مقابلات

الشاعر المبدع عبد المنعم حمندي لـ”برقية”: أنا مشغولٌ بإشكالية الشاعر في وطنهِ المكبَّل بالاحتلال!!

     الشاعر “عبد المنعم حمندي”، يَرقى سُلّمَ الإبداعِ بقصائدَ، وينزلُ السُلّمَ بأخرياتٍ..ويحدثُ أنْ يرقى وينزلَ في القصيدة الواحدة.. الذين كشفوا لي رأيهم هذا، مفضّلين أنْ لا أبوح بأسمائهم، قالوا أيضاً إنّ مثابرتَه مُلفتة، ودأبُهُ في “الحضور الشعري” عراقياً وعربياً، يكادُ يكون “حالة استثنائية”. ولم يُنكروا أنّ غيرَه من الشعراء المبدعين، وحتى الكبار، لهم ما للشاعر “حمندي” في رقيِّ أو نزولِ قصيدةٍ وغيرها، أو انطباق الحالِ نفسِها على القصيدة الواحدة!.   

     ولكيْ أستنجدَ رأيٍ يُعتدُّ به، ذهبتُ إلى ما قاله الشاعر الكبير حميد سعيد: (عبد المنعم حمندي اشتغل على ما هو جوهريٌّ في الإبداع). وكشفَ الأستاذ أبو بادية، وهو قامةٌ شعريةٌ لها ثقلُها الأدبي الإبداعي في العراق والوطن العربي (أنّ القصيدة عنده “عبد المنعم حمندي”، تتشكّل في جوهر الشعر لا في مقوّماته، على أهمية هذه المقوّمات، لغةً، ورؤىً، وإيقاعاً، لذا كانت قصيدتُه تنمو، وتتطوَّر، وتتميَّز، بعيداً عن الشكلي والطارئ، والتجريب السطحي).  

    وللدكتور محمد علي شمس الدين رأي “غريب” عن الشاعر فهو يرى أنّه (وهو يودّع الجواهري لم يتّسم بفوران شخصيٍّ محمومٍ كعبد الرزاق عبد الواحد، ولم يغرق في الفنتازيا كسعدي، ولم يتوغّل في طَوْطميةِ البياتي… بل رأيناه أميناً لما هو إياه)!. وأنا هنا في مثل هذا “التقويم النقدي”، أنظرُ الى المقارنة مع شعراء كبار كالجواهري، وعبد الواحد، وسعدي، والبياتي، أكثر مما أنظرُ إلى الرأي النقدي!.    

       لكنّ التقويم النقديّ ينحا منحىً آخرَ عند الدكتور ابراهيم خليل العلّاف، الأستاذ المتمرّس في جامعة الموصل، الذي أكّد أنّ (عبد المنعم حمندي ترك بصماتهِ الواضحة والمؤثرة في المشهد الثقافي العراقي). وفي السياق ذاته يقول الدكتور هاني عاشور (إنّه الصادقُ لوعدهِ، فما غادر همسةً أو صرخةً إلا أحصاها. إنّه تاريخ شعر، وتاريخ رجولة، ومعجزُ إبداع). ولكي أشكّل رأياً موضوعياً عن الشاعر، سألتُ أيضاً الناقد الثقافي الأستاذ حمزة مصطفى، فأوجزني القول (بقيت القصيدة لديه تعبيراً عن موقف وطني دون أن يُهمل شروط الشعر والتجديد. يبقى أبو براء من بين قلّة من شعراء جيلهِ، وفيّاً للشعر بوصفه موقفاً من الذات ومن الآخر).

     ترى بماذا يمكن أن ألخّص كلَّ ما قاله الذوات الذين استشففتُ رأيهم بالشاعر سابقاً (مما كتبوه) أو سألتُهم قبيلَ كتابةِ هذه المقابلة؟.. لقد اتفقوا على أنّه شاعر مثابرٌ، مخلصٌ لشعرهِ، امتاز بتطوير قصائدهِ، وتنمية جوهرها، وهناك أيضاً كلامٌ عن التزامه الوطني شعرياً، واصطفافه مع قلةٍ حافظت على إبداعها الشعري.

