مقابلات

أ.د. طه جزاع لـ”برقية”: للعراقيين جوهرٌ ديناميكيّ..وبذرةُ وعيهِم تُنبِتُ مهما تراكمتْ عليها أتربةُ الجهلِ والخرافة!!

برفيسور الفلسفة طه جزاع، وقبل ذلك وبعدهُ، الأستاذ الصحافي ذو التجربة الكتابية لخمسين سنة، ممارسِاً ثقافياً، ورئيساً للتحرير، ومحرّراً، وأيضاً “مُسْتعمِراً” لقلوب زملائه، ومحبّيه، ولا أبالغُ إذا قلتُ، ولقرّائهِ، ولطلّابه، وأنا شخصياً تعلّمتُ منه الكثير، وكنتُ من قرّائه، وما زلتُ!.. أقول هذا “الاسم العَلَم”، عقلاً، ورأياً، وحكمةً، انتبذ من أسئلتي الستة، أحدَها، فأوقعني في حيص بيص، ذلك أنّ السؤال يتعلق بصميم اختصاصه. سألتُه: (أين تضع “العقل العراقي” أمام عربة المجتمع أم خلفها، أم هو الآن خارج إطار سيرورة المجتمع؟!).. لكنّ المُحتفى به في هذه المقابلة لم يُشرْ إلى هذا السؤال البتة!.

      وبذلك منحني فكرةَ الشروع بهذا التمهيد لسادسِ مقابلة تنشرها “برقية” حتى الآن، لكنَّ “الحيصبيصية” ظلّت تشغلني في الأسباب التي كَمَنتْ وراء انتباذ “أبي ياسين” لسؤال عن “العقل العراقي”..ولم يُسلْمني مزيدُ التفكير في التعليل، والتسبيب، إلّا إلى المثل الذي كان زميلُنا الأستاذ حمزة مصطفى يردّدهُ دائماً (شدّوا روسكم يا كرعين)!!.

     ليعذرني “أبو ياسين”، فقد “حكمت النكتة”، وكان لابدّ من روايتها، وفي الهامش تفاصيلها*..ذلك لأنَّني، وبعد أنْ افترضت عشرين سبباً لـ”كنسلتهِ” السؤالَ إيّاه، لم أجدْ غيرَ “شدّوا روسكم يكرعين”، ردّاً على “لا جدوى” البحث عن إبرة السبب في “كومة قش” تركِ السؤال. بصراحة أحسستُ بالعجز عن اكتناه “سرّ” إلغاء الدكتور طه لسؤال يتعلق بالعقل العراقي، وهو برفيسور الفلسفة، و”حكيمنا” الذي نلجأ إليه في الملّمات!. لكنّ لأبي ياسين “طلْعاتُه” في قصديّة إهمالِ ما لا لزوم له!. وعند أعتابِ نص المقابلة مع الدكتور طه جزاع، بأسئلتها وإجاباتها، أفترضُ أنّه أجاب عن سؤال “العقل العراقي” ضمناً، فقد وجدّتُ ومن دون قصد أنّ جميع أسئلتي لها علاقة بـ”العقل العراقي”، وأنّ الصديق الحبيب، أبا ياسين لم يُردْ “إخجالي” بتهمة التكرار الذي لا لزوم له، فكان هذا منه “مَنْقبة” في سياق مناقبهِ التي تنتمي إلى “حُسْنِ الخلُقِ”، الذي قالَ عنه الرسول الأعظم (ص)، “ما منْ شيءٍ أثقلُ في الميزانِ من حُسنِ الخلُق”.. وإليكم نصّ المقابلة:

