أيّامنا كلّها كربلاء..وأيامهم كلها “لندناء” و”باريساء” و”بيروتاء”!
بقلم: د. جعفر المظفر
يا للهول: في أيام الطفولة كان هناك إلى جوارنا, في منطقة المعقل من البصرة, جامعٌ لعائلة دينية شيعية معروفة تحرص على أن تجذبنا نحن الصبية والشبّان من الأميين ومن أنصاف المتعلمين إلى فناء الجامع وإلى المساحة الخالية أمامه, وكان ذلك يحدث في كل مناسبة شيعية. أما نحن فقد أفهمونا أن محبة الحسين وشفاعته لن ينالها إلا من يدمي ظهره أو صدره أكثر, وإلا من تحْمرُّ عيناه بكاء إلى درجة العمى. ثم إذا بنا نكتشف أن أبناء القائمين على ذلك الجامع لا تشملهم شروط المحبة الحسينية, فلم يكن من بينهم من شاركنا اللطم أو البكاء, ثم اكتشفنا أن بعضهم يصطاف ويتعلم في أوروبا, أما نحن فكان وصولنا إلى بغداد بمثابة حلم سياحي كبير.
ويسألونني لماذا أحب سامي فتاح أو مزهر الشاوي أكثر مما أحب صاحب العمامة تلك ولا ألفّ مشاعري تجاههما بالواقي المذهبي.. لأُعَّرِفَك, أولاً بصاحِبيْ الإسمين, الأول كان مديراً عاما للموانئ العراقية نهاية العهد الملكي, أما الثاني فقد شغل المنصب نفسه بديلاً له في بداية العهد الجمهوري أيام حكم الزعيم قاسم وحتى نهاية عهده,وكلاهما كانَ محسوباً على المذهب السني..
لنعد الآن إلى ساحة ذلك الجامع التي كنا نغطيها نحن صبية الشيعة وشبّانها بصدورنا المدمية وعيوننا المعمية . على جانب من تلك الساحة كان هناك رجال معممون يبذلون كل جهدهم لإبقائنا في تلك الساحة لطّامين بكّائين, ولا نعرف من دنيانا غير اللطم والنواح والبكاء على الحسين العظيم الذي رفض إلا ان يقول لا للباطل, في الوقت الذي راح هؤلاء يُحوّلون هذه المأثرة الإستشهادية من أجل الحق إلى حالة تعلوها ضوضاء الرادودين والنغمات الكارثية التي تصدر من الزناجيل وهي تهوى على الظهور.
لكن, على الطرف الأخر كان سامي فتاح ومزهر الشاوي يعملان ليل نهار من أجل بناء مدينة المعقل من البصرة التي تضم ذلك الجامع, وخلال خمس سنوات فقط تمت إزالة مئات الصرائف التي كانت تغطي كل مساحة المعقل وبنوا فيها أحياء بمساكن من طابوق وشوارع مخططة ومنتزهات ونوادٍ ومسابح وساحات رياضية.
في تلك الساحة إذن, كنا نحن نمارس حِرْفة اللّطم بينما راح يتصارع علينا فريقان, واحد يمثله شيخ الجامع المعمم, والذي كان كل همه أن يُبقينا في الساحة في حين كان كل ما يتفضل به علينا, مع حكاية اللطم تلك, أن يمدّ يده إلينا لكي نقبّلها حتى نتبارك بها بوصفه سيداً وابن رسول الله. أما على الجانب الآخر للساحة فقد كان سامي فتاح ومزهر الشاوي يمدّان يديهما إلينا ملأى بالمدارس والبيوت والحدائق والنوادي حتى يُخرجانا من ساحة اللطم تلك إلى ساحات الحياة.
كان مزهر الشاوي سُنّياً من سنة الدولة العراقية العلمانية ورفيقا ومساعدا لعبدالكريم قاسم, وكان هذا أيضا سنيا بالولادة لكنه لم يأخذ ذلك في اعتباره حينما ابتنى لفقراء الشيعة مدينة الثورة وعوضهم عن بيوت الصفيح وأكواخ الطين وشرع لهم قانون الإصلاح الزراعي الذي أنقذ فلاحي الشيعة من عبودية الإقطاعي, الذي كان هو أيضا شيعيا يتناوب مع رجل الدين الشيعي عبودية ذلك الفلاح ويستغله بأبشع صورة, واحد يستغل جسده والثاني يستغل عقله وروحه.