     وعندي -حسب قراءتي لشعره ومتابعتي لحِراكه الثقافي والإنساني- أنّ عبد المنعم حمندي، شاعرٌ حالمٌ، وكاتبٌ مجتهدٌ، يعيش بالشعر، ويتخذهُ “لأْمَةً” أي أداةَ الحربِ كلَّها من سيفٍ، ودرعٍ، ورمحٍ…، وهو “كاتباً”، ذو جملةٍ رشيقةٍ، وعباراتٍ جزلةٍ، ومعنى متماسكٍ، على نسيج ما يتميّز به شعراءٌ معروفون بنثرهم، الذي يضاهي شعرَهم في جمالهِ، وأصالته، ورصانته.

     دعونا، نخوض غمارِ إجاباتِ “أبي براءٍ الشاعر” عن عشرة أسئلتي في هذه المقابلة التي تفتتحُ بها “برقية” ما يمكن أنْ أسمّيه موسماً جديداً بعد، خمسَ عشرةَ مقابلةً نُشرت في أربعاوات “برقية” على مدى شهور، وأحسبُ أنّها سجّلت حضوراً لائقاً في أوساط الثقافة العراقية.     

  **”برقية”: نبدأ من حيث آخر ما أنت مشغولٌ به في إطار منجزك الشعري؟ هل ثمة قصيدةٌ لم تنشرْها بعدُ أو ديوانُ شعرٍ في طريقه إلى النشر؟ حدِّثنا عن القصيدة أو الديوان، ما الجديد فيها أو فيه؟

 ــــــــــــــ “حمندي”: لا قرارَ ولا مستقرَ للشاعر المشغولِ بالشعر ، وأنا مهموم بإِشكالية الشاعر في وطنه المكبَّل بالاحتلال وما صنعه المحتلُّ من فوضى وخرابٍ في النفوس والحياة أولاً، ولأنّي أرى  الشاعرَ  صوتَ وطنٍ وضميرهِ، فهو  يمتلك دورًا مهمًا يجب أن يلعبه داخل المجتمع، ألا وهو استنفارُ الضمير الوطني وحثّ الفرد للوصول إلى حالة من الوعي تتعلّق

تتعلّق بتطهير النفوس وحثها على القيام بأفعال فاضلة، ومحاربة السلوكيات الرديئة ثانياً ، وصياغة الواقع برؤية جمالية توثق اثار الاحتلال والحروب في الحياة والانسان ثالثا ً، أما المنجز الشعري ،لقد أصدرت سبعة عشر ديواناً ، خلال العقود الأربعة الماضية وستصدر هذا العام الأعمال الشعرية في ثلاثة مجلدات  عن دار ينابيع في دمشق بأكثر من 1300 صفحة وتضم قصائدي بين ال 1974-2024, والٱن أقوم بإعداد ديواني الثامن عشر الذي يضم قصائد كتبتُها خلال الشهور السبعة الأخيرة .

   **”برقية”: هل أنت راضٍ عن مستوى أدائك الشعريّ؟.. وهل مازلت مؤمناً بدور الشاعر في المجتمع لتعميق وعيه، وتجذير حسّه الجمالي؟

   ــــــــــــــــ “حمندي”: الشعرُ صوتُ الروحِ وأنينُها، ينبع من قدرة هذه الروح على الإبداع،  والرضا بإشكالية جدلٍ بين ما هو جماليٌّ في الصياغة وثقافيٌّ في الفكرة، و حسب موضوع القصيدة، وظرفها الذي ولدت فيه واقتران الموهبة بما يتصل بالعاطفة والإحساس، وكيف يتفجَّر التعبير المتماهي بالمخزون الثقافي واللغوي .

   نعم بتقادم الخبرة وازدياد المعرفة ينتابُني شعورٌ بالندم على نشر قصائد صدرت في دواويني السابقة، وتحتاج إلى إعادة صياغة مختلفة .وتلافي هنات أو أخطاء ، أو تكرار في صورة أو معنى، ولكنّها تبقى نتاج زمنها ومؤثراته العاطفية والنفسية والحياتية.

      نعم ما زلتُ مؤمناً يدور الشاعر وأهمية الشعر في خلق هواء نظيف يتنفسه الانسان ، وكذلك دوره في صناعة وعي جديد يسهم في نشر المعرفة الثقافية لدى المجتمع؛  كما يساهم الابداع عامة في صناعة الوعي في المجتمع؛ بالرغم من تراجع نسبة القراءة والمتابعة وابتعاد الجمهور عن قراءة الشعر الحديث ، لأن العامة من الناس تبحث عن السهل وعمّا هو دارج ، والشاعر الحقيقي مطالب بأن يرتقي بالعامة من الناس إلى مستوى عالٍ من التلقي.