 **”برقية”: هل الحركة الأكاديمية في البلد، تشي بأي قُدرة على تجاوز الإحباطات، وتحقيق نسبة تقدّمٍ علمياً ؟

  ــــــــــــــــــ د. طه: قد لا أتمكن من إعطاء جوابٍ يقيني قاطع لمثل هكذا سؤال يتطلب أرقاماً وبيانات ومعلومات موثوقة حول ما أسميتَه مجازاً بالحركة الأكاديمية، وأفهم أنك تقصد بها المستويات العلمية للجامعات العراقية الحكومية والأهلية، وكفاءة مخرجاتها في مختلف التخصصات وفق معايير الجودة العالمية، كما افهم أنَّ هناك ” إحباطات ” ربما تم التركيز عليها كثيراً من قبل وسائل الإعلام ووسائط التواصل الإجتماعي، وهي في كل الأحوال لا يمكن أن تكون مقياساً حقيقياً لواقع الحال. قد يكون الواقع العلمي والأكاديمي العراقي الراهن شهد تراجعاً ملحوظاً في سلم معايير الجودة والأداء الجامعي عما كان عليه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بحكم العديد من العوامل القسرية التي تعرض لها المجتمع العراقي على مدى اكثر من اربعة عقود تركت آثارها المدمرة في مختلف شؤون الحياة ومفاصلها الحيوية، ومنها بل وربما في مقدمتها قطاع التعليم العالي، لكن الذي اعلمه أيضاً أن هناك جهازاً في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يُعد من صميم قانونها تم استحداثه منذ أكثر من ثلاثة عقود، هو جهاز الإشراف والتقويم العلمي حددت مهامه كما جاء في قانون الوزارة بالتأكد من مشروعية تصرفات الجامعات والكليات والمعاهد والأقسام والفروع، ومدى انسجامها مع التشريعات النافذة، من أجل تحقيق تعليم متميز وفق معايير الجودة العالمية، ومازال هذا الجهاز يتابع ويراقب الإداء العلمي للجامعات العراقية الحكومية والأهلية، ويتأكد من عدم اخلالها بمعايير الجودة من خلال نظام تقييم الإداء الإلكتروني للتدريسيين والموظفين، ووضع قاعدة بيانات للمختبرات والأجهزة المختبرية في الجامعات والكليات الحكومية والأهلية من خلال نظام الترميز، وكذلك متابعة التصنيف العراقي لتلك الجامعات والكليات. لذلك فإن جوابي على سؤالك هو نعم بالإمكان تحقيق نسبة تقدم علمي يتجاوز الاحباطات، فواقع الحال ليس سيئاً إلى الحد الذي يجعلنا نفقد أي بارقة أمل، لأن العراق من الدول الوَّلادة التي لا تُصاب بالعقم، والمجتمع العراقي على حقيقته وبما يمتلكه من طاقات علمية شبابية متجددة، وامكانيات بشرية ومادية، ووفرة مالية، فضلاً عن الخبرات المتراكمة عبر الأجيال، قادر دوماً على تخطي العقبات مهما كان نوعها وحجمها .

   **”برقية”: فلسفياً، هل هناك ” وعي اجتماعي” جدير بالملاحظة على مستوى فهم العراقيين لميكانيزمات التطور في  العالم؟.

   ــــــــــــــــــــــــ د. طه: صراحة لا أفهم ما الذي تعنيه بميكانيزمات التطور في العالم. فالذي اعرفه أن الميكانيزمات** مصطلح نفسي لا فلسفي ولا اجتماعي، المقصود به الآليات أو الحيل العقلية التي يستخدمها الانسان للوقاية من حدة الصراعات النفسية الداخلية والخارجية مثل الإسقاط والنكوص والتسامي، أما إنْ كنتَ تقصد بهذا المصطلح ” مجازاً ” آليات التحكم بالمتغيرات الاجتماعية وضبطها من أجل الإصلاح والتقدم والتطور، فإني إجيبك “مجازاً” أيضاً، بأن المجتمع العراقي في جوهره من المجتمعات الديناميكية الحية المتجددة التي بمقدورها أن تتمثل التطور، حتى وأن لم تصنعه. وإن بذرة الوعي الاجتماعي تنبت باستمرار مهما تراكمت عليها أتربة غياب الوعي، وغبار الجهل والخرافة.

   **”برقية”: بأي مستوى فلسفي يمكن أنْ نفهم “العدالة الاجتماعية” منذ خمسة عقود، عشنا تحوّلاتها؟

    ــــــــــــــــــــــــــ د. طه: كانت العدالة هي جوهر جمهورية أفلاطون، وهي نسبية لا مطلقة، يقول أفلاطون إنْ أعارَكَ صديق سلاحاً وهو عاقل، فهل من العدالة أن تعيد إليه سلاحَهُ وقد أصيب بالجنون ؟!. وإذا ما حددنا العدالة في تطبيقاتها الاجتماعية منذ خمسة عقود عشنا تحولاتها كما تسأل، فإني أقول لك من دون تردد إنها في تراجع وتدهور مستمرين، وذلك لا يعني مطلقاً أن العدالة الاجتماعية قد تحققت تماماً يوماً ما في أي من تلك العقود، أو أنها صارت أقرب إلى العدالة المثالية، لكنها تفاوتت في درجاتها، ولم تتحقق كاملة في الأحوال كلها، ولن تتحقق إلا في خيالات الفلاسفة والشعراء، وعبدة التاريخ المثالي، وصُنّاع الأوهام.

   **”برقية”: كيف تنظر صحافياً، كاتباً، أستاذاً جامعياً، له خبرات وقراءات ورؤى إلى حركة الثقافة العراقية الآن؟!

    ـــــــــــــــــــــــ د. طه: لو نظرنا إلى النتاج الثقافي كمعيار من معايير حركة الثقافة العراقية، فإننا نجد كمَّاً هائلاً من الأعمال الأدبية، الروائية على وجه التحديد، ومئات الندوات الحضورية والإلكترونية، والجلسات النقاشية، والأماسي الشعرية، والمؤتمرات العلمية، ورسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه في الجامعات، والاصدارات والكتب في مختلف التخصصات. ولا بد لهذا الكَّم أن يفرز نوعاً وفقاً لقانون ماركس في تحوّل التراكمات الكمية إلى تغيرات نوعية، وألَّا فليس من المعقول ولا المنطقي أن نحسب ذلك كلّه نتاجاً سطحياً لا تأثيرَ له في عموم الحركة الثقافية وانعكاساتها على الوعي الاجتماعي. شخصياً أرى أنّ عجلة حركة الثقافة قد سارت في العقدين الأخيرين بسرعة فائقة، لكنها سارت على سكك متفرقة لا سكة واحدة، وهذا ليس بالأمر السيء، فلابد في النهاية أن تتبلور حركة ثقافية بهوية عراقية وطنية في جوٍّ من الحرية الفكرية المسؤولة اجتماعياً وأخلاقياً.

    **”برقية”: هناك من يقول إنّ العراقيين، والعرب أيضاً يعيشون في “غيبوبة فكرية”.. ما رأيك؟.. هل في القول مبالغة؟.    

   ـــــــــــــــــ د. طه: تمرُّ الشعوب عادةً بغيبوبة عن الوعي في بعض الحقب التاريخية، ويحدث ذلك غالباً عندما تغيب الديمقراطية وتتحكم الأنظمة الشمولية، بل ويتحكم شخص واحد أو عدد محدود من الأشخاص بمصائر الشعوب وأسلوب معيشتها، وطريقة تفكيرها، ونمط أيديولوجيتها، وخياراتها في الحرب والسلام. وهي أشبه بغياب وعي الأشخاص، سيما من المثقفين والكتاب والأدباء والمفكرين، مثلما حدث لتوفيق الحكيم تحت حكم عبد الناصر، ولخصه في كتابهِ ” عودة الوعي ” الذي أصدره بعد غياب الرئيس. أما الغيبوبة الفكرية فأنا أتحفظ على هذا المصطلح، لأن الفكر هو جوهر الانسان مثلما هو جوهر الشعوب، ومن دونه تصبح المجتمعات أشبه بالقطيع، وهذا وصفٌ لا يليق بالإنسان ولا يليق بالمجتمع البشري. وعودة على بدءِ ما وصفنا به المجتمع العراقي بأنه من المجتمعات الديناميكية الحية المتجددة، يمكنني القول إن العراقيين وعموم العرب قد مرت عليهم في حقب تاريخية متفرقة نوبات من السبات الفكري لا الغيبوبة، وهي مراحل مرت فيها أغلب المجتمعات البشرية، لكن العِبرة في الخروج من مرحلة السبات إلى مرحلة النهوض والمساهمة الفعلية في بناء الحضارة الإنسانية فكرياً ومادياً، فعلاً لا قولاً ، وإن ذلك لن يتحقق ما لم تتوفر أجواء العدالة الاجتماعية، والحرية الفكرية، ورفع المظالم، ومحاسبة الفاسدين، وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن أي انتماء فرعي، غير الإنتماء للعراق الواحد روحاً وأرضاً وماءً وسماءً، وهوية حضارية نفتخر بها جميعاً .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*للطرافة، كان تكرار هذا المثل يُزعجُ صديقنا المهيب الأستاذ الصحافي والكاتب القدير أكرم طاهر حسّان، “أبو حسّان” الذي كان يحثّني على إبلاغ “أبي علي” بالكف عن هذا المثل، برغم أنه “أصلعٌ” وليس “أكرعاً”!.. طلبتُ ذلك من العزيز حمزة مصطفى لكنّه نسيَ، وفي أوّل جلسة جمعتنا في جريدة الجمهورية ردّدَ مثلاً آخر ومن دون قصد (أأرع ونزهي)، باللهجة المصرية، فتجاهلَ الأستاذ أكرم، المثلَ هذه المرة، لكنّ “أبا علي” أعادَ الكرة بعد أسابيع قليلة ليقول: (تساوت الكرعة وام الشعر).. عندها طفح كيلُ أبي حسان ليعلِنها بوجه الأستاذ حمزة: “ما تكلي ابو علي شنو قصتك ويه هالأمثال الفاكسة”؟!

** بتعريف غوغل، كلمة “ميكانيزم” Mechanism تعني الآلية أو النظام الذي يُستخدم لتحقيق وظيفة معيّنة. وتستخدم هذه الكلمة لوصف مجموعة من الأجزاء أو العمليات التي تعمل معاً لتحقيق نتيجة محددة، سواء في الأجهزة الميكانيكية أو في العمليات الطبيعية أو الاجتماعية.

مقالات ذات صلة