الجفاف في أوروبا..رسالةٌ إلى المجتمعات الأوروبية
ـــــــــــــ بقلم: الدكتور: خالد فتحي خالد الأغا ـــــــــــــ
يُخيّمُ في وقت كتابة هذه المقالة شبحُ الجفاف على القارة الأوروبية، حيث أصبح يهدّد نصف القارة، مع توقع ما هو أسوأ في قادم الأيام، والجفاف الحاصل اليوم- وفقا لتقرير مركز الأبحاث المشترك للمفوضية الأوروبية-هو أشدُّ جفافٍ أصاب القارة منذ خمسمائة عام، وأشارت المصادر إلى أن ثلثي مساحة القارة باتا مهدّين بالجفاف، كما أكدت المفوضية الأوروبية على أن موجة الجفاف تعيق إمدادات المياه، وإنتاج الطاقة، والزراعة”1″، بينما تجلّت مظاهر الجفاف في صور منها هلاك الأسماك في صربيا، وخراب أشجار الزيتون في إيطاليا وإسبانيا.
في فرنسا أعلنت الحكومة أن موجة الجفاف لم تمر البلاد بمثلها منذ أربعة وستين عاما، وأن نحو مائة منطقة لم تعد مياهها صالحةً للشرب.
وفي ألمانيا انخفض مستوى المياه في نهر (الراين) انخفاضا تباطأت بسببه حركة السفن حتى بلغ التأخير 132 يوما، وخفّضت بعض السفن حمولتها إلى 25% من السعة الكلية فارتفعت بسبب ذلك أسعار الشحن.
نهر الراين يمر في فرنسا وألمانيا وهولندا وسويسرا، كما أصاب الجفاف إيطاليا، وإسبانيا والبرتغال، ولم يلبث أن وصل إلى رومانيا وبلغاريا وصربيا، وفي بريطانيا بلغ الجفاف في شهر يوليو الماضي مستوى لم تشهده البلاد منذ عام 1935،أصاب الجفافُ كذلك نهر التايمز”2″ الذي يمتد مسافة 364كيلومترا، وينبع من منطقة كيمبل مارّاً بمدن بريطانية عديدة منها لندن، ومنتهيا إلى بحر الشمال شرقي المدينة، وقد نقلت صحيفة الغارديان عن (روب كولينز) مدير العلوم في مؤسسة (ريفرز ترست) أنه بعد فترة طويلة من الطقس الجاف جفت منابع التايمز في غلوسترشاير. وذلك إثر موجة حر أصابت البلاد جاوزت 40 درجة مئوية، متخطية بذلك الرقم القياسي السابق”3″.
في إيطاليا انتاب الناسَ فزعٌ لجفاف نهر (بو) الذي يبلغ طوله نحو 652 كيلومترا، ولانخفاضِ مياهه إلى غايةٍ تهدّدُ الشمالَ الإيطالي بنقصٍ خطيرٍ في مياه الشرب، وقد انحسرت مياهه إلى حد انكشاف قنبلة استقرت في القاع منذ الحرب العالمية الثانية، وازداد الخطر مع دخول مياه البحر الأدرياتيكي إلى دلتا النهر مسافة لا تقل عن عشرة كيلومترات حيث تَخشى السلطات اختلاطها بمياه الشرب ومياه الري “4”.
عسكرُ الجفاف هذا جاء بزحف استثنائي هذه المرة، استلزم من الدول الأوروبية اتخاذ إجراءات لمواجهته”5″، بلغت إلى حد منع السلطات الفرنسية غسل السيارات أو ري حدائق المنازل في بعض المدن، ولم يكن من بد أن تفعل السلطات الفرنسية ذلك بعد أن انكشف قاع نهر سانت لورانس إذ انخفضت المياه فيه انخفاضاً يمكن معه عبور النهر سيرا على الأقدام.
وأعلنت المجر أن هذا الزحف لم تشهد البلادُ له مثيلاً من نحو مائة وعشرين عاما، وقد وقع هذا في الأوقات التي تشهد أجزاءٌ كبيرة من القارة الأوروبية ارتفاعاً في درجات الحرارة، نتج عنه حرائق كبيرة في الغابات.