     نعم هناك فاصلة بين الشاعر والمتلقي ، ولا يستطيع الشاعر الذي يشتغل على جماليات  الحداثة ونسج رؤاه الفلسفية أن يتنازل عن قيمها ومقوماتها لكي تكون بضاعة سهلة في سوق القراءة في

الشارع  بين الناس، فالنص الحديث ليس موعظة تدعو إلى مكارم الأخلاق ومحفّزة على صالح الأعمال ودافعة إليه؛ فهو رؤية جمالية مساهِمة في بناء معرفة وتحليق في فضاء مختلف عن راهنية الفكر والثقافة السائدة .

   **”برقية”: ما مقدار ثقتك بوجود نقّاد يمكنهم تطوير أداء الحركة الشعرية في العراق؟ ..وهل يمكن الإشارة الى اثنين أو أكثر منهم؟ وما هو معيارُ الاعتراف بهم ؟

   ـــــــــــــــــ “حمندي”: لم يَعُدْ النقد الأدبي كما يريده  الشاعر المعاصر : عملية تحليل وتفسير وتقييم ، تتم عبر قراءة النص ومحاولة فهم معناه وتأويلاته،  وتفكيكه ، فيقدّم الناقد البارع قراءة نقدية تضيف إلى النص وتسبغ عليه حلة ناصعة من الفهم والتحليل والتأمل والتأويل ، كان النقد يستند إلى ذائقة جمالية ومعرفية وإلى وعي يتقدم على وعي الشاعر أحياناً فهي غير القراءت النقدية الحديثة التي تعتمد المناهج الغربية والاشتغال على المصطلح ، لقد قرأت نقوداً لم أستفد منها ولم تقدّم ما ينفع أو يضيف للشاعر أو للقارئ. النقدُ الجاد غائبٌ ، أو لا يستطيع متابعة المنجز الابداعي المتنوع، وهناك دراسات نقدية عديدة تناولت دواويني، بلغت أكثر من 50 دراسة وقراءة، لنقاد وشعراء عراقيين وعرب وبالرغم من اختلاف الرؤى والمنهج ،  أفادتني، تعلمت منها وكانت مهمة في صقل تجربتي الشعرية. كما صدرت ثلاثة كتب عن تجربتي الشعرية : الأول 🙁 السرد والصورة – دراسة نظرية تطبيقية – في تجربة الشاعر عبد المنعم حمندي) للناقد الاستاذ عبد الحسين صنكَور، والثاني ( قراءات وشهادات في تجربة الشاعر عبد المنعم حمندي) تحتوي على أكثر من عشرين دراسة وقراءة للكاتب عبد السلام القصاب، والثالث للناقد طلال سالم الحديثي كتاب بعنوان  ( تاريخ الوردة.. الشعر – قراءة في شعر عبد المنعم حمندي)

   ولا أنسى التقديمات التي توّجت بعض دواويني الشعرية منها: ما كتبه الشاعر خليل الخوري عن ديواني “أول النار” ، وما كتبه الشاعر حميد سعيد عن ديوانيْ “تهجدات” و”القيامة”، وما كتبه الدكتور نضال الصالح عن ديواني “ضوء الروح”، وماكتبه الشاعر سعدي يوسف عن ديواني “الأدريس والهدهد” ، وما كتبه الشعراء المنصف الوهايبي ومحمد علي شمس الدين وعبد القادر الحصني عن ديواني “ليل الغاب” وبمقدمة له كتبها الدكتور حسن حميد، وكذلك تقديم الشاعر مراد السوداني لديواني “الصقر وأصفاد الريح” وايضا تقديم الشاعر علي جعفر العلاق لديواني الجديد “نهر ظمي” . هي شهادات ابداعية مهمة في تقييم التجربة.

   ومن يتتبع حركة النقد الأدبي في العراق، في القرن الماضي،  وما بعده ، سيجد فرقاً شاسعاً بين زمنين، حيث كان للنقد حضوره المائز  والنقد مرٱة النص،  أما النقد في الزمن  الراهن، فهو يُشبِهُ  حالَ واقعنا الملتبس ويؤكد غياب النقد الحصيف وطغيان القراءت المسطحة التي لا تنفع بشيءٍ، الا ماندر .

