الذكرى”26″ للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري: “فعل الأمر” في شعره السياسي*
(في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة شاعر العرب الأكبر “محمد مهدي الجواهري”، الذي وافته المنيّة في 27 تموز 1997، تنشر برقية “جزءاً” من بحث مطوّل للدكتور هاني ابراهيم عاشور ، يعرض فيه تحليلاً تشريحياً لاستخدام الجواهري “فعلَ الأمر” في بنية شعره، مما يعكس دوره الفعّال في قيادة الجماهير والتأثير في الأحداث السياسية).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقلم: الدكتور هاني عاشور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاش الجواهري بعد مجيئه إلى بغداد حياة المدينة المفتوحة بكل تقلّباتها، واستوعب الأفكار السياسية التي كانت تدور فيها مع بداية قيام دولة عراقية، ووسط أزمات إقليمية ودولية تلقي بتأثيراتها على العراق، مع وجود الاستعمار البريطاني الذي كان يتعامل مع العراقيين كأتباع للسلطة البريطانية الممتدة في أغلب دول العالم.
ومع عمل الجواهري في الصحافة واقترابه من الشخصيات السياسية، وعمله في البلاط الملكي أخذ يتفهم الدور السياسي، ويتخذ لنفسه مكاناً في مجريات الأحداث من خلال شعره الذي عبر فيه عن هواجس وطنية شعبية تحاول التغيير والتحرر سياسياً واجتماعياً وفكرياً واقتصادياً، في وقت كانت الأحداث تسير متسارعة في الوطن العربي وتلقي بظلالها على الساحة العراقية وتثير مشاعر العراقيين. ويقول الجواهري عن نفسه في ذكرياته: “من حقي وقد كُتِبَ عليَّ أن أكون أكثر من أي شاعر معاصر عشته وعاشني أنشدادًا بالجماهير العربية، ولا سيما بالطلائع الواعية منها، وأشدَّ مشاركة في مطامحهم ومعاناتهم” (10).
ويبرز انشداد الجواهري لتطلعات الجماهير بوضوح في قصيدته (ذكرى وعد بلفور) التي كانت تمثل حينها صوتاً مدوياً في الموقف العربي ضد وعد بلفور المشؤوم وضد فلسطين وشعبها، فيفتتح قصيدته بأفعال الأمر تأكيداً لدوره في قيادة تيار جماهيري رافض للخطة البريطانية فيقول (11):
خذِي مسعاكِ مثخنة الجراحِ * ونامي فوق دامية الصفاحِ
ومُدِّي بالممات إلى حياةٍ * تسرُّ وبالعناء إلى ارتيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاح
وقَرِّي فوق جَمرِكِ أو تُرَدِّي * من العقبى إلى أمرٍ صُراح
وقُولي قد صَبْرتُ على اغتباقٍ * فماذا لو صبرتُ على اصطباح
فانَّ أمرَّ ما أدْمَى كِفاحاً * طعون الخائِفينَ من النجاح
فكوني في سماحكِ بالضحايا * كعهدكِ في سماحكِ بالأضاحي
وفي ستة أبيات من مقدمة القصيدة يكرّر الجواهري فعل الأمر ست مرات، وهو يدعو الجماهير إلى الانتفاض والتضحية، متصدراً المشهد الثوري، ويلقي القصيدة في عدة محافل لتصبح حديث الجماهير، ومعظم من يخاطبه الجواهري يدعو الأمة والجماهير مستثمراً فعل الأمر في بنية هذه القصيدة فيتحرك بين جماهير واسعة، وحين يبدأ صدر البيت الأول بفعل أمر، وعجزه بفعل أمر (خذِي، نامي) فإنه يستكمل تأثيره بـ (مثخنة الجراح، دامية الصفاح) فيشكل ترابطاً بنيوياً متلاحماً مع فكرة القصيدة وعظمة القضية، وإن الجواهري هنا يثبت مسؤوليته قائداً واعياً، مع إيقاع متفاعل يجسده بحر الوافر فيتيح لفعل الأمر الظهور بقوة وفاعلية في موسيقى القصيدة.