كلاهما كانا سنُيين, مزهر الشاوي وعبدالكريم قاسم, وكلاهما كانا يريدان إخراج الشيعة الفقراء والأميين من ساحة اللطم تلك إلى فضاء العلم والتعلم والعيش الرغيد وينقذهم من ذلك الذي يسرق روحهم وعقلهم وذاك الذي يسرق قوتهم وجهدهم.
حينما تعيد قراءة تاريخ العراق على ضوء الخطاب الطائفي الشيعي الذي عوم تاريخ العراق كلياً باتّجاه طائفي ستجد أن السني لم يكن سوى ذلك الشيطان الذي استغل الشيعة واستعبدهم, أما ذلك الشيعي المعمم الذي كان يسرق روحهم والإقطاعي الشيعي الذي كان يسرق أجسادهم وكدهم وتعبهم فهم لم يعد لهم موقع في تلك القراءة.
هؤلاء حينما تذكّرهم بذلك يسرعون سريعا إلى زج إسم صدام في الصورة لكي يؤسسوا عليه نظرية طائفية تقول.. لقد كان الشيعة طوال التاريخ ضحايا للسنة, وهكذا يضعون في الإستخدام نظرية إستقطاعية لا تتعامل مع التاريخ إلا بصيغ إنتقائية, أما عبد الكريم قاسم ومزهر الشاوي وآخرون من سنة الدولة المدنية فلم تعد هناك نية لقراءة التاريخ من خلالهم بمنطق أكثر إنصافا وتوازنا وعدلا وحرية.
هل سيكون معنى ذلك أن الصف السني كان خاليا من رجال يكرهون الشيعة أو يفضلون أبناء مذهبهم عليهم.. لا أبدا, لكن بالمقابل كان هناك خطابٌ شيعيٌ طائفيٌ كريهٌ يصوّر عمر بن الخطاب مخلوقا بذيل ويُنزل عائشة مكانة غير لائقة.
وها نحن اليوم نعود إلى تلك الساحة من جديد بعد ان تمددت بشكل كبير.. هذه المرة الخطاب الطائفي الذي تسيد الوضع السياسي في العراق يريد أن يجعل من كل المناطق الشيعية ساحة ترابية يمارس عليها الشيعة طقوس اللطم والتطبير. أما نحن شيعة الفكر العلماني فيهمنا أن نمد أيدينا لمن في تلك الساحة من أهلنا الشيعة لكي نُخرجَهم منها إلى حياة أخرى خارج دراما الحزن تلك, وهو حزن غالبا ما يحوله ساسة الشيعة والكثير من عمائمها ورواديدها إلى ملايين من الدولارات لكي يجعلوا من كل ترابنا كربلاء في حين يكون ترابهم كله لندناء وباريساء وبيروتاء.
وإن أول ما أراه لازماً لإخراج أهلي من تلك الساحة الترابية أن أجعلهم يقتنعون بأن الخطاب الطائفي الذي يُشيطن سنة العراق ليس صحيحا, فقط سأذكرهم بأن رجالا مثل عبدالكريم قاسم ومثل مزهر الشاوي ومثل ملوك العراق, وغيرهم وغيرهم لم يكونوا شياطين سنة أبدا, وسأقنعهم أن يؤسسوا نظرياتهم السياسية على سنة من هذا النوع, لا على غيرهم, ولا ينخدعوا أبدا بالخطاب الطائفي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قبل خسمة أعوام، وفي الحوار المتمدّن، نشر المفكّرُ الدكتور جعفر المظفرهذا المقال-التحقيق، تحت عنوان (أيّامنا كلها كربلاء وأيامهم كلّها لَنْدَنَاء)، فانتخبنا من صلصالِ نصّه كلمتي “باريساء، وبيروتاء”، لأسباب تتعلّق بالإخراج الصحافي.
وبدِقّة، وبتكثيف، نقول: بمثل هذه الرؤى، والتحليلات الفكرية، نسعى سعياً علمياً يُثري عُقولنا لإنهاءِ كارثة “الدوران في ساقية الجُدبِ، والقحطِ، والنشوز” منذ أنْ حوّل المساخيط من أشباهِ “أبي جهل”، و”أبي لهب”، ومن دار في فلكهم، حياة العراقيين إلى سيرٍ حثيثٍ نحو مهاوي الرَّدى، لكنْ وبتحذير مخلصٍ للعراق وفقرائه نقول: إذا فاتَ الأوان، وسبقَ السيف العذْل، لن يكون المآل غير أنْ نموتَ لطماً ونحنُ نُنشد مع أبي ذؤيب الهُذلي:
وإذا المنيّة أنشبتْ أظفارها…ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
“برقية”