   **”برقية”: تؤثر في الشاعر بيئتُهُ وقراءاته وتجربته الإنسانية، وأنموذجٌ لشاعرٍ أو ربما أكثر ، ونسأل بمن تأثرت ولماذا خلعت جلباب العمود.. ؟

كيف تلخص الحديث عن كل ذلك في ما يتعلق بتأثّر رؤيتك الشعرية؟

   ـــــــــــــــــــــ “حمندي”: لا شكَّ في أنَّ للبيئة تأثيرَها في تجربة الشاعر ، وأنا عشتُ في بيئة ثقافية وأدبية، جوهرها أنها أسرة محافظة دينياً واجتماعياً، لكنّها تحب الأدب والفلسفة والمعارف. وكنتُ تأثرتُ في بداياتي بالمتنبي وأبي تمام وأبي العلاء وشعراء الواحدة وقرأت لأحمد شوقي و بدوي الجبل وسعيد عقل والجواهري وبشارة الخوري وإلياس أبي شبكة وقرأت لشعراءِ العربِ المجدِّدين، ولكل الشعراء الرُّواد في الشعر الحر ومن أتى بعدهم، ولكن الشعر صوت خاص ونتاج معاناة ، قد تساعد البيئة في التكوين الثقافي وإعداد شخصية الشاعر ، إلا أنّ الموهبة أساس التكوين،  ينفرد بها دون سواه من مجايليه ، وعلى الشاعر أن يتوفّر على مقومات الشعر ، اللغة والفلسفة والبلاغة، أن يحفظ مختارات من ديوان الشعر العربي القديم والحديث، ويتأثر بها ولكل قصيدة استجابة انفعالية وللعاطفة تأثير واضح في ما يكتب بأيِّ شكلٍ شعريٍّ كان. و على الشاعر أنْ لا يُقلِّد، وأنْ يبحث عن الصورة الجديدة والمعنى المدهش، وإلّا يصبح شعره نظمًا خلابًا على أفضل تقدير، سواه في شكل نظام

الشطرين والقافية الرتيبة أو نظام التفعيلة والقافية المتراوحة ، والشاعر الكبير قادرٌ بتأثره وتفاعله على إبداع (النص النَّغْل) الذي لا نسبَ له،  لهذا فإنّ أعظم القصائد في العالم، لها آباء كثيرون، لكنّ القصيدة تبقى إبنةً شرعيةً لصاحبها أو لمبدعها وحدَه! ربما لأنَّ أفُقَهُ واسعٌ، وفضاءَهُ بقي مفتوحاً. وآيةُ هذا (التأثّر والتفاعل) أنّ الشعراء العرب الكبار القدامى لم يُبقوا للشعراء المعاصرين إلا هامشاً ضئيلاً في ما يبدعون ويجدّدون!، لقد استنفدت القصيدة العمودية طاقتها التوليدية وكلُّ ما يُقال من شعرٍ على نظام الشطرين هو تكرار واجترار وتقليد لقصائد مبثوثة في ديوان الشعر العربي. وكان الجواهري ٱخر الشعراء ، وكل من جاء بعده ينجرُّ إلى التقليد. مهما أجاد في النظم!، حتى وإنْ امتاز بٱلاف المعجبين قد تكون العاطفة متجلية في الشعر، إلا إنها منسوخة ومستوردة .

  **”برقية”: هل هناك محتوى معيَّنٌ يتكرَّر في شعرك ، وما هي دلالاته أو الأسباب وراء فرض هذا المحتوى نفسه في مرات ومرات؟

  ـــــــــــــــ “حمندي”: قلتُ الشعر المبهر نتاج معاناة وتجارب صادقة وإنّ موضوعات الشعر تتعدد وتتداخل فيما بينها، وقد يتداخل الخاص بالعام . فلم تعد الحماسة، والمراثي، والنسيب، والهجاء، والأضياف ومعهم المديح، ومذمة النساء، أو الغزليات، موضوعات تستأثر وتؤثر وتدفع الشاعر إلى الكتابة فيها ، فكل ما في الكون معين الشاعر فهو رائي يستشرف ويكتشف

    الشعر عندي إيحاءٌ، بل هو تحليق وتخييل، يصوغ لغة متمردة على الأنماط التقليدية، بأشكال ومضامين جديدة في  الفكرة و الصورة والانزياح.. ارتجاج روحي، للأشكال العتيقة، قد تتكرر رموز ذات دلالات في قصائد معينة ولكل رمز حيزه الاستعمالي ،

    نعم تتكرر عندي موضوعات وصور شعرية خصوصا في الراهن العربي  

والعراقي لأنّ المحنة مستمرة، ومن مهام الشاعر صياغة الواقع برؤية حالمٍ يحاول إعادة إنتاجه وفق مضامين جديدة ، فينعكس ذلك في لغة وصور غير مألوفة، فهي حسب أدونيس “رؤيا جديدة وهي جوهرياً رؤياً تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن واحتجاج على ما هو سائد”..

