الإنسان.. بين العقل والغريزة



الإنسان مجموعة من المشاعر والأحاسيس، والعُقد، كما هو مجموعة من الغرائز التي لا تستقيم حياته من دون إشباعها، في سياق الواجب الذي خُلقت من أجله، والهدف المرسوم لها، وفي حال خرجت عن هذه الحدود تصبح نوعاً من الانفلات والعبث، والأذى للذات والمجتمع معاً، وتحطّ من القيمة الإنسانية العليا، لذلك، فإن على العقل تهذيبها، والتحكم فيها. لأن العقل يعتمد التحليل والتفكير المنطقي الذي يتناسب والطبيعة الإنسانية المهذبة، والاستناد إلى الحقائق كما هي، وإخضاعها لمختبر الوعي والفهم، وليس الترديد الببغائي المحض، الذي يتناقض والطبيعة البشرية السوية، بما يؤدي إلى تغييب المنطق والتفكير السليم.
والغريزة جزءٌ من الفطرة بالتكوين، وفي حالة استغلالها مجردةً من العقل، تغدو ردّ فعل سريعاً متأثراً بالتلقين، بتجارب ومشاعر سابقة، وقد تكون مكتسبة بشكل طبيعي، أو بالوراثة. وتلعب البيئة المحيطة دوراً مؤثراً فيها، تعمل على ترسيخها لتبدو لاحقاً كأنها حقائق تاريخية، وجزء من الطبيعة الإنسانية، وتنوب عن العقل، بل وتطرده ليبدو معادياً، ويشكل خطورة تهدّد مخرجات الغريزة.
وقد تكون غريزة الجنس مثالاً ساطعاً ودقيقاً، على العديد من الغرائز الأخرى.. من حيث كونها راقية وسامية وهدفها استمرار الحياة والبشر لما خُلقوا له من مهمات في ظل العقل السليم، وسيطرته عليها، وفي حال تعدّيها ذلك تصبح سلوكاً خطِراً، هدّاماً، وإهانة للكرامة الشخصية، والإنسانية.. والعقل أغلى وأفضل نعمة منَّ الله بها على البشر..

ومن الوسائل التي يستخدمها من يستهدفون تأجيج الغريزة لترسيخها، الهروب إلى الماضي، وإقامة بناء مجتزأ منه يشوّه الحوادث والوقائع، وليّ عنق الحقائق، وتفسيرها تعسفياً بما يتطابق مع أمانيّ، وأهداف، وعواطف ليس لها رصيد في الواقع، بل هي منطلقات نفسية غير سليمة، تصل حد المرض أحياناً، وإبقاء المستهدَفين بهذا الفعل في جو من السذاجة، والإيهام بحالة من الخطر الداهم في أيّ لحظة، ومكان. بما يؤدي إلى حالة من الاستنفار الدائم، استعداداً وتحضيراً لأي مواجهة مفاجئة، والتصدّي للمؤامرات المزعومة. ومن هنا تبرز ملامح الصدام، بالتعصب، ثم التطرف، ثم الإرهاب، الذي هو في أبسط تعريفاته كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به، ويهدف إلى بث الرعب بين الناس، وابتزازهم، وسلب حقوقهم، وتعريض حياتهم ومستقبلهم للخطر.. إلخ
من هذه المقاربة البسيطة لموضوع معقد، وخطر، ودقيق، مرتبك، ومربك أحياناً، يمكننا استنتاج بعض الملاحظات التي تؤكد أن أيّ تعصب، وتطرّف (عرقي، اثني، طائفي، ديني، مذهبي) هو سلوك منافٍ للفطرة الإنسانية السليمة التي خلق الله الإنسان على الأرض ليجسدها، بما يدعو الى التسامح، والسلام، والتعاون، والمحبة.. وليس إلى التناحر، والتنابز، والعداوة، والبغضاء. ولكي تعيش البشرية بسلام فهي ليست بحاجة إلى التخندق والتموضع، وتربّص الناس ببعضهم بعضاً، والتفاخر بالأفضلية على الآخرين (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وثمّة ملاحظة ربما لا ينتبه لها بعض من يغلّبون الغريزة على العقل، تلك هي أن أمنهم محفوظ أكثر في تعاونهم مع الآخرين. مثلاً، لو كان في بلد طوائف عدّة، هل سيكون أمن أيّ منها وحدها أفضل، إذا تعرضت لخطر ما، أم في إسنادها ودعمها من الأخرى؟
إن من الخطورة بمكان، محاولة إقامة بناء اجتماعي وسياسي على منطلقات وأسس طائفية مجرّدة، وإضفاء جو من الشك والريبة بين أبناء المجتمع الواحد، وتهميش الآخرين، أو النظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، لأن من شأن هذا التصرف تدمير العلاقات الإنسانية والوطنية، والتعدّي على حريات الناس التي هي حق مقدس. وليس هِبة من أحد، وبالتالي تفتيت المجتمع، وتقسيم الوطن الواحد، وتشويه ماضيه، وتحطيم حاضره، وتدمير مستقبل أجياله.