تشير تقارير هيئات عديدة كهيئة يوروستات إلى تأثير الجفاف على الاقتصاد في منطقة اليورو، وتضاعف معاناة ألمانيا في نقص الغاز، وعجز فرنسا عن سد النقص المحتمل في الكهرباء التي تمد بها الدول الأوروبية، وكذلك الحال مع النرويج، بل صرحت المفوضية الأوروبية بتأثير ذلك على إنتاج الغذاء والطاقة في معظم دول أوروبا.
لقد اتسع انتشار موجة الجفاف فطال أنهاراً أخرى في القارة الأوروبية، منها نهر اللوار في فرنسا، والدانوب الذي يلقب نهر العواصم، ويجري بمحاذاة عشر دول أوروبية، مخترقا أربع عواصم منها، بل بلغ الجفاف الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن زحف بعضه ناحية الصين، فتراجع منسوب مياه نهر كولورادو الذي يسقي ولايات الغرب الأمريكي وصولا إلى المكسيك، وأعلن مكتب الاستصلاح الأمريكي أن ممثلي الولايات التي يغذيها النهر فشلوا في التوصل إلى اتفاق لخفض استخدام المياه بنسبة 15% على الأقل، وهو أمر ينذر بوقوع صراع بين هذه الولايات على تقاسم مياه النهر.
يأتي هذا كله والعالم لم يكد يتعافى بعد من أثار أزمة كورونا، بينما تُلقي الحرب الروسية الأكرانية بظلالٍ ثقيلةٍ على المجتمعات الأوروبية، مهدّدةً بأزمة جوعٍ عالميةٍ تطالُ الدول المصدرة للغذاء فضلاً عن المستوردة له”6″.
ليس المقصودُ من هذه المقالة الاستطرادَ في وصف الأزمة، ولا الحديثَ عن آثارها على الأمن والاقتصاد، وآثارها على المجتمعات المُهاجَرِ منها وإليها، ولا ما يمكن أن تتمخض عنه من موجات هجرة قسرية عكسيّةٍ، فالهجرة القسرية ترتبط عادة باختلال الأمن الذي ينشأ من النزاع على أسباب العيش مع قلتها، أو بالأسباب القدرية التي تصيب البلاد من الفيضانات والزلازل والجفاف ونحوها”7″، وإن كان يمكن الحديث أيضا عن تأثيرات سياسية واجتماعية واقتصادية إيجابية لموجات الهجرية العكسية حال حصولها.
المهم في هذه المقالة الرسالةُ التي ينطوي عليها زحفُ الجفاف الذي أصاب القارة الأوروبية، فالمجتمع الإنساني تُقلُّه سفينة واحدة، وما يجري في موضع منها راجع أثره بالضرورة على المجتمع كله، سيان كان الأثر ماديا أو معنويا، فمن البدَهي الحديثُ عن تأثير ما يصيب القارة الأوروبية على المجتمعات الأخرى، خاصة المجتمع العربي والإسلامي، بحكم التجاور تاريخيا وجغرافيا، وبحكم التقارب الزماني الذي أنتج تلاقح الثقافات واختلاطها ثانيا.
في قانون السُنَنِ الاجتماعية فإن المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب كما يقول ابن خلدون، وفي القرنين الأخيرين حين تقلَّص ظلُّ العالم الإسلامي جرت هذه السُنّةُ على العالم الإسلامي كما جرت من قبلُ على الأمم الأوروبية وغيرها حين كان للعالم الإسلاميّ الظهورُ والغَلَبَةُ، مع فوارق بين الحالين، يهمنا منها هنا فارقان:
– الفارق الأول: في المبادئ والقيم التي حملها الفاتحون المسلمون إلى العالم، والتي تعرف بثبات أصولها من جهة، وبآثارها على المجتمعات الأخرى من جهة ثانية، وما حملته إليهم من علم وحضارة.