      **”برقية”: هناك شعراء مثل بلند الحيدري، خليل خوري، عبدالأمير الحصيري،  حسين مردان وغيرهم يكاد الجيل الجديد لا يعرف عنهم شيئاً؟ فما رأيك بذلك؟ .

    ـــــــــــــــــ “حمندي”: هؤلاء كوكبةٌ من المبدعين لهم إنجازهم وحضورهم وتركوا بصماتٍ واضحةً في المشهد الشعري العربي ،رحمهم الله..هؤلاء الفرسان الأربعة كُتِبتْ عن شعرهم أطاريح جامعية عديدة ، وأنا أعددتُ كتاباً عن الحصيري بعنوان ( أمير صعاليك بغداد ، اقتفاء أثر الشاعر عبد الأمير الحصيري من الولادة حتى الوفاة وقصائد جديدة) صدر عام 2016 والجيل الجديد غير معنيٍّ بالشعر والأدب بقدر عنايته بموديلات

السيارات وتقليعات الثياب والميكاب والدولار ، فالأدب والفن أصبح للخاصة من النخب الفكرية والثقافية وليس للعامة في المجتمع .

    **”برقية”: متى كان الشعر العراقي في بحر خمسة عقود مضت ، محافظاً على مكانته في الأدب العربي؟

   ـــــــــــــــ “حمندي: مازال الشعر العربي في العراق يتقدم الشعرية العربية الحديثة بكل أشكالها .لقد كان شعراءُ العراق، في كل الظروف القاسية التي مرّوا بها في زمن الحصار والجوع والحرب إلى هذا اليوم، يتصدَّرون المشهد الابداعي مُجدّدين ومبتكرين ، غير أن المبدعين منهم قلّة ، والصادقون قلّة في كل زمن.

  وهذه عظمة الفنّ والجمال في العراق من المتنبي حتى يوسف الصائغ وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر .لقد ظل  الشعر محافظاً على أصالته وقدرته على إنجاب مواهب فريدة ، ولعل الحرب والتجويع والمعاناة زادته صلابةً وبهاءً، بالرغم من ازدياد عدد النظّامين من الشعراء ، إلا أن هناك شعراء يبدعون ويجددون . المشكلة في جمهرة شعراء قصيدة النثر ، فهي تنتشر  وتحدث أثراً  ، وجدلاً  لاختلاط الندى بالسراب وضياع الجيّد في معمعة الرديء!.  

    ويحتاج هذا الكم من القصائد إلى غربلة إذا لم أقل إلى نخالة والى وعي نقدي دقيق لفرز الهُراء عن الشعر،  لأنَّ مشروع قصيدة النثر، الذي قطع الشعراء فيه أشواطاً بعيدة مازال ضمن النص المفتوح. في فوضى هي مرٱة للفوضى في المشهد السياسي.

      **”برقية”: ما أوّلُ قصيدةٍ كتبتَها ؟ هل تذكر مناخ ولادتِها وكيف استقبلها من هم حولَكَ من الأهل والأصدقاء ؟

    ــــــــــــــ “حمندي”: أوَّل قصيدةٍ كتبتُها كانت على نظام الشطرين والقافية الرتيبة على بحر السريع عام 1969، أذكرُ منها:

حُبّكِ يا فواحةَ العنبرِ

يقتاتُ من قلبي ومن مِحْجَري

وحُسنكِ العارمُ تيارُهُ

أغْرَقني في أعمقِ الأبحرِ

   وكتبتُ بعدها ونشرتُ عشرات القصائد العمودية، وكانت لي مشاركات في مهرجانات شعرية و في مناسبات وطنية  وأدبية ، نالت اهتمام الوسط الثقافي.  

