فكر

الجواهري.. ما بين الشاعر والإنسان

بقلم: د. جعفر المظفر  

   في ذكرى وفاته السادسة والعشرين التي مرت قبل أكثر من أسبوع أنا لا أتحدث هنا بادعاء أنني شاعر أو حتى لكوني ذواقاً للشعر, فأنا أحسب نفسي في مرتبة متواضعة نسبة لآخرين لهم القدرة والحق في تناول المسألة الشعرية كونهم من أهلها, لكن حينما يتوقف الأمر على تناول الجانب الإجتماعي والنفسي والتاريخي للشاعر كونه إنساناً بدرجة أساسية فذلك ما أهتمُّ به وأتجادل عليه.
   ولنعلم أننا هنا أمام واحد من عمالقة الشعر العظام، والذي يكفيه أنه حاز بجدارة لقبَ شاعر العرب الأكبر الذي ظل ملتصقاً به دون أن يجرؤَ أحدٌ على منازلته فيه.
  وأجد أننا أمام نوعين من القراءات أولاهما تلك التي تتناول شاعرية الشاعر وثانيتهما تلك التي تنظرُ في شخصية الشاعر. ولقد وجدت -من خلال متابعتي لهذين الشأنين- أن تقييم البعض لا ينطلق من أهمية الفصل ما بين الشاعر أديباً وإنساناً. هذا الموقف في اعتقادي يحمل نواقصه من واقعية أن الباحث يُسْقِطُ مزاجَه الشخصي (عين الود أو عين الكراهية) على منهجه البحثي فيورِّطنا معه في حصيلة متقاطعة مع التقييم العلمي والمهني والأخلاقي.
   إن البعض يكره عبدالرزاق عبدالواحد لأنه أحب صدام حسين ومجَّده, ويغلقُ بقفل الكراهية السياسية على البوابة التي تسمح لنا بالحكم عليه كما هو, لا كما نحن, فإذا به يحكم على شاعرية الشاعر وعلى شعره من خلال موقفه هو، وليس من خلال موقف الشاعر, إذ قد يكون الشاعر صادقاً في محبته لصدام حسين ومؤمناً بما يقوله, فليس كل من أحب صدام حسين ومدحه كان انتهازياً.


   مثال آخر قد يضعنا في المساحة نفسها، هو الموقف من الكبير مظفر النواب, فالرجل كان شيوعياً ونقيضاً للبعث عقيدةً وتاريخاً وأشخاصاً, ولكنني مع ذلك لاحظت أن كثيراً من البعثيين أنفسهم من أعداء (النَوّاب) السياسين معجبون حقاً بالنواب الشاعر رغم كراهيتهم للنواب السياسي, وكانت قصيدة (براءة) مثلاً تدور على ألسنتهم دائماً كما أن قصيدة (الريل وحمد) صارت قاسماً مشتركاً لألسنة العراقيين الذي يتغنَّون بمحبة العراق.
   وإني لا أجد رجلاً عانى ما عاناه من هذا الخلط المرتبك والمزاجي والإسقاطي مثل كبير الشعراء الجواهري بحيث صارت مواقف الجواهري الشخصية تأكل من عظمته الشعرية. ومما يقال على سبيل المثال إنه كان سريع التحولات : فمن تأييد للحكم الملكي إلى تأييد لعبدالكريم قاسم إلى الثناء على أحمد حسن البكر. برفقة ذلك لم يكن البعض مستعداً للبحث في إبداع الشاعر بمعزلٍ عن مواقفه السياسية.
إن كبير الشعراء الجواهري الذي طالما تغنّى بالعهد الجمهوري وزعيمه عبدالكريم قاسم ووقف مواقف عداء شديدة ضد البعثيين والقوميين وكل خصوم عبدالكريم وكان لقصيدته التي يحث فيها عبدالكريم على قتل خصومه في قصيدته المشهورة بعنوان “تحرك اللحد” (… فضيِّقِ الحبلَ واشدُدْ مِن خناقِهُمُ….فَربَّما كانَ في 
إرخائه ضَررُ).
    وكلما أعود لقراءة تلك القصيدة فإني أهتز مرتين : الأولى لعظمة الحبكة الشعرية التي عليها القصيدة، والثانية من موقف الشاعر الميّال لإدماء الموقف بدلا من تقديم النصح والرؤى الحكيمة, وأسأل: ولكن لماذا يحاسب الشاعر على موقفه الشخصي حتى كأنه المخطئ الوحيد فينا يوم كنا جميعاً على خطأ ..؟! أليس الشاعر إنساناً مثلنا يأخذه الموقف إلى حالة انشداد تتفوق فيه عاطفة الشعر على حكمة الإنسان. بل لعله الأكثر فينا انشداداً لانفعالاته الشعرية الجامحة.
    في رحلتنا العراقية المتخمة بكل أنواع العذابات علينا أن نعيد قراءة تاريخنا في ضوء حكمة السيد المسيح : من كان منكم بلا خطيئة فليرْمِها بحجر.
بدون هذه الحكمة سيكون صعباً علينا أن نرى النور في نهاية النفق.

مقالات ذات صلة