السلطان عبد الحميد الثاني..و “قمع الصحافة”



كلمةٌ لابدَّ منها:
تحدّث مؤرخون -ومنهم بُحّاثٌ عراقيون- عن حياة السلطان عبد الحميد الثاني ، وأقل ما قيل عنه إنّهُ كان حاكماً مستبداً.
في الحديث عن أسلوب السلطان عبد الحميد في إدارة الصحافة في الدولة العثمانية، من الضروري التأكيد على أن موقف السلطان عبد الحميد الرافض لتوطين اليهود في فلسطين لا يعني إطلاقاً أنه لم يكن حاكماً مستبداً، ولدينا الكثير من الأمثلة لحكام عرب في التاريخ المعاصر كانت أنظمة حكمهم تساند القضية الفلسطينية بلا حدود، (وكلهم )كانوا من الحكام المستبدين.
كان السلطان عبد الحميد هو الذي أمر بقتل مدحت باشا بعد بضعة أسابيع من تولّيه منصب رئيس الوزراء ( الصدر الأعظم) وعزله ، والحكم عليه بالإعدام بتهمة قتل السلطان عبد العزيز عم السلطان عبد الحميد ، ثم خفف الحكم الى السجن المؤبد، وبعدها أطلق سراحه ونفاه إلى الطائف حيث مات مخنوقاً عام 1884 في ظروف غامضة.
ويتهم أنصار السلطان عبد الحميد ، مدحت باشا بالماسونية لكنهم يعترفون أنه كان إصلاحياً وعادلاً في بغداد قبل أن يصبح الصدر الأعظم ، وهو الذي أصدر أول جريدة عراقية في بغداد سماها زوراء.

ولإلقاء نظرة على أسلوب الدولة العثمانية في التعامل مع الصحافة نرى أن الدكتور سنان سعيد يشرح لنا مدى قلق السلطان عبد الحميد الثاني الذي تولّى السلطنة عام 1876، ويقول في بحث له عن حرية الصحافة نشره في السلسلة الإعلامية للدراسات في الصحافة العراقية عام 1972 ، وزارة الإعلام ببغداد:
( إن عبد الحميد كان يخشى على حياته وحكمه من خطر الصحافة ، فأصدر أوامره للصدر الأعظم بتكميم أفواه الصحافة وغلق بعض الجرائد وفرض حكماً استبدادياً بتعطيل البرلمان ، مجلس المبعوثان والدستور وشكّل عام 1877 هيئة رقابة جعلها تابعة لمديرية المطبوعات).
وفي سنوات إعدادي لرسالة الدكتوراه بجامعة أكستر البريطانية أجريت بحثاً مستفيضاً بهذا الخصوص، فتبيّنَ لي أن مديرية المطبوعات التي أشار إليها الدكتور سنان سعيد هي مديرية المطبوعات الداخلية بوزارة الداخلية سوية مع الإدارة العمومية للنفوس ، ولعبت دوراً مركزياً خلال عهد السلطان عبد الحميد في التعامل مع الصحافة والصحفيين.
وتولت الرقابة المسبقة على ما ينشر، ودسَّت جواسيسها ومخبريها الذين يكتبون تقاريرهم التي كانت تسمى جرنال ، تصل أغلبها إلى السلطان شخصياً وشغلت حيزاً كبيراً من اهتمامه، بالرغم من عدم دقتها وإفتقارها للمصداقية.

ومن المثير أن سلطات ما يسمى بالانقلاب الدستوري عام 1908، التي لم تقل استبدادية عمَّن انقلبوا عليه ، عثرت في قصر يلدز على الآلاف من هذه التقارير ، وتضمّنت أعمال ألف وأكثر من أولئك الجواسيس، تبيَّن أن بعضها لم يكن له أية علاقة بالصحافة والصحفيين، بل تضمَّن بلاغات الى مديرية المطبوعات، بعضها حول العلاقات الغرامية للسفير البريطاني. وهنالك معلومات إضافية أخرى بهذا الخصوص في كتاب باللغة الانكليزية
Findley , Carter V. Bureaucratic Reform in the Ottoman Empire, 1789-1922 , Princeton,USA
وعن طريق هذه المديرية كان قصر يلدز يرسل تعليماته إلى أصحاب الصحف، لأنها كانت الجهة الرسمية التي تراقب المواد الصحفية مسبقاً قبل طباعتها ونشرها، لمنع نشر التراجم عن الصحف الأجنبية، ولمنع استخدام ( الأسماء المستعارة) في المقالات، وتملك المديرية قائمة بالممنوعات التي تشمل أنباء تعرُّض الملوك الأجانب للاغتيال، وأنباء السلطان المخلوع مراد باشا، والتضييق على المطبوعات الفكاهية لأن السلطان لا يحبها. وهو الأمر الذي أشار إليه بوضوح كلٌّ من الدكتور سنان سعيد، وكذلك الجزء الثاني لكتاب ، دي فيليب طرزي، تاريخ الصحافة العربية، المطبعة الأدبية، بيروت، وأعادت مكتبة المثنى ببغداد طباعته عام 1967.

وينسب كتاب:
Mears, Iliot Grinnell, Modern Turkey, The Macmillan Company, New York, 1924, pp 448-478
إلى الصحفي التركي أحمد أمين بك، قوله أن من أكثر تعليمات ذلك السلطان المستبد، غرابة، هي أوامره بتشكيل لجنة رقابة، مهمتها الوحيدة هي ( التجسس على أول ) من يقرأ الصحف المحلية والأجنبية .
ولم تكن مديرية المطبوعات الداخلية تضم ما يكفي من الموظفين، فكل العاملين فيها هم، مديرها وخمسة مساعدين، وخمسة مُمَيِّزين مدققين وأكثر من 12 مفتشاً يتولون رقابة الصحف والمطابع والمسارح، وقراءة المقالات قبل نشرها.
ولما كانت تعليمات الرقابة على الصحف تقع ضمن التشريعات الصحفية العثمانية ، فسأواصل عرض هذه القوانين في موضوع مستقل لاحق.