   **”برقية”: عَرَفْناكَ تكتبُ الشعرَ العموديَّ فما الذي حوّلكَ الى الشعر الحُرِّ ؟ هل هو بدايةُ تطور شعريّ أم تمرّد على تقليدية الشعر أم لأمرٍ ثالث لك فيه غرضٌ لم تكشفه بعد؟

   ــــــــــــــــــ “حمندي”: لا بد من تقدمة ; عندما صدر ديواني الأول ( أتيتُكَ غداً ) عام 1986 عن دار الشؤون الثقافية ، احتفى به النقّاد لما احتواهُ من قصائد ترفل برؤى حداثية ، ذات شعرية اختلفت في شكلها ومضمونها عن طروحات جيلي ،لغةً ورؤيةً  ، لسببين أساسيين : الأول .. لأنّي لا أعترف ببدعة الأجيال الشعرية، ولا أعرف الى أيِّ جيلٍ ينتمي طُرَفة بن العبد أو المتنبي أو أبو تمام ، وعندما نتصفح ديوان الشعر العربي  ، لا يهمنا سوى الشعر وبراعة الشاعر ولا يستوقفني غير النص المدهش وبأي شكل فني كان  (عمودياً أو حراً أو نثراً) أقف عند الشعر والشاعر ولا يهمني عصره وجيله، فلماذا نضع الشعراء ونحبسهم في أقفاص الأجيال ، كما توضع البلابل ؟ والسبب الثاني : كل شاعر في الأرض هو امتداد لشعراء قبله وخلفية للذي يأتي بعده ويجب أن يكون متميزاً بين مُجايِليه في الزمن الذي هو فيه ! والمجايلون لي لكل منهم عطره ومساره ،  أما البدايات :فإنّي بدأت الكتابة والنشر قبل أربعة عشر عاماً من تاريخ صدور الديوان الأول ( أتيتك غداً)، أي منذ أول قصيدة كتبتها في سنة 1969، كانت على نظام الشطرين والقافية الرتيبة ، وتلتها قصائد على النظام نفسه نشرتها في الصحافة الأدبية بمناسبات متعددة ، ولم أبدأ كتابة الشعر الحر ونشره ، إلا في عام 1976، بقصيدة عنوانها ( عربيٌ هذا الفجر ) نُشرت في صفحة آفاق بجريدة الجمهورية ، ونالت صدىً طيّباً في الوسط الأدبي ، ولهذا التحوّل قصة : يومها تقدَّمتُ بديوان عنوانه (تراتيل حُلم بابليّ) الى وزارة الثقافة والإعلام لغرض طبعه وكان مدير الثقافة العام الشاعر محمد جميل شلش ، والناقد عبد الجبار البصري مدير التأليف والنشر ، والقاص موسى كريدي سكرتير لجنة التعضيد والنشر ، وكان خبير الديوان الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ، الذي أجاز الديوان وأوصى بطبعه ، ولكن اللجنة في حينها لم ترغب بنشر الشعر العمودي للشعراء الشباب، وترويج طباعته ، لأنَّ الشعرَ الحُرَّ كان في ذروة عطائه وتدفق تجارب شعرائه ، لذا قررت اللجنة تعضيد الديوان ، أي أن أطبع مجموعتي الشعرية في إحدى المطابع الأهلية وعلى نفقة وزارة الثقافة والإعلام ، وعندها اصطحبني صديقي الراحل القاص موسى كريدي ومعه الدكتور مالك المطلبي ، وتحدثا معي عن مديات الشعر الحر والتجارب الجديدة ، وأقنعاني بأن مُولِّدة الشعر العمودي قد نفد وقودها ولا يمكن لها أن تعطي جديداً وكل ما قيل وما سُيقال هو تكرار واجترار لنماذج قدمها ديوان الشعر العربي عبر تاريخه الطويل ، وإنّ خاتمة الشعر العمودي هو الجواهري بنموذجه الشعري الذي لا يقبل الإضافة ، ونصحاني بأن أبدأ مشواري بالشعر الحر ، ولثقتي واقتناعي بطرحهما بدأت كتابة الشعر على نظام التفعيلة والقافية المتراوحة.