وينتقل الجواهري بفعل الأمر إلى غرض شعري آخر، فيستثير ويحرض من خلاله، فيصبح فعل الأمر جزءاً من منظومته البنيوية الشعرية. وإذ هو يمارس سلطته الثقافية والشعرية على الجمهور يستعمل فعل الأمر بقوة أكبر ممثلاً جرأة ثورية ولغة تحدٍ بعد عشر سنوات من ثورة العشرين في قصيدة (الدم يتكلم بعد عشر) فيقول (12):
سبًّ من جرَّ هذه الأوضاعا * قبل أن تبكيَ النبوغ المضاعا
سبًّ من شاء أن تموت وأمثالك * همَّا وأن تَروحوا ضياعا
سبًّ من شاء أن تعيش فلولٌ * حيث أهل البلاد تبقى جياعا
وإذ تبلغ ذروة التحدي في هذه القصيدة وتشجيع الآخرين بالسب والشتم، يعلن الجواهري سلطته الشعرية، وقيادته الثقافية للجماهير، فيعززها في نصوص أخرى لإبراز ذلك، فيوجه خطابه للظواهر الطبيعية آمراً لها بأن تطنبق لإنهاء الوضع الذي تعيشه البلاد من مأساة، ففي قصيدته (اطبق دجى) التي نشرها في عام 1941 يكرّر الجواهري فيها فعل الأمر لأكثر من ثلاثين مرة، وكرر كلمة (أطبق) فعل أمر بطريقة استثنائية تجعل من التكرار جزءاً من بنيته الأُسلوبية كأنه يريد أن يبسط سلطة الشاعر على الكون فيقول (13):
اطْبِقْ دُجى، اطْبِقْ ضبابُ * اطْبِقْ جَهاما يا سحابُ
اطْبِقْ على مُتَبَلِّدينَ شكا * خمولَهم الذبابُ
لم يعرفوا لونَ السماءِ * لفرطِ ما انحنتِ الرقابُ
اطْبِقْ على هذي الوجوه * كأنها صور كِذابُ
اطْبِقْ: فأنتَ لهذه السوءاتِ – عارية – حجابُ
اطْبِقْ: فأنتَ لهذه الأنيابِ – مُشحذة – قرابُ
اطْبِقْ: فأنتَ لهذه الآثامِ – شائخة – شبابُ
اطْبِقْ على هذه الكُروش يَمُطُّها شَحْمٌ مذابُ
وفي هذه القصيدة يستعين الجواهري بفعل الأمر فكراً وتحريضاً وبناءً فنياً، فهو بهذا لا يلتمس ولا يدعو، بل يعرض نفسه آمراً ناهياً، ولعل ذلك ما يمكن أن يطلق عليه قصيدة الأمر، التي من خلالها يعلن طالباً الثورة بعد يأس ويعلن بنيته الفنية إيقاعاً ودلالةً وفكراً، “فالجواهري يملك طاقة انفعالية هائلة لا تستطيع أن تتحمل الضيم أو الحزن أو إساءة تجرح كرامته وكرامة شعبه، فينبري لذلك ويرد رداً عنيفاً لا يرحم خصمه، لذلك يعتد الشاعر بنفسه اعتداداً عظيماً، ويُترجم ذلك الغضب من خلال مدى القول في القصيدة” (14).
ويستعيد الجواهري فعل الأمر داعياً للثورة، من خلال قصيدة تبدو بظاهرها سخرية أقرب إلى (الكوميديا السوداء) التي من خلالها يمكن تحريك النفوس وبث روح التمرد، وفي قصيدة (تنويمة الجياع) نشرها عام 1951م، يفعل فعل الأمر بقدرة الجواهري الفنية ما لا يمكن لأي شاعر أن ينهض بهذه المهمة الصعبة التي تؤكد شاعرية الجواهري المتفوقة، ففي هذه القصيدة التي بدأها بفعل الأمر:
نامي جياعَ الشعب نامي * حرستكِ آلهةُ الطعامِ
يكرر فعل الأمر في صدر البيت الأول مرتين، فيما يكرر فعل الأمر بلفظة (نامي) ستاً وستين مرة في القصيدة، ومرتين في أكثر من بيت وكلمة (جياع) تكررت سبع مرات في هذه القصيدة، وهو ما يفيد التأكيد وتشخيص المخاطب وتنبيهه، وعلى الرغم من التكرار إلا أن المستمع لا يملّ مطلقاً، فقد منح فعل الأمر فرصةً لأن يطلق الجواهري أفكاره بعد كل تكرار بكلمة (نامي) وهو يضيف لذهن القارئ فكرةً جديدةً، واستذكاراً لتلمس واقعه والثورة عليه، في هذه القصيدة يقول (15):
نامي جياعَ الشعبِ نامي * حرستْكِ آلهةُ الطعامِ
نامي فإن لم تشبَعي * من يقظة فمن المنام
نامي على زُبْدِ الوعود * يُدافُ في عسلٍ الكلام
نامي تزركِ عرائسُ الأحلام في جُنحِ الظلام
تتنوَّري قرصَ الرغيف * كدورةِ البدر التمام!
وترَيْ زرائبَكِ الفساحَ * مبلّطاتٍ بالرخام
نامي تصِحّي! نعم نومُ المرءِ في الكُرَب الجسام
نامي على حُمَةِ القنا * نامي على حدِّ الحُسام
نامي إلى يومِ النشور * ويوم يُؤذَنُ بالقيام
نامي على المستنقعات * تموجُ باللُجَجِ الطوامي
وفي هذه القصيدة يستعمل الجواهري فعل الأمر طلباً مباشراً، ولكنه الأمر الذي لا ينتظر تنفيذه حقاً، بل الذي يثير المشاعر ويشحذ الهمم، تساعده في طلبه موسيقى بحر الكامل وإيقاعاته المتسارعة التي تشكل مع التكرار اللفظي حركة في داخل النفس وفي مجزوء الكامل الذي اعتمده الجواهري في هذه القصيدة، يربط بينه وبين المتلقي إيقاعاً شعورياً داخلياً، فتثير الانتباه، مثلما تثير المتابعة، وهي السمة التي استثمرها الجواهري أفضل استثمار حين صنع صورة خاصة مستفزة بعد كل فعل أمر (نامي) الذي جاء في أثناء قصيدته جاعلاً من عجز كل بيت صورة استثنائية لا تشبه ما في البيت الذي قبلها، وهي صنعة لا يقوى عليها أي شاعر إلا من هو بمستوى الجواهري راداً في كثير من أبيات القصيدة صدر البيت إلى عجزه، مقدماً بنية فنية يصعب تحقيقها بهذه الكثافة في قصيدة واحدة مثل (زبد الوعود – عسل الكلام) و(يوم النشور – يوم يؤذن بالقيام) و(عرائس الأحلام – جنح الظلام) و(يقظة – منام) وتلك طريقة في البناء يختص بها الجواهري في شعره، ولا سيما في هذه القصيدة، فضلاً عن استعمال الجواهري ضمير المخاطب في معظم أبيات القصيدة مثل: نامي، تغازلي، تعوضي، تقطعي، قاصداً توجيه ندائه للجماهير والأمة.
ولا يتوقف الجواهري في دعوته للثورة على الواقع بقصائده السياسية التي يلقيها في المحافل الأدبية عن السخرية والنقد اللاذع عبر شعره لتأكيد الثورية التي يتبناها، مستندا إلى أن السخرية أحد أساليب التحريض على الواقع المؤلم، ففي عام 1945 ينظم الجواهري قصيدته الشهيرة (طرطرا) بأسلوب بدا جديداً على شعر عصره، منطلقاً من فكرة السخرية الجوفينالية (Juveallian Satire) المنسوبة للأديب جوفينالين (60-140.م) وهي أسلوب لاذع، مُرّ وحادّ، يحاول الأديب الساخر من خلاله إظهار الحقائق بأسلوب ساخر، ليمنع الإنسان من فعل الرذائل (16).
