الأول من تموز ..ظاهرة عراقية بامتياز



الأول من تموز، يوم فريد في حياة العراقين، إذ يحتفل به سنوياً زهاء ربع “نفوس العراق” في ظاهرة نادرة من نوعها، إذ أن ميلاد ملايين العراقيين من الآباء والأجداد يصادف في هذا اليوم، وتمتلئ قائمة أعياد الميلاد في وسائل التواصل الاجتماعي ومنها منصة الفيسبوك بألوف الأسماء والصور من العراقيين أعضاء الفيسبوك ممن ولادتهم في 1 تموز.. فما حكاية العراقيين مع الأول من تموز؟
كان العديد من العراقيين لا يبادرون لتسجيل أبنائهم الجدد في سجلات دوائر النفوس إلا بعد وقت طويل، فتراهم يُخمّنون أعمار أولادهم عند تسجيلهم في دوائر النفوس لغرض إخراج شهادة ميلاد (تسمى الجنسية) إذا ما أرادوا الدخول إلى المدارس.

لعلها ظاهرة عراقية منفردة بامتياز، لا يشارك العراقيون فيها شعب آخر، ففي الأول من تموز تستطيع أن تقول لنصف العراقيين (هبي بيرثدي: عيد ميلاد سعيد!)، لأن دفاتر نفوسهم تحمل تاريخ تولد 1/7، وليس معنى هذا أن جميع هؤلاء قد ولدوا يوم 1/7 حقاً!! فربما نسبة ضئيلة (لا تكاد تُذكر) من بين هؤلاء، هم من ولدوا حقاً يوم 1/7! ويمثل هذا اليوم الميلاد الرسمي (التوفيقي، غير الحقيقي) لملايين العراقيين الذين قدموا إلى الدنيا قبل عدة عقود، اختارته دائرة النفوس اضطرارا لجهل آبائهم بموعد ميلادهم الحقيقي، وعدم امتلاكهم وثيقة ولادة رسمية.

والسبب في هذه الظاهرة العراقية الخالصة أن آباءنا وأجدادنا يرحمهم الله جميعاً، كانوا لا يكترثون لتسجيل تاريخ ميلاد اي مولود يولد لهم، بل يتماهلون في التسجيل وقد تمر سنوات لحين استحقاق الولد دخول المدرسة أو وصوله الى سن التجنيد الالزامي فتتم مراجعة دائرة النفوس، فتسجله حسب ادعاء الوالد على السنة التي يتذكرها وغالباً ما تكون السنة مقترنة بحدث ما، مثل (دكة رشيد عالي) ليقصد بها ثورة مايس عام 1941!، أو عام مقتل الملك غازي، أو غيرها من الأحداث، وحيث لا يتذكر الوالد اليوم بالضبط الذي ولد له مولوده فيه فتضطر دائرة النفوس (الأحوال المدنية) كمعالجة وسطية للأمر وحتى لا يُغبن الولد سواء بالتسجيل بالدراسة او السوق لخدمة العلم، جرت العادة ان يعتمد يوم الأول من تموز حلا توفيقياً لتسجيل يوم ميلاد أعداد هائلة من العراقيين.
وقد لاحظتُ أن بعض البلدان العربية (ومنها دول الخليج العربي ودول اخرى) لجأت الى اختيار يوم 1/1 لتسجيل تولد من لا يُعرف بالضبط يوم مولده من السنة، فأنا مثلاً حين دخلت قطر قبل عشرين عاماً، كنت أحمل (جواز سفر عراقي – أس) مذكور فيه سنة التولد فقط من دون تحديد ليوم التولد الحقيقي، كما هي الجوازات العراقية (قبل 2005) خالية من تاريخ يوم الولادة وإنما يذكر فيها سنة التولد فقط، فتقوم سلطة الإقامة بتسجيل تولدي وغيري من العراقيين يوم (1- 1) لان جوازاتنا القديمة كانت تحمل (سنة التولد) وليس (يوم التولد). كما أن الجوازات العراقية قبل 2005 كانت خالية من اللقب تنفيذا لقرار صادر في السبعينات بمنع استخدام الألقاب في الوثائق الرسمية!! لذلك فإن شهادتي الجامعية الصادرة من جامعة كرانفيلد البريطانية تحمل لقب (جاسم) اسم جدي وليس (المشهداني)!!!

يرحم الله والدي الذي كان مختلفاً عن كثيرين من أقرانه في زمانه، فقد اعتاد أنْ يثبّت تاريخ ووقت ولادة كل منا في (دفتر جيب خاص) يسجل فيه المعلومات والبيانات والأحداث المهمة، ومنها تاريخ ولادة كل منا وحتى الساعة، وكان أهلنا في الكرخ كما هم في سائر مدن العراق لا يلجأون للمستشفيات لتوليد النساء، بل يلجأون للقابلات المأذونات في مناطقهم، برغم ان المستشفى (في سوق الجديد) لم تكن تبعد عن بيتنا أكثر من مسافة خمسين مترا، الا ان القابلة المأذونة الشهيرة في الكرخ (الجدة فطم يرحمها الله) كانت هي المولدة لمعظم مواليد المحلة ومنهم أنا وسائر إخواني العشرة.

حكاية الأول من تموز
في عام 1957، أجرت الإدارة العامة للنفوس (الأحوال المدنية) العراقية، عملية إحصاء عام للسكان، في 15/10/1957 بعد أن استعانت بخبرات أجنبية في حينها، وقتها ترك ملايين العراقيين خانة اليوم وشهر الميلاد فارغة، مما دفع دائرة النفوس لتوحيد المواليد المجهولة تحت تاريخ الأول من تموز، واعتبرته يوم ميلاد كل عراقي لم يُسجل في دائرة النفوس العراقية قبل ذلك التاريخ. ويؤكد أهل الاختصاص أن تعداد 1957 هو الأضبط والأدق بين تعدادات النفوس التي جرت بين 1924 و 1998.
السؤال الماثل: لماذا اختارت دائرة النفوس أو (الأحوال المدنية) العراقية، تسجيل ميلاد العراقيين بتاريخ الأول من تموز؟
البعض من الكُتاّب يفسر هذه الحالة ناسبا ذلك الى الدكتور علي الوردي قوله (ان سبب ذلك يعود لان يوم تسجيل العراقيين في احصاء عامي 1947 و1957 صادف في اول يوم من شهر تموز لذلك سجل اغلب العراقيين مواليدهم على تاريخ يوم الاحصاء) وهذا غير صحيح اطلاقا لأن جميع الاحصاءات السكانية العراقية جرت في تشرين الأول وليس في تموز.

وثمة من نسب للباحث الاجتماعي العراقي الدكتور فالح عبد الجبار تفسيره لاسباب عزوف العراقيين عن تسجيل ولادة ابنائهم بتواريخها الفعلية حيث عزاه الى ان معظم العراقيين قبل إحصاء عام 1957 كانوا لا يسجلون مواليدهم، خاصة من الذكور خشية إلحاقهم بالخدمة الإلزامية، فكان احدهم يسجل أكثر من مولود باسم واحد ليؤدي أحدهم الخدمة الإلزامية بالنيابة عنهم جميعا. وهو تفسير غير دقيق. وأضاف عبدالجبار أن الحكومة العراقية حين عزمت في عام 1957 أن يكون تاريخ ميلاد الطفل غير المسجل هو اليوم الأول من يوليو/ تموز، “كان بسبب اختيار حل وسط لكي لا يغبن حق الأبناء غير المسجلين في المدارس أو إكمال المعاملات أو التجنيد الإلزامي، فكان الحل الوسط هو اختيار منتصف العام تاريخاً لمولدهم؛ حرصاً منها على مستقبلهم“.
حتى بعد إجراء إحصاء عام 1957، استمر العديد من العراقيين، وخاصة ممن يسكنون بالأرياف والمناطق النائية بعدم تسجيل أولادهم في سجلات الدولة، واستمر هذا الأمر تقريبا حتى مطلع السبعينيات، وحينما كانوا يضطرون لتسجيل أولادهم، فإنه عندما فتتم مراجعة دائرة النفوس، يقدّر موظف النفوس يوم الميلاد، الأول من تموز، باعتباره اليوم الأول من نصف السنة أولا، وعطفا على قرار إحصاء عام 1957 ثانيا.

طرائف 1 تموز تلاحق العراقيين في انحاء العالم
طرائف عديدة حصلت مع مواليد الأول من تموز في العراق، واحدة منها، هي أن وفداً عراقياً رسمياً زار إحدى البلدان الاوربية وعندما وصلوا إلى المطار لتدقيق جوازات سفرهم، رفضت السلطات هناك إدخالهم بحجة “تزوير” جوازاتهم؛ لأن جميع أعضاء الوفد هم من مواليد الأول من تموز!.. حينها لم يحل الأمر، إلا بعد تدخل السفارة العراقية في ذلك البلد، وتواصلها مع السلطات المعنية، حيث أوضحت لهم قصة مواليد الأول من تموز، لتوافق السلطات على دخولهم، كما يذكر الحكاية العديد من العراقيين، ناهيك عن تداولها في وسائل إعلام متعددة.
ثمة طرفة أخرى حصلت، وهي أن وفداً عراقياً زار اليابان، وبقيت جوازات سفرهم لدى ادارة الفندق الذي مكث فيه الوفد، وحين عاد الوفد إلى الفندق بعد انتهاء مهمته فوجئ بقيام إدارة الفندق بعمل حفل عيد ميلاد جماعي للوفد الذي تبيّن أن جميع أعضائه من مواليد الأول من تموز، وهو الأمر الذي فاجأ اليابانيين لتوافق ميلاد الوفد العراقي في يوم واحد، وتفاجأ الوفد العراقي الذي لم يتوقع أن يقيم اليابانيون حفلاً بذكرى ميلادهم!.

عيد وطني…
وحيث يمثل هذا اليوم الميلاد الرسمي (غير الحقيقي) لملايين العراقيين الذين قدموا إلى الدنيا قبل عدة عقود، واضطروا إلى اختيار هذا التاريخ لجهل آبائهم بموعد ميلادهم الحقيقي وعادة ما تشهد مواقع التواصل الاجتماعي في العراق، تهنئة جماعية بسبب كثرة من يحتفلون بعيد ميلادهم في الأول من تموز، مما دفع بعض الناشطين المدنيين إلى تقديم مقترح لاعتبار هذا اليوم مناسبة وطنية يحتفل بها الجميع.

وكتب احد الناشطين أنه “نظراً لما يعيشه العراق من تمزق وشتات بسبب الحروب التي شهدها، ووصول الطائفية ذروتها بانتشار المليشيات والجماعات المتطرفة، يفترض من الحكومة العراقية أن تجعل تاريخ 1 يوليو/ تموز مناسبة احتفالية سنوية؛ لحث أبناء العراق على توحيد الصفوف وإيجاد قاسم مشترك لحياة يتساوى فيها أفراد المجتمع كجسد واحد“.وأضاف أن العراق فيه من المناسبات الكثير، لكن هذا اليوم من كل عام يستذكر فيه العراقيون التعايش السلمي والحياة البسيطة التي عاشها آباؤهم وأجدادهم، “مستذكرين الدماء التي سالت في الحروب التي شهدها العراق، والتي امتزجت بها دماء السنة والشيعة والكرد والتركمان“.لكن ذلك المقترح لم يلق أي تجاوب معه إلى الآن.
لكن غيرهم، يشير إلى أن ذلك تم باقتراح من مدير النفوس العام في سنة 1964 امين الهلالي الذي جابهته مشكلة تاريخ الولادة قدم هذا الاقتراح باعتباره يمثل منتصف السنة.

“حصلنا على يوم ميلادنا قسرا”
يقولأحد المدونين على منصة “فيسبوك”: “1ـ7 عيد ميلاد نصف العراقيين، ظاهرة لايشارك العراقيين فيها شعب آخر فدفتر نفوس معظم العراقيين يحمل تاريخ تولد ١/ ٧ وأنا منهم ، لهذا في الأول من تموز تستطيع أن تقول لأكثر من نصف العراقيين (عيد ميلاد سعيد) دون ان يسألك الشخص من اين عرفت تاريخ مولدي؟!”. لكن كاتبا آخر يرى غير ذلك، إذ يقول: “في مثل هذا اليوم من كل سنة تتحسر نفوس ملايين العراقيين وانا منهم ان يعرفوا في اي يوم ولدوا كي يحتفلوا به او يُحتفى بهم من محبيهم!”.وتابع: “حصلنا قسرا على يوم ميلاد بسبب جهل اهلنا للتاريخ والتقويم وتأخر تسجيلنا مدنيا في دوائر النفوس”.وأردف ناصحا: “لمن يجهل يوم مولده اقول: احتفل في كل يوم كيوم ميلاد لك، فقد تكون هذه ميزتك عمن يحتفلون بيوم واحد في السنة… كل عام ونحن ابناء الاول من تموز بخير!”.