     وكانت مجلة الطليعة الأدبية حاضنة لقصائدي وبعدها مجلة الأقلام والصحف اليومية وكذلك مجلات أدبية عربية ، وما زلتُ محتفظاً بديواني الذي فيه قصائد الشعر العمودي، مشفوعاً بالموافقة على طبعه وتعضيده، لكنّه لم يطبع، كما أني استأنفت كتابة ونشر قصائد عمودية في الصحافة إبّان الأزمات بعد صدور ديواني الرابع ( أوّلُ النار ) ،عندما رأيت أنّ الشعر الذي يخاطب العامة ويستنفر الضمير الوطني أقربُ اليه الشكلُ التقليديُّ من الشكل الحديث خصوصاً في الفترات التي أجد نفسي فيها ملزماً بتَحْميسِ الناس، والتعبير عن همومهم كوني أعيش في قلب الزحام ، ولا أقف على الرصيف أراقب المارّة ، ولهذا تراكم عندي كمٌّ شعري لو طبع لكان أكثر من خمس مجموعاتٍ لعلّي يوماً أطبعها لغرض التوثيق .

    ولهذا لم أضمِّنْ في (أتيتك غداً ) أية قصيدة عمودية وتشكّلت قصائده من تلك المحاور وهي مختارات من كَمٍّ شعري ، تُلَخّص تجربة البدايات ، وبالرغم من أن صدور ديواني الأول جاء متأخراً مقارنةً بأقراني عمراً مِمّنْ أطلقوا عليهم ( شعراء جيل السبعينات )، الا أن الديوان لفت انظار الوسط الأدبي وأنظار النقاد الذين كتبوا عن قصائدي التي نشرتها المجلات والصحافة الأدبية قبل صدور الديوان وبعده ، أو عن قصائد قرأتها خلال مشاركاتي في مهرجاني المربد الرابع والخامس صعوداً أو ما قرأته في أماسي اتحاد الأدباء منذ سبعينيات القرن الماضي أو في جمعية المؤلفين والكتاب ، قبل انتمائي لاتحاد الأدباء في عام 1977 ، وأستعيد قولي في حوار مطول أجرته معي الصفحة الثقافية في جريدة العراق عام 1983 عقب مشاركتي في مهرجان المربد : أسعى الى تأسيس مشروع خاص بي وبناء بيت طيني مُداف بتجربتي ومجبول بدمائي يبقى شاهداً وحاضراً في المشهد الشعري العربي ، أفضل من قصر ثلجي منيف أساسه ليس لي، ما إنْ تشرق الشمس حتى يذوب . ! للبدايات ومناهلها حكايات كثيرة تستدعي مراجعةً ووقفاتٍ قام بها العديد من شعراء العصر .. ولأنَّ البدايات الطامحة تحرّض صاحبها على المزيد من التأمّل والسعي الى ما يصبو اليه الشاعر، أرى ضرورة استذكارها .

    **”برقية”: الشعر الرافض للاحتلال.. الشعر المقاوم.. أو شعر التحدّي . هل المشهد الشعري العراقي بعد سنة الغزو 2003 له ملامح وتوجهات وانجاز ؟

   ــــــــــــــــ “حمندي”: لقد سبق الشعر البندقية، ومنذ الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق انطلقت الكلمة المقاومة في القصيدة والمقالة ، وتبعتها الفنون الأخرى المناهضة للاحتلال ، لقد اجتمع عدد من الأدباء والشعراء في بغداد في الشهر الخامس من عام 2003 وقاموا بتشكيل أوّل رابطةٍ تحت تسمية (جبهة الأدباء والكتاب العراقيين المناهضة للاحتلال)  التي توسّعت وجمعت نخباً من المبدعين العراقيين في الشتات ، ومن ثم اعترف بشرعيتها الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب ، وعندما استأنف الاستاذ المرحوم صلاح عمر العلي إصدار جريدة الوفاق الديمقراطي في بغداد نهاية 2003 ،فتح صفحات الجريدة للأدب المقاوم في أربع صفحات منها ، ونشرت عشرات القصائد والمقالات حتى يوم إغلاقها في عام 2006 ومازلت محتفظاً بأعداد الجريدة التي تولّيتُ الإشراف على الصفحات الثقافية فيها ،فكانت لسان حال المقاومة العراقية ،ولقد أصدرت في عام 2008 أوّل ديوان شعرٍ مقاوم بعنوان ( معراج آخر)  عن بيت الشعر الفلسطيني ضم أكثر من عشرين قصيدة تقاوم الاحتلال وآثاره في الحياة والانسان .

مقالات ذات صلة