فكر

الشاعر كأديب والشاعر كإنسان

     أنا لا أتحدّثُ هنا بادّعاء أنّني شاعر أو حتى لكوني ذواقاً للشعر, فانا أحسب نفسي في مرتبة متواضعة بالنسبة لآخرين لهم القدرة والحق في تناول المسألة الشعرية لأنهم من أهلها, ولكنْ حينما يتوقف الأمر على تناول الجانب الاجتماعي والنفسي والتاريخي للشاعر كونه إنساناً بدرجةٍ أساسية فذلك ما أهتم به وأتجادل فيه.

    وأجد أننا أمام نوعين من القراءات, أولاهما تلك التي تتناول شاعرية الشاعر, وثانيتهما تلك التي تتناول شخصية الشاعر. ولقد وجدت، ومن خلال متابعتي لهذين الشأنين أن تَقييم البعض لا ينطلق من أهمية الفصل ما بين الشاعر كأديب وبين الشاعر كإنسان. هذا الموقف في اعتقادي يحمل نواقصه من واقعية أن الباحث يُسْقِطُ مزاجه الشخصي (عينُ الودِّ أو عينُ الكراهية) على منهجه البحثي فيورّطنا معه في حصيلة متقاطعة مع التقييم العلمي والمهني والاخلاقي.

    إنَّ البعض يكره عبدالرزاق عبدالواحد لأنه أحبَّ صدام حسين ومجَّده, ويغلقُ بقفل الكراهية السياسية على البوابة التي تسمح لنا بالحكم عليه كما هو, لا كما نحن, فإذا به يحكم على شاعرية الشاعر وعلى شعره من خلال موقفه هو وليس من خلال موقف الشاعر, إذ قد يكون الشاعر صادقاً في محبته لصدام حسين ومؤمناً بما يقوله, فليس كل من أحب صدام حسين ومدحه كان انتهازياً.

     مثال آخر قد يضعنا في نفس المساحة هو الموقف من الكبير مظفر النواب, فالرجل كان شيوعياً ونقيضاً للبعث عقيدةَ وتاريخاً وأشخاصاَ, ولكنني مع ذلك لاحظتُ أنَّ كثيراً من البعثيين أنفسهم من أعداء (النَواب) السياسيين معجبون حقاً بالنواب الشاعر رغم كراهيتهم للنواب السياسي, وكانت قصيدة (براءة) مثلاً تدور على ألسنتهم دائماً كما أن قصيدة (الريل وحمد) صارت قاسماً مشتركاً لألسنة العراقيين الذي يتغنون بمحبة العراق.

     وإني لا أجد رجلاً عانى ما عاناه من هذا الخلط المرتبك والمزاجي والإسقاطي مثل كبير الشعراء الجواهري بحيث صارت مواقف الجواهري الشخصية تأكل من عظمته الشعرية. ومما يُقال على سبيل المثال إنّه كان سريع التحوّلات : فمن تأييد للحكم الملكي إلى تأييد لعبدالكريم قاسم إلى الثناء على أحمد حسن البكر. برفقة ذلك لم يكن البعض مستعداً للبحث في إبداع الشاعر بمعزلٍ عن مواقفه السياسية.

       إن كبير الشعراء الجواهري طالما تغنّى بالعهد الجمهوري وزعيمه عبدالكريم قاسم ووقف مواقف عداء شديدة ضد البعثيين والقوميين وكل خصوم عبدالكريم. ونستذكرُ هنا  قصيدته المشهورة التي يحث فيها عبدالكريم على قتل خصومه بعنوان “تحرك اللحد” (فضيِّق الحبلَ وأشدُد في خناقهمُ ٠٠٠٠٠٠فربّما كان في إرخائه ضرر)*

    إذ كلما أعود لقراءة تلك القصيدة فإني أهتز مرتين : الأولى من الحبكة الشعرية التي عليها القصيدة والثانية من موقف الشاعر الميّال لإدماء الموقف بدلاً من تقديم النُصْح والرؤى الحكيمة, وأسأل: ولكن لماذا يحاسب الشاعر على موقفه الشخصي حتى كأنه المخطئ الوحيد فينا يوم كنا جميعاً على خطأ ..؟! أليس الشاعر إنساناً مثلنا يأخذه الموقف إلى حالة انشداد تتفوق فيه عاطفة الشعر على حكمة الإنسان. بل لعله الأكثر فينا انشداداً لانفعالاته الشعرية الجامحة.