ويكشف في هذه القصيدة التي ضمت أكثر من ثلاثين فعل أمر، واقع المجتمع وتناقضاته، وتقلباته، داعياً لرفضه بأسلوب ساخر يكشف فيه عن الأمراض الاجتماعية والسياسية والطبقية، فيقول (17):
أيْ طرطرا تطرطري، تقدَّمي، تأخَّري
تشيَّعي، تسنَّني تهوَّدي، تنصَّري
تكَرَّدي، تعرَّبي تهاتَري بالعُنصرِ
تعمَّمي، تبرنطي تعقَّلِي، تسدَّري
*
شأن عصامٍ قد كفَتْهُ النفسُ شرَّ مَفخرِ
طُوفي على الأعراب من بادٍ ومن مُحتضر
والتمسي منهم جدوداً جُدُداً وزَوِّري
تَزيدي تزَبَّدي تعنَّزي تشمَّرِّي
في زمن الذَّر إلى بداوة تَقَهْقَري
أي طرطرا تطرطري وهلَّلِي وكَبّري
وطَبِّلي لكلِّ ما يُخزي الفَتَى وزمِّري
وسبِّحي بحمد مأفونٍ وشكر أبتَر
وألبسي الغبيَّ والأحمقَ ثوبَ عبقَر
إن قيل إنّ مجدهم مزيَّف فأنكري
فغالطي وكابري وحَوِّري وزوِّري
أي طرطرا لا تُنكري ذنباً ولا تستغفِري
كوني على شاكلة من أمرهم تُؤمَّري
ويستثمر الشاعر الجواهري إيقاع بحر الرجز الذي استعمله العرب في الحروب والمعارك ليكون مجزوء البحر (مستفعلن مستفعلن) إيذاناً بمعركة من أجل إعلان ثورة اجتماعية على الواقع الذي تعيشه الجماهير بأسلوب ساخر، يوفره الإيقاع الشعري، لكي ينثر مفردات اجتماعية بأبعاد سياسية لبناء فكرة ثورية ترسم بنية القصيدة بكلمات تحتويها.
وإذا كان الجواهري يفتتح قصائده بفعل الأمر غالباً لإثارة الانتباه وشدّ المتلقي إليه، وممارسة سلطته الشعرية، فإنه يستعمل فعل الأمر في قصائد أخرى، في أثناء القصيدة، محاولاً أن يقدم أهمية الموضوع ثم الانتقال بعده إلى توجيه المتلقي بفعل الأمر، كما فعل ذلك في قصيدة (أخي جعفر) في وثبة كانون عام 1948م، يقول فيها (18):
أتعلم أم أنت لا تعلم
بأن جراح الضحايا فمُ
فم ليس كالمدعي قولةً
وليس كآخر يسترحم
يصيح على المدقعين الجياع
اريقوا دماءكم تُطعموا
ويهتف بالنفر المهطعين
أهينوا لئامكم تُكرموا
ثم يقول في القصيدة:
فقل للمقيم على ذلة
هجيناً يسخّرُ أو يُلجم
تقحّمْ. لُعِنت، أزيزَ الرصاص
وجرّب من الحظّ ما يُقسم
وخضها كما خاضها الأسبقون
وثّنِّ بما افتتح الأقدم
وحين يستعمل الجواهري أفعال الأمر (قل، اريقوا، اهينوا، تقحم، جرب، خضها، ثنّ) فهو بذلك يعلن الثورة، بعد أن يقدم أهمية الموضوع وجلال الموقف باستشهاد أخيه والثوار معه، فيطلق الجواهري دعوات الثورة بفعل الأمر التي يكررها محرضاً، طالباً، داعياً، لينسج بنية القصيدة بالتمهيد ثم التصعيد، فالتمهيد بجراح الضحايا التي أصبحت فماً، يدعو لإراقة الدماء واهانة اللئام، والتقحم وخوض المعركة، وهو هنا يؤسس وحدة الموضوع بين التضحية والثورة، ووحدة البناء الشعري.
وتتكرر أفعال الأمر في شعر الجواهري وبعضها مطالع للقصائد بما يؤشر أهميتها في بنية قصائده الشعرية، وقد اخترنا ما تقدم لتأكيد اهتمامه بفعل الأمر موضوع البحث في شعره وما ورد في بحثنا أنموذجاً في إطار تحليل هذه البنية، فيما يتيح ذلك الفرصة لأكثر من دراسة في هذا الموضوع، ونلحظ هنا أن الجواهري يستعمل فعل الأمر بصورته المباشرة، دون استعمال اسم فعل الأمر، أو المضارع المقترن بلام الأمر، أو المصدر النائب عن الفعل، ما يعبر عن قصدية واضحة للأمر الذي يريده الجواهري بمباشرة واضحة مع المتلقي، وهكذا في أغلب استعمالاته لفعل الأمر في قصائده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر البحث المطول في مجلات علمية عراقية وعربية تحت عنوان (فعل الأمر في بنية شعر الجواهري)، ومنها مجلة كلية الآداب، جامعة تكريت، مجلة آداب الفراهيدي، العدد 42 المجلد 12 حزيران 2020.