الدين والسياسة..إنْ هما اجتمعا معاً خُرِّبَا معاً



إنَّ أفضل وسيلةٍ لتخريب الدين هي إدخال السياسة عليه، وأفضل وسيلةٍ لتخريب السياسة إدخال الدين عليها. من ناحيته يقوم الدين على ثقافة المقدّس ومنهج التقديس وعلى فلسفة المطلق وفكرة الثابت وعلى التسليم بالغيب.
أما السياسة فهي معكوسُ كل ذلك, فلا مقدّس فيها ولا تقديس لأنها إنسانية التصنيع ولا ألوهية فيها، وهي أيضاً علمُ المتغيّرات وليست علم الثوابت، وهي تتعامل مع المنظور لا مع المُتَخَيل، وحتى الأخلاق في السياسة فهي مخرج قيمي لمقترب مادي عماده الإقتصاد والثقافة.
الدين هو ثقافة المقدّس والسياسة هي ثقافة اللا مقدّس, واللامقدّس هنا لا يعني اللااخلاقي وإنما يعني المتغير لأنَّ علم الأخلاق نفسه هو علمٌ متغيّرٌ وخاضعٌ للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومتأسس عليها في وقتها.
مثلاً في الأزمنة الغابرة كان نظام الرق معمولاً به, شائعاً ومتعارفاً عليه, وليس هناك مجتمع لم يمارسه, وهذا لا يعني أن من كان يمارسه في تلك الأزمنة لم يكن صاحب أخلاق, وإنما كانت الأخلاق مفهوماً يتحدد بمعايير أخرى.
أما اليوم, وفي ظل مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان فإن وجود الرق والعمل به هو بمثابة جريمة كبرى ضد الإنسانية, ولا يُغيّر من هذه الحقيقة عدم وجود آية قرآنية تحرِّم الرق, لأن مناقشة عوز كهذا سوف تكون على حساب الدين نفسه لا على حساب السياسة. وإذ لا أمل هناك بنزول آية نَصِّية تحرم الرق فإن العمل بنظامه سيبقى مسموحاً به بحكم الثابت الديني الذي ليس من صفاته الرضوخ للمتغير السياسي بل إنّه هو الذي يرتب رضوخ السياسة له.

وإن ما ينطبق على نظام الرق ينطبق أيضا على ثقافة التعامل مع المرأة. إن من العبث أن نقول إنّ الأديان قد ساوت بين الرجل والمرأة في حين يخبرنا الثابت أن السياسة في عصرنا الراهن, بمقدار علاقتها ببناء الدولة والمجتمع, لم تعد تفرق بينهما.
إنّ الدساتير العربية هي دساتير جبانة ومنافقة لأنها تتردَّد عن فصل الشأن الديني عن الشأن السياسي ونرى أن أغلبها يؤكد في مادته الأولى أو الثانية على أن الإسلام هو مصدر التشريع.
في الدولة العلمانية ليس معنى هذا أن القيم الدينية بمعناها العام ستكون غائبة لزوماً عن روح الدستور لكن معناه أن التشريعات القانونية الخاصة بمفاهيم الوطن وحقوق الإنسان وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وكثيراً من النشاطات العلمية والثقاقية هي مفاهيم إنسانية متغيرة ومتطورة ومتأسِّسة على حاجات مادية وموضوعية ولا معنى ثابت للأخلاق فيها إلا لكونها, أي الأخلاق, نتاجاً قيمياً سلوكياً لتلك الحاجات ومحكوماً بظروف زمانها ومكانها.