– والفارق الثاني: أن ما أصاب العالم الإسلامي من شَوْبِ التراجع لم يكنْ ليصيبَ أصول القيم بشيء، بل ظلت ما جاء به من المبادئ على ما كانت عليه في يومها الأول، كما أن تراجعه لم يخلّف في الأمم الأخرى تراجعا ماديّا على غرار ما خلفه الاستعمار في عهده الأخير.
في المقابل فإن العالم الغربي الذي تُمثل قلبَه القارةُ الأوروبية رام في حملته الاستعمارية أن ينقل إليها ما تَمَثّله من قِيَمٍ أخلاقيةٍ مُشبَعَةٍ بمفاهيمِهِ هو، وهي قيمٌ لم تراعِ جِبَلّةً إنسانية، ولا فوارق طبيعية بين البشر، ولا سُنّةً كونية ولا اجتماعية، كما لم تُبْنَ على أصولٍ محكمةٍ ثابتة، فقيم العدل والحرية والمساواة؛ قِيَمٌ قابلَةٌ للتشكيل والتفسير بحسب فلسفة واضعها وقناعاته، ولذا سرعان ما ظهرت من السياسات الأوروبية ازدواجية المعايير والأخلاق، وهي ازدواجية لم تستطع السياسات الاستعمارية أن تخفيها مع بذلها محاولاتٍ كثيرةً لتضليل الرأي العام عنها، وقد ازداد الأمر انكشافاً مع مرور الزمان وما يقتضيه اختلافه وتقلب الأحوال من اختلاف السياسات، فلاحت سياساتُه في نهاية المطافِ سياساتٍ عريّةً عن المبادئ والقيمِ عُرِيَّ الوليد يوم ولادته، ولم يلبث القومُ أن خلطوا الأخلاقَ بالسياسة خلطًا فاحت منه كل كريهة، وإنما الذي خلطوا بالسياسة انحطاطَ الأخلاق في الحقيقة، التي بلغت حَدّ العدوانِ على قِيَمِ الأُمَمِ وإنسانية الشعوب، فضلاً عن العدوان على بلادهم وخيراتهم، ناهيك عن الأديان السماوية وخاتمِها الدينِ الذي ارتضاه رب العالمين للبشرية جميعها.
ولو كانت الرسالة في هذه المقالة موجهة إلى مجتمع مسلم لكان أولُ ما يتبادر إلى الذهن لفاتحة المقالة قولَه تعالى: {قُلْ أَرَأيتُمْ إِنْ أَصْبَحُ ماؤُكمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأتيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ}، ولأمكن خطابهم بعشرات من الآيات القرآنية التي تعقد الأسباب بين عالمي الغيب والشهادة، غير أن فيهم- وإن طغت فلسفة المادة عليهم- من يؤمن بصحة ذلك وصدقه، على أن هذا أيضا يمكن الاستشهاد له بعالم المادة الذي يؤمن به الماديون، فكم في عالم المادة المُشاهَدِ من روابط غير منظورة، لكنها معلومة بالأثر، مقطوع بوجودها لأجل آثارها، بل ثمة دراسات حديثة تتجه إلى القول بأن كل ما في الكون صغيره وكبيره مرتبط بعضه ببعض ارتباطا حقيقيا وإن خفي ما خفي منه على الناظر.
وإذا كان خطر الجفاف الذي يداهم القارة الأوروبية قد يوجب بعض اليقظة للأمم الأوروبية، فماذا عن جفاف المبادئ والقيَمِ!
وماذا عن الجفاف الذي أصاب الأخلاق فبدأت تذوي شجرتها مع بدايات ما يُعرف بالثورة الفرنسية، وما ظهر بعدها في القرن العشرين من نظرية النسبية الأخلاقية، التي تستقي بعض أصولها من الفكر الفلسفي اليوناني الكلاسيكي، وتذهب إلى أن جميع الأخلاق ودوافعها لسيت أحكاما مطلقة أو موضوعية، بل تختلف باختلاف العادات والأعراف والمعتقدات، ومن ثم فإن المجتمعات تضع معايير لهذه الأخلاق تختلف في تقييم الحق والباطل، وتتغير من وقت لآخر.