    في رحلتنا العراقية المتخمة بكل أنواع العذابات علينا أن نعيد قراءة تاريخنا على ضوء حكمة السيد المسيح : من كان منكم بلا خطيئة فليرْمِها بحجر.

بدون هذه الحكمة سيكون صعباً علينا أن نرى النور في نهاية النفق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 *برغم علمي أنّ الجواهري لم يكن شيوعياً، فلقد كنا نحن في التيار القومي في زمن الصدام مع الشيوعيين بعد الرابع عشر من تموز نعتقد أن الجواهري كان قد مالأهم أو انحاز إليهم, ولذلك حسبنا أن القصيدة كان قد قالها في معرض تشجيعه لعبدالكريم قاسم وللشيوعيين بالإنتقام منا بالطريقة التي تم فيها الأمر حينما قاموا بسحل خصومهم بعد محاولة الشواف في الموصل للإنقلاب ضد عبدالكريم قاسم.

          إلا أن القصيدة كانت موجهة ضد رجالات العهد الملكي من أصحاب الجرائم ضد العراقيين, ولأنها قيلت قبل أن يشتد الصراع الدامي بين الشيوعيين من جهة والقوميين والبعثيين على الجهة الأخرى.

وهذه إضمامة من أشهر أبيات القصيدة:

إنّي أُصارِحك التعبيرَ مُجترئاً……وما الصريحُ بذي ذَنبٍ فَيعتذرُ

إن السماءَ التي ابديتَ رَونَقها…يومَ الخميس بدا في وَجهها كَدَرُ

تَهامَسَ النفَرُ الباكون عَهدَهُم..أن سوفَ يرجِعُ ماضيهم فَيزدِهرُ

تَجري الأحاديثُ نكراءً كعادتِها….ولم يُرَعْ سامرٌ مِنهُم ولا سَمَرُ

فحاسبِ القومَ عن كلِّ الذي اجترحوا

عما أراقوا وما اغتالوا وما احْتَكروا

للآن لمْ يُلغَ شبرٌ من مَزارعِهم…….ولا تَزحزح مّمِا شيَّدوا حَجرُ

ولم يزل لهمُ في كلِّ زاويةٍ………….. مُنوِّهٌ بمخازيهم ومُفَتخرُ

وتلكَ لِلحرَّ مأساةٌ مُهيَّجةٌ…..يَدمى ويدمعُ منها القلبُ والبصَرُ

فضيِّقِ الحبلَ واشدُدْ مِن خناقِهُمُ…فَربَّما كانَ في إرخائه ضَررُ

     وبهذا الصدد هناك من يقول إنَّ كلا الطرفين, البعثي والشيوعي, قد استثمر القصيدة لصالحه, فالشيوعيون لم يترددوا في توظيف القصيدة وكأنها قيلت للنيل من البعثيين, في حين أن البعثيين لم يترددوا أيضاً فجعلوا من تلك القصيدة دليلاً على انحياز الجواهري بشكل غير عادل ووحشي أيضاً ضدهم بحيث أصبحت الحبال لغة تلك المرحلة فارتكبت جرائم سحل الخصوم ولغة الحبال وبرفقتها طار ذلك البيت الشعري لكي يحط في مطارات السياسة.

    مطلقاً ليس غرضي هنا أن اثير المواجع, فلقد كنت ولا أزال داعية لغسل القلوب, مؤكداً على حقيقة أن فشل التجارب السياسية السابقة كان السبب الأهم الذي قاد إلى هيمنة تجربة المتأسلمين السياسية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق