أ. رباح آل جعفر لـ”برقية”: مفكِّرُ “نظام التفاهة” يُرينا أيَّ مستنقع معرفي نعيش!.
أجرى المقابلة: صباح اللامي
هو ذا نوعٌ من الكُتّاب لا أجدُهُ في آخَر أعرفُه، جِبِلّةُ مِدادِ قلمِه منْ حِبرٍ لا ينتمي إلى كينونةِ جيله، يسبقهُ حتى لكأنّه لا يعيش بين ظهراني معروفيه ومنسيّيه، شيبه وشبابه، فمع أنّه جاءَ بعد كتّاب جيلهِ عمراً، لكنّه تركَهم يلهثُون وراءَه.. وأغالطُ واللهِ إذا قلتُ غير ذلك، فالصديق الحبيب الأستاذ رباح آل جعفر، سنديانةٌ وارفةُ..ويستلقي تحتَ ظلالها، معشرُ كُتّابٍ، وشعراءَ، وفنّانين، ومؤرّخين، وأدباء، وصحافيين، ومبدعين من مشاربَ شتّى، عَرفهم، وعَرفوه، قرأهم وقرؤوه، نادَمهم ونادموه، فتحسبُه، لذلك أو لغير ذلك، بعمر مائة سنة، حتى لكأنّه لم يَرضَ لعينيهِ ممارسة فنَّ النوم، لطول قائمةِ ما قرأ من كتب، قديمِها وجديدِها، تراثاً ومعاصرةً، ولكثرة أعلام الإبداعِ الذين التقاهم، وحاورهم، وسامرهم أيضاً. وما تكراري الإشار ة إلى ذلك إلا للتذكرة!!.
وقبل أنْ أفتح صندوق الأسئلة في هذه المقابلة النادرة مع الكاتب القدير رباح آل جعفر، أدَعُ هذا “المارد الثقافي” يتحدّث إليكم عن بعض ما في سيرته من شذرات:
يقول:
أمَّا أنك تسألُني عن لمحةٍ من سيرتي: فأنا يا سيدي كاتب عراقي بسيطٌ لا نظرَ الأعمى إلى أدبي ولا أسمعتْ كلماتي من به صممُ، ولا أطاعنُ خيلاً من فوارسِها الدهرُ، كما يقول المتنبي في فذلكةٍ من فذلكاته. تخرجتُ في كلية الآداب بجامعة بغداد يوم كان كل شيءٍ في الآداب أو الطريق إليها يتكلم. كل الأشياء لها معنى. الوجوهُ الباسمة. الأسماءُ الباهرة. أشجارُ الطريق. الهمهماتُ. الممراتُ. النوافذُ. رائحةُ الزهور. كلُّ قطعةِ حجرٍ لها حكايةٌ ورواية.. أو كما قال شاعرُنا سليمان العيسى في تذكاره عن دار المعلمين العالية وقد طال عليها الأمد:
خذي شفتـي يا دارُ وليـركع الحـبُ
يُسـلّمُ عند البـابِ بالدمعـةِ الهُدْبُ
أنا النخلةُ العطشى أنا اثنانِ تحتَها
أنا دفتــــرٌ لم يفتحـــاهُ، أنا الكُتْـبُ
ومن حقك يا سيدي أن تعلم أنني مارستُ العملَ الصحفيَّ وعملت رئيس تحرير في سنواتٍ خلَت ومضت، وكتبت في جميع فنون الصحافة، وكتبت باباً يومياً لسنوات وكتبت بابا أسبوعياً لسنوات.. وحاورت كبار المفكرين والأدباء والفقهاء. من الدكتور مصطفى محمود إلى الدكتور محمد عمارة، ومن علي الوردي إلى مدني صالح، ومن الفيتوري إلى عبد الرزاق عبد الواحد، ومن السيد محمد حسين فضل الله إلى شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي.
ومن حقك يا سيدي أن تعرف أنني بدأت أحفظ أجزاء من القرآن الكريم وأنا في السادسة من عمري. وبدأت أحفظ المعلقات و”البردة” للبوصيري و”نهج البردة” لشوقي وقصائد المتصوفة وأنا طالب في المرحلة المتوسطة. وأدهشني المتنبي وأنا طالب في المرحلة الإعدادية فعكفت على ديوانه بشرح عبد الرحمن البرقوقي، ثم وقفت طويلاً عند “المتنبي” لمحمود محمد شاكر. وها أنذا أحفظ اليوم من روائع الشعر العربي القديم والوسيط والحديث ما يكفي لتأليف كتب من نوادر الشعر.
وإليكم تفاصيل المقابلة، بتمام أسئلتها، وإجاباتها:
**”برقية”: هل يمكن أن تصف موارد قراءاتك بين التراث والمعاصرة، فما أعرفُه أنك لا تقبل أن تنكفئ إلى الماضي أو أنْ تسحبك المعاصرة؟.. فلسف لي إجابتك عن هذا السؤال؟.
ــــــــــــــ أ. رباح: ابتداءً فأنا عاشق كِتابٍ وعلاقتي بالكتاب علاقةُ عشق كبير. أؤمن أن الدنيا أولها كتاب وآخرها كتاب. لذلك تراني أقرأ أيَّ كتاب يقع تحت يدي بصرف النظر عن محتواه. لا أعرف بالضبط عدد الكتب في مكتبتي لكنها من المؤكد بآلاف العناوين. وأزعم أن هذه العناوين لا مثيل لتنوعها. من الفلسفة إلى الأساطير، ومن الفلك إلى الفقه والتفسير والسيرة. من الإمام الغزالي إلى الإمام الجويني. ومن برناردشو إلى أندريه جيد. وكلما سافرت عدتُ بحقائب من الكتب. أما أصدقائي المقربون فيعرفون أنني كلّما دخلت مكتبةً لا أكتفي منها بشراء كتابٍ أو كتابين إنما أخرج برفٍّ كامل من الكتب. هذه حقيقة وليست صيغة مبالغة.
أنا مدين في قراءاتي الأولى لروايات الجيب التي كان يُصدرها المترجم والكاتب المصري عمر عبد العزيز أمين. قرأت من خلالها “مدام بوفاري” للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، وقرأت أيضاً “ماجدولين” التي صاغ ترجمتها مصطفى لطفي المنفلوطي.
أتذكر أول قصيدة قرأتها وأنا في السادسة من العمر كانت تتحدث عن اليتيم في صباح العيد للرصافي:
ألا ليتَ يومَ العيد لا كان، إنه
يُجدِّدُ للمحزون حزناً فيجزعُ
من الكتب التي قرأتها وأنا في بدايات الطريق مسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم.. كانت “قصة الفلسفة اليونانية” لزكي نجيب محمود مثلاً فاتحة الشهية استدرجتنا إلى قراءة الفلسفة. يومها كان من الطبيعي أن يبيع الواحد منّا ساعته اليدوية ليشتري بثمنها كتاباً للأشعري، ويترع من صفحات “أدب الدنيا والدين” للماوردي، أو يتأبط ديوان عمر بن الفارض، ويدَّخر كل ما يقع في يده من نقود وهي شحيحة ليقتنص “شرح المعلقات” للزوزني.
وأينما رأيت في ذلك الوقت مكتبة كنتُ أتوارى جانباً وأتحايل على صاحبها لآخذ منها كتاباً، وعندما بدأت أتردد على المكتبة العامة في مدينة حديثة وأنا ابن الثانية عشرة سنة من عمري كان أمين المكتبة كريماً معي فقد كان يُعيرني أكثر من كتاب في المرة الواحدة، بينما كان نظام الاستعارة يفرض عليك أن تعيد الكتاب الأول قبل أن تستعير كتاباً آخر.
هذه هي الينابيع الأولى لمصادر ثقافة تشكل بإيقاعاتها سيمفونية جميلة من التراث والمعاصرة.. وعلى أيِّ حال فأنا أحفظ ما جاء في “نهج البلاغة” بشرح ابن أبي الحديد: “منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا”.. والإثنان يجريان فلا طالب العلم يعثر على مال، ولا طالب الدنيا يعثر على العلم.. والسنون تجري والعمر قصير!.
**”برقية”: لماذا غابت أعمدتك الصحافية الباهرة، التي كانت “الزمان” تواظب على نشرها لسنوات؟.. أم انك الآن في مرحلة إعادة مراجعةٍ لمسار فعاليتك الكتابية؟.
ــــــــــــــــ أ. رباح: أمّا أنك تصف كتاباتي الصحفية بالباهرة فهذا من حسن ظنك بي وهي شهادة عزيزة على قلبي. وأمَّا لماذا توقفت عن النشر فربما انسحبت بصمتٍ، أو أنني منحتُ القلم إجازة “مستئذناً بالانصراف” على حدِ تعبير أستاذِنا محمد حسنين هيكل.. برغم أن القلم مثل بندقية محارب في الميدان لا يأخذ إجازة. هل يستطيع القلم أن يقدّم استقالته؟!.
بصراحة صحافتنا لا تشجع على الكتابة فيها. لا تشبهنا لا من قريب ولا من بعيد. نحن نكتب لقارئ لا نجده حتى في “أولاد حارتنا”.. تستطيع الآن أن تتجوّل في شوارع بغداد وساحاتها ومكتباتها فلا تعثر على بائع صحف إلا نادراً.. نعم توقفت عن النشر لكنني لم أتوقف عن الكتابة. وربما أعود في أي وقت بعد أن أنتهي من كتابي الجديد عن أشخاص عاشوا في حياتي. لقد تحوّلت معظم منابر الإعلام لدينا إلى نوع من المكارثية. ثم دعني أسألك بمحبة أيها الصديق: ماذا يفعل الكاتب عندما يخيبُ زمانُه، وتخذله آماله؟!.
الأديب العالمي همنجواي فهم الكتابة بأنها لعبة مع الموت. الشاعر الفرنسي أندريه شينيه طال لسانه فقتلته مقصلة الكونكرد. شاعر اسبانيا الكبير غارسيا لوركا لم يعثروا لجثته على أثر في الحرب الأهلية، دفنوه في قبر مجهول!.
أتذكر أني قلت يوماً للشاعر عبد الوهاب البياتي: إنّ على الشاعر الكبير أن يتوقف.
وردّ عليّ ممتعضاً: لماذا لا تطلب، إذن، من هذا الشاعر أن ينتحر؟!.
قلت ليكن الأمر كذلك، فالكتابة في غير عصرها انتحار!.
**”برقية”: أرى أنّ مقوّماتك معرفياً: أسلوباً، لغةً، وجمالاً في السرد. قلَّما يمتلكها غيرُك.. فما الذي يمنعك من التأليف؟!.
ــــــــــــــــــ أ. رباح: لن أتفلسف عليك كثيراً.. ولكن قبل أن تفكر بعنوان كتاب عليك أن تجيب عن هذا السؤال: هل تستطيع أن تقول آراءَك بصراحةٍ من أول نقطة حبر حتى آخر نقطة حبر دون أن تكون متوتر الأعصاب، مستنفراً في أقصى حالات الاستنفار؟!.
أما إذا كنت تتحدث عن كتب من قبيل كتب المختارات والإخوانيات ورسائل الورد المتبادلة هذه الأيام بين الأدباء فهذه كلها في متناول اليد. لم يخترع أحد فيها الحرف التاسع والعشرين من الأبجدية “من مبنى بلا معنى إلى معنى بلا مبنى” كما يقول محمود درويش.. مع ذلك فأنا منذ زمن أشتغل على التأليف وسأنتهي خلال أيام من كتابي الجديد الذي يتحدث عن مجموعة من لوحات تذكارية عن كبار مررتُ بهم وكبارٍ مرّوا بي!.
**”برقية”: هل أنت آسف أم متفائل بما ستكون عليه ثقافة العراقيين في غضون عشرين سنة آتية مثلاً؟.
ـــــــــــــــ أ. رباح: أنا متفائم. بل قل حزين على طريقة سعيد أبي النحس “المتشائل” في رواية الكاتب السوري إميل حبيبي.. أو كما يقول شاعرنا البديع كامل الشناوي:
أشتري الحب بالعذاب
أشتريـه.. فمن يبيــع؟!.
لست قارئ فنجان لكي أخبرك ماذا سيجري بعد عشرين أو خمسين سنة.. لكن قسْ حاضرك بماضيك تعرف مستقبلك. عندما تقارن بين هذا الحاضر ثقافياً وذلك الماضي التليد تدرك الفارق الهائل من الازدهار إلى الانتحار. يكفي أن تقرأ كتاب المفكر الكندي آلان دونو “نظام التفاهة” لترى أي مستنقع معرفي نحن نعيش!.
**”برقية”: هل لشعراء هذا الزمن العربي، وروائييه، وصحافييه، وكتَّابه أثرٌ في صميم وجدانك؟!. ومن ذا الذي ينال إعجابك في هذه المناخات الثقافية أو الأدبية؟.. صِفْهُ إنْ لم تُرد التصريح باسمه؟.
ــــــــــــــ أ.رباح: دعنا نبتعد قليلاً عن الأسماء.. فالقارئ لن يستفيد شيئاً عندما أقول إنني انتهيت من قراءة رواية “الحلواني” لريم بسيوني، أو “ليالي مي زيادة” لواسيني الأعرج، أو “إخوتنا الغرباء” لأمين معلوف.
آخر عهدي بقراءة الشعر كانت مع الجواهري في قصيدته:
ألفٌ مَضتْ وابنُ عبّادٍ بها أحدٌ
واليومَ ألفُ ابن عبّادٍ ولا أحـدُ
وكان كافــور فرداً تستقيـم له
واليوم شتَّى كوافيــر وننفـردُ
وآخر عهدي بالشعر كان مع عبد الرزاق عبد الواحد في وقفته مع المتنبي وهو يخاطبه:
يُقالُ عنك عتـيٌّ في تجبّــرهِ
وعندنا كلّ شبـرٍ فوقه صنمُ
وقد تجبّرتَ إعجازاً ومقدرةً
بينا تجبّرَ فينا العيُّ والصممُ
ثم أختم حواري معك أيها الصديق بالشاعر العربي عمر أبو ريشة وهو ينادي هذه الأمة الموجوعة متهكماً:
أمّتـي.. كم صنـمٍ مجّدتــهِ
لم يكنْ يحملُ طُهرَ الصَّنمِ؟!.
بقي أنْ نذكّر أنّ زميلَنا الحبيب، أبا بلال، الذي أجابَ ضمناً عن جميع أسئلتنا، أنّه نسيَ -ربّما لأمرٍ يراهُ موجباً- أنْ يبدأ من أولى أسئلتنا “س: ثقافياً، أين يمكن أنْ تجد ضالّتك القرائية، (الآن وليس في ما سبق)، لغةً، معرفة، أسلوباً، ومقاصدَ؟”، فله الامتنان، برغمِ النسيان!.