هذه النظرية النسبية لم تزل مبضعا يَعْمَلُ في أوصال المجتمعات الأوروبية إلى أن تركها في حال لا تحسد عليه من التفكك واختلال النسيج الداخلي الاجتماعي، ثم لم يلبث تأثير ذلك أن انتقل إلى السياسات، مع أنهم يزعمون أن القيم الأساسية للأخلاق السياسية مستمدة من أسس العدالة، لكن يبقى الإشكال في مفهوم العدل السياسي، فالفيلسوف الأخلاقي الأمريكي جون بوردلي رولز مثلا يعترف بأن مفهوم العدل السياسي يستند إلى الصالح العام للفرد لا إلى القيم التي يُفْتَرَضُ أن يتّبِعها”8″، وهذا المفهوم وما على شاكلته من المفاهيم هو السائد المسيطر على السياسات الغربية التي تتجلى مظاهر الانحراف فيها بادية للعيان عند أدنى تتبع لمساراتها، شاهدة على ضعف أصولها وهشاشة بُنيانها.
لقد توقع كثيرون من فلاسفة الغرب أنفسهم أفول نجم الحضارة الغربية منذ زمن بعيد من أمثال الألماني شبنغلر أوائل القرن العشرين في كتابه انحدار الغرب الذي ترجم إلى العربية بعنوان: تدهور الحضارة الغربية، خلص فيه بحسب نظريته في الكتاب إلى أن العالم الغربي يحتضر، ومن أمثال كولن ولسن في كتابه سقوط الحضارة بحث فيه في الفصل الثاني منه تدهور الحضارة الغربية وناقش شبنغلر في بعض أفكاره، هؤلاء الفلاسفة وغيرهم كتبوا ما كتبوه استشعارا بالألم الذي كان قد أصاب الحضارة الغربية جسدا وروحا، هذا والحال لم يصل بعد من الفساد إلى ما وصل إليه اليوم، وليس يعنينا في المقام الأول من وراء ذلك إلا صيحات النذير العريان للمخلصين من أبناء أمتنا لتدارك زحف الجفاف الأخلاقي الذي بات يهدد العالم بأسره، فما الظن باجتماع الجفافين الزاحِفَيْن، الجفاف المادي والجفاف الأخلاقي! وما كان للبشرية أن تسلم قيادها لمن جمع بينهما، ولا السنن الكونية القدرية ولا الشرعية تحتمل بقاء ذلك، لأن كل ما خرج عن مسارها المقدر لفظته عند واحدة من محطات الطريق. 31/أغسطس/2022
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-كريم عادل، الجفاف يضرب أنهار أوروبا، والبدء في الانهيار الاقتصادي، موقع أخبار اليوم، السبت، 13 أغسطس، 2922.
2- حكى الإدريسي الرحالة في كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق تسمية هذا النهر قديما بقوله: ونهر لوندرس اسمه رطانزه.
3- الرئيسية/ العلوم والتكنولوجيا، لأول مرة في التاريخ، جفاف منابع نهر التايمز في بريطانيا، موقع RT بالعربية، 5/8/2022
4- كريم عادل، الجفاف يضرب أنهار أوروبا والبدء في الانهيار الاقتصادي، أخبار اليوم، السبت 11 أغسطس،2022.
5- موجة جفاف استثنائية تضرب أوروبا، وإجراءات جديدة لمواجهتها. موقع يورونيوز، آخر تحديث:14/8/2022.
6- وكالة الأناضول، تحليل بعنوان: جفاف أنهار أوروبا والصين وأمريكا يهدد الأمن الغذائي العربي. 23/6/2022.
7-يمكن الاطلاع على أنموذج لتأثيرات الهجرة في بحث بعنوان: دراسة حول الهجرة الدولية في السودان، الإسكوا، بيروت، 2017
8-كان قد حصل على جائزة شوك في العلوم والفلسفة، كما حصل على الميدالية الوطنية في العلوم الإنسانية عام 1999، وقد سلمه بيل كلينتون هذه الميدالية اعترافا بجهوده في نباء جيل كامل من الأمريكيين يؤمن بقيم الديموقراطية! وكانت وفاة رولز الفيلسوف في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 2002.