السوشيال ميديا؟
وعادة ما تشهد مواقع التواصل الاجتماعي في العراق، تهنئة جماعية بسبب كثرة من يحتفلون بعيد ميلادهم في هذا اليوم الأول من تموز، ما دفع بعض الناشطين المدنيين إلى تقديم مقترح لاعتبار هذا اليوم مناسبة وطنية يحتفل بها الجميع، لكن ذلك المقترح لم يلق أي تجاوب معه إلى الآن.
وبفعل “السوشيال ميديا” اصبحت المعايدة بعيد الميلاد طقسا شبه يومي للكثير منا. اذ نحرص على تقديم التهاني للاصدقاء القريبين او حتى الابعدين، كمجاملة لا مهرب منها لان تهم “النرجسية” و “التعالي” ستلاحقك اذا ما اهملت هذا الواجب “الفيسبوكي“.

يا مواليد 1 تموز .. إتحدوا!!
اقترب يوم الاول من تموز حيث يحتفل فيه عشرات الالاف من العراقيين بعيد ميلادهم (المزور رسميا).. وربما يكون هناك اعداد قليلة من مواليد ذلك التاريخ بالفعل: لكنهم اختلطوا بالمضافين عليهم بقرارات الدولة بهدف تنظيم تسجيل النفوس.. وفي السبب والتفسير كثرت الروايات والتاويلات.. وانا ارى ان من حق كل مواطن تم تقييده (عنوة) في 1 تموز ان يتضامن المتضروون ويشكلون رابطة (المتضررين من 1 تموز)؟؟؟ ليعدلوا تواريخ تولدهم من خلال ما يمتلكون من مستندات ووثائق وشهود.. يعود سبب احتفال الكثير من العراقيين بهذا اليوم، إلى أن دائرة الأحوال المدنية العراقية عندما اجرت عملية إحصاء السكان في عام 1957 اعتبرت أن الأول من تموز هو يوم ميلاد كل عراقي لم يُسجل في دائرة النفوس العراقية قبل ذلك التاريخ، لذا تم تسجيل الملايين من العراقيين بأنهم ولدوا في هذا اليوم.

___________________________________
*يسجل رئيس تحرير برقية شكره الجزيل للأستاذ الزميل سعدون الجنابي، الذي أعاننا في عديد الصور المنشورة عن عراق الخمسينات، له التقدير والاحترام.
** اعترافاً بجمال المقال المنشور أولاً، وثانياً: من جميل هذه المناسبة أني (صباح اللامي) وزوجتي من مواليد 1 تموز ، الذي يوافق يوم العيد الوطني في كندا التي نقيم فيها وأولادنا بأمن وبسلام لربع قرن مضى. واليوم صباحاً وصلتنا في بيتنا بمدينة كالغري بولاية ألبيرتا “كعكة تهنئة” من ولديَّ سيف وشاكر المقيمين في هاليفاكس نوفاسكوشيا التي تبعد عنّا حوالي خمس ساعاتٍ بالطائرة، وهي المسافة نفسها بين بغداد ولندن. نشكرهما، ونشكر جميع المهنئين بهذه المناسبة السعيدة، أعني العيد الوطني لكندا الدولة العظيمة التي لا تميّز بين أحمر وأصفر، ولا بين أشقر وأسمر، فالناس هنا (بالتقريب) من حيث الحقوق والواجبات: “متساوون كأسنان المشط”، طبقاً لمأثور الحديث. عاشت كندا، التي يوافقُ يوم ميلادها، يوم ميلادنا، ولتسقط “هرطقات” الرئيس ترامب بشأن دمجها بأميركا!.
