيف يمكن وصف الحروب التركية الإيرانية (العثمانية الصفوية) في العراق التي ساعدت بشكل رئيسٍ على تفعيل الطائفية في العراق سياسياً. ونجد أن استخدام الطائفية من قبل الدول الاستعمارية كأداة لتفكيك المجتمعات العربية يتطلب أن تكون الطائفية موجودة أصلاً وجاهزة للاستعمال.
ونسأل هل الطائفية، ظاهرة دينية بحتة أم ظاهرة سياسية أم ظاهرة عِرْقية, ففي أحيان اشتداد الصراع يكون هناك دخول حالة على أخرى .. فقد رأينا في العراق ملحدين وطائفيين في الوقت نفسه، ولدى الجانبين الشيعي والسني.
على أنني لا أجد أن هناك فرصة لكي يكون الطائفي وطنياً إلا إذا كان الوطن أحادي الطائفة.
وعموماً فإن المذاهب الرئيسة في الإسلام، خمسة : الحنابلة. الشوافع, المالكية. الحنبلية. الشيعة.
ويؤكد الوهابيون أن هناك فَرْقاً بين المنهج أو المدرسة وبين الطائفة مدّعين أنهم ليسوا طائفة وليسوا مذهباً خامساً أو سادساً وإنما يقدّمون أنفسهم كاصحاب طريقة بادّعاء أنها تمثل الإسلام الصحيح وهم لا يعترفون بهذه المكوّنات خارج إطارها الممثل للإسلام الصحيح .
أما مفهوم الطائفية “الحداثية” فيعني انتقال الصراع الطائفي من حالة تغلب إحْلالي إلى حالة تعايش توافقي يقوم على الاعتراف بنظام المكونات السوشيوبوليتك الذي نقل الصراع من خانة الهيمنة إلى حالة الغلبة الديمقراطية.
بمعزل عن وجود الدولة الوطنية التي تبعد النشاط الديني عن الدولة وتحد من تفعيله سياسياً من خلال قوانين صارمة فإنه ليس بإمكان المعادلة التوافقية، أو واقع التعايش السلمي بين الطوائف في دولة المكونات أن يسود, فالتعايش في دولة المكونات، أمرٌ غير مكتوب له الإستقرار والثبات من واقع حركية الصراع بين المذاهب وطبيعة الإسقاطات أو الإستخدامات السياسية لها, وهو صراع مكتوب له أن ينتقل من مساحة التعايش السلمي التوافقي إلى مساحة الصدام الطائفي حينما يجري تفعيله سياسياً في أيّة لحظة.
إنّ السكون الطائفي التعايشي ضمن دولة المكونات التوافقية غالباً ما تهدّده حركية الطموح السلطوي لأشخاص يحاولون الوصول إلى السلطة من خلال تغذية التعصب الطائفي الذي غالباً ما يتأسس على تفعيل “ثقافة الاختلاف” وتغليبها على “ثقافة التعايش” بما يحول دون نشوء ثقافة ساكنة ونهائية لعملية التوافق .
وبالملخص فإن العَلْمانية الديمقراطية لا تتطلع للقضاء على المذاهب أو الأديان وإنما هي منهج لإبعادهما عن السياسة.
خلاف ذلك وحالما يتدخل الدين في السياسة فهما سيَخْرَبَانِ معاً.