الصفر التاريخي
بقلم: د. جعفر المظفر
ما هوالصفر التاريخي؟ ..بالنسبة لي كعراقي, هو موقف في أعماق التاريخ تذهب إليه مجموعة من الناس لتغيب فيه ناسيةً بعدها العودة إلى الزمان التي تحركت منه. وهو هنا عندي الموقف من استشهاد سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب.
وأرى أنّ الإمام الحسين قد قتل مرتين. مرةً على يد يزيد ومرة على يد كل من حاول أن يجعل من قضية استشهاده مناسبة للبكاء والنحيب متجاوزاً العبر العظيمة لمعركة الاستشهاد. وأرى أن شر القتلتين هي القتلة الثانية, ففي حين استطاعت القتلة الأولى أن تنحرَ جسد الحسين فإن القتلة الثانية تحاول أن تنحرَ روحه وتسلب منه معنى البطولة والاستشهاد لتحوّله إلى مجرد مظلوم مسكين ومستحق للرثاء !!!.
وأتساءل .. كيف يمكن لشعب أن يجلد نفسه ويعاقب ذاته بالطريقة التي يفعلها الكثير من شيعة هذا اليوم ؟!
وسأجيب, إنّ الأمر لا يخلو من تخطيط متعمد هدفه تعطيل شعب وبلد بكامله وإخراجهما كاملاً من مسيرة التاريخ إلى حيث يعيش الماضي بكل تفاصيله المؤلمة, والتي أشدها إيلاماً هي تلك التي تتجلى من خلال عملية خطف شعب بكامله, وإيداعه في زمان لا يمكن العودة عنه, وفي مكان لا يمكن الخروج منه.. إنه مكان الصفر التاريخي وزمانه, حيث لا شيء قبله ولا شيء بعده, وحيث كل زمان هو عاشوراء وكل مكان هو كربلاء.
وفي تلك المساحة, مساحة الصفر التاريخي, قُدِّر لهذا الشعب أن يبقى باكياً لاطماً يمتهن الحزن ويتجرع مرارة الخذلان, جالداً ذاته, وملطخاً جبهته بوحل جريمة أقنعوه زيفاً بأنه كان ارتكبها.
إن كثيراً من القوى كانت ساهمت في صنع هذه المؤامرة, نعم المؤامرة.
هناك منابر البكاء واللطم التي ترتزق من دم الحسين وتتاجر به وترى أن استمرارها مرتهنٌ فقط بقدرتها على أن تلقي القبض على الشعب في مساحة الصفر التاريخي تلك لتبقيه هناك يبكي خذلانه للحسين متحولاً إلى شعب مسكون ومعطل بعقدة الذنب.
وهناك أيضا الكثير من رجال الدين المعمَّمين الذين يساهمون بأشكال مختلفة في بقاء الشيعة في منطقة الصفر التاريخي لأن خروجهم منها يعني إمكانية خروجهم على الطاعة الكهنوتية التي تؤدي شيئاً فشيئاً إلى تراجع دولة الحوزة لصالح دولة الوطن.
ولقد ظلت منطقة الصفر التاريخي هي المنطقة المفضلة لدى صفويي الفرس, ففيها أيضا, ومن خلال ثقافتها تجري العودة الواضحة لرد الصاع صاعين لمن هدموا الإمبراطورية الفارسية. وإن ما تهدم بعناوين اسلامية تتم اليوم إعادة بنائه بعناوين طائفية, وواحدة بواحدة والبادئ أظلم, أو على قول الإخوة المصريين (كان غيرك أشطر).
وإن كان شيعة إيران يشاركون أقرانهم طقوس الحزن على الخفيف فهم لا يشاركونهم أبداً عقدة الذنب التي ترهق التاريخ والانسان العراقي ولا يمارسون عقوبة جلد الذات تكفيراً عنها, ولا يشغلون أنفسهم في البحث عن قاتل الحسين من بين صفوفهم أو على أراضيهم.
واليوم، فإن هذه المنطقة بدأت تضيّق الخناق على شيعة العراق, ومن خلالهم على العراق جميعه, بعد أن تهيأت لقوى الإسلام السياسي الطائفي فرصة الاستيلاء على السلطة وبعد أن تبين تماماً أن هذه الأحزاب لا تملك ثقافة خارج منطقة الصفر تلك. وبدلاً من عشرة أيام من عاشوراء صار كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء, فما إنْ تنتهي مناسبة حتى تأتي أخرى لأن المطلوب أن تتسع دائرة الصفر التاريخي لكي تكون هي كل الأزمنة وكل الأمكنة.
وبالأمس فقد سهُل أمر الهيمنة على الشعب الصيني العظيم حينما أغرقوه بالحشيشة والإفيون.
ويوم أن شاء ماوتسي تونغ العودةَ بشعبه إلى الحياة مرةً اخرى صارت مهمته الأولى أن يخرجه من منطقة الصفر التاريخي حيث جرى تخديره وتعطيله.
أما العراق فليس بمقدوره العودة إلى عافيته ما لم يخرج الشيعة من منطقة صفرهم التاريخي, تاركين جلد الذات تكفيراً عن جريمة لا علاقة لهم بها.
وحينما يعودون عن تلك المنطقة سيكون أثمن ما يحملونه معهم قصة رجل عظيم كان استُشهد على أرضهم ودفع دمه ودم أهله وصحابته دفاعا عن موقف أخلاقي سيكونون قادرين على احترامه لو أنهم ارتقوا لمستواه بالعمل والأخلاق والصدق والأمانة والنزاهة لا بالنحيب وجلد الذات ومبايعة اللصوص ودجالي الطائفية اللعينة ودعاة ثقافة “الصفر التاريخي”.