“الطائفية”… مدخلٌ بسيطٌ لمشكلةٍ “معقدة”!
إنَّ تقديمَ حلٍّ لمشكلةٍ كارثية ٍكالطائفية يُوجبُ علينا أنْ يُجْرَى البحثُ فيها بأقصى حِيادية وحرفية.. والحيادية هنا هي قدرة الشخص على المتابعة العلمية البعيدة عن ضغوطات الموروث وليس تلك التي تتَّخذُ موقفاً حيادياً بين الخطأ والصواب.
لن أدَعي قدرةً مطلقة على التحرّر من ضغط الموروث, لكنْ سيشفعُ لي طيبُ النيّات بتخفيفِ عَوَق التفاصيل, فإن وُجِدَ خطأ هنا أو خطأ هناك فإن ما يجعله خارجَ القصد وضوحُ نقاء الهدف وغياب التدليس, ثم سيقلّلُ كثيراً من شأنهِ، الفهمُ الواسعُ والغنيُّ لمفهوم الطائفية وتقسيمها إلى أنواع منها ما هو مذهبيٌّ، وما هو طائفيٌّ ثم تقسيم الثاني إلى أنواعهِ السياسية والإجتماعية والفردية، لكي نضمن اقتراباً جيداً وبمداخلَ تضمنُ لنا عدمَ الوقوع في فخ التجريد أو التعويم الذي يقودنا بدوره إلى تأسيس أحكام نهائية خاطئة، ربما كان يمكن تلافيها لو أحسنا تصنيف الظاهرة وأجدنا طريقة الإقتراب منها.
وفي أحيان عدة يكون الوضع الطائفي في العراق ملتبساً مما تُستوجَبُ ملاحقتُهُ في العمق وتفكيكهِ بصبر وتأنٍ العثور على تفسيراته بشكل سليم. أما وصفه على السطح لتأسيس أفكارٍ نهائيةٍ وناجزةٍ فهو قد يكون مُضَلِّلاً, إذ قد تكون الطائفية عندي نتاجاً لخوفي من الطائفية عندك. بدايةً ليست هناك مشكلة مع التعريف اللغوي أو حتى الفقهي للطائفة ولا يشكل الإنتماء إليها معضلة إلا إذا تفعّلت سياسياً. فهي كمفردةٍ تُستعمل لتوصيف جماعة من الناس تَتَبَعُ فقهاً دينياً بعينه, غير أنّ عدم تعريف الطائفية على أساس سليم ووفق توصيفات وتصنيفات دقيقة سيؤدّي حتماً إلى تفاقم الظاهرة نتيجة لخطأ تعويم التعريف وصِيَغِ المعالجة.
وحينما لا نميّزُ بين الطائفية السياسية والطائفية الاجتماعية، بين الموروثة الخاملة وبين المكتسبة الفاعلة، بين الإنتماء الفقهي للطائفة وبين الإنتماء الهوياتي للطائفة، حينذاك فإن التعامل مع الطائفية دون تمحيص وكأنها حالةٌ واحدة سيؤدي بالفعل إلى تهميشٍ لفاعلية العلاج وتخفيفٍ لقدرته على الفعل.
ويمنعُنا الخلطُ بين طائفيةِ المجتمع وطائفية الدولةِ من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية٬ فنحسب أنَّ خطر الواحد يتساوى مع خطر الآخر. وأنه بوجود أحدِهما يوجد الثاني. والأمر الأخير إذا فَرَض نفسه فالأوجب أنْ يُجْرَى ترتيب العلاقة بين الطرفين بشكل يقول إنّ الطائفية الاجتماعية مصدرها في الأصل سياسيٌ. وبدون التفعيلِ السياسيّ لا خطرَ هناك لأن يتحوَّل الاجتماعيّ إلى سياسيٍّ. ويشترط ذلك أنْ تتفوّق النخبُ السياسية على انتماءاتها الثانوية لصالح انتمائها الوطني, وأن تُحرَّرَ معها الدولةُ ومؤسساتُها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى “دولة مواطن”.
وهذا التأكيدُ لا يعني من جانبه أن الإجتماعي لا يُنتج السياسي ولكنه يعني أن بإمكان مجتمع الطوائف أن يبني دولة وطنية إذا ما أنتج نخباً سياسية وطنية غيرَ طائفيةٍ في ظل ظروف تشجعه على ذلك, ويتأكد هذا من معرفة أن مجتمعنا مجتمع الطوائف هذا كان في بداية تأسيس الدولة العراقية عام 1921 قد أفلحَ في إنتاج نُخَبٍ وأحزاب وحركات نقيضة للطائفية وذات ولاءَاتٍ وطنية متقدمة, ولو كان الناتج السياسي بطبيعته حتمية لواقع اجتماعيّ ساكنٍ لما وُجِدَتْ هذه الأحزاب والتجمعات أصلاً.
ولعل ذلك يُحيلنا إلى مسألة ذات أهمية كبيرة, فاشتراط أن تنتهي الطائفية الاجتماعية أولاً للحيلولة دون نشوء الطائفية السياسية هو حلمٌ طوبائي, على الأقل في المراحل المنظورة, مثلما هو تعطيل لأمل بناء الدولة الوطنية من خلال نخب علمانية وطنية ينتجها مجتمع الطوائف نفسه ثم تعود هي بدورها إلى التضييق على الظاهرةِ الطائفية ثقافياً ومنع تفعيلها سياسياً. والأمر لا شك يحتاج إلى نشاطاتٍ إنسانية تتخطّى مساحة الوعظِ الثقافي إلى ما هو سياسي وقانوني وثقافي واقتصادي, أي العمل على تغيير البيئة أولاً لتنشيط جانبها الوطني وإنتاج وتوسيع حواضن تعميق الهويات الوطنية وجعلها كقيمة أخلاقية ومادية تعلو على الهويات الثانوية.