“أيها المسافر تذكّر”..الدكتور محمد فاضل الجمالي ينتقد زيارة الرئيس عبد الناصر إلى روسيا!
عام 1953،كنتُ طالباً في مدرسة الكرمة الابتدائية (ريف قضاء سوق الشيوخ). وبسبب تطلعاتي الأدبية، سميت معاوناً لأمين المكتبة. كان أمينها معلماً ومربياً فاضلاً، هو التربوي (صبري….) .كان معلمنا لمادة الرسم ، وهو نشط وأمين في أداء الواجبين: أمانة المكتبة، وتعليم مادة الرسم.
فلسفة التربية
وجودي في المكتبة ،وتطلعاتي الأدبية، أتاحا لي قراءة بعض ما تحتويه المكتبة من الكتب. ومما قرأتُه : كتاب (فلسفة التربية) لمؤلفه الدكتور محمد فاضل الجمالي. ويبدو أنَّ هذا الكتاب هو أطروحة الجمالي لنيل شهادة الدكتوراه.
من هو الجمالي ؟
ولكن من هو الجمالي؟ في المصادر ذات الصلة قرأتُ : الدكتور محمد فاضل الجمالي(1903.. 1997) مؤسس المدرسة الدبلوماسية في العراق (1943.. 1958) وكان قبل ذلك قد صمم وأعدَّ نظام التربية والتعليم الحديث على نظرية النسبة السكانية، وليس على نظرية المدن الكبرى.
وكان قد ابتُعث في أول بعثة علمية الى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على دكتوراه (فسفة التربية) من جامعة كولومبيا عام 1932. تولّى وزارة الخارجية ثماني مرات ، ورئاسة مجلس النواب مرتين ، ورئاسة الوزارة مرتين . يوصف بأنه : (مفكر ،مصلح ، ملكي الهوى).
اعتُقِلَ بعد (14/تموز/1958) وتمّت محاكمته، ولكنْ اطلق سراحه مثل بقية رجالات العهد الملكي الذين صدرت بحقهم أحكام مختلفة من (المحكمة العسكرية العليا الخاصة محكمة الشعب) .غادر العراق عقب إطلاق سراحه ، وعاش في تونس ،ومات ودفن فيها ومن اصدقائه الرئيس الامريكي آيزنهاور.
ماذا يتذكر المسافر؟
كلف الجمالي برئاسة الوزارة العراقية ، بعد خلوة بين الملك فيصل الثاني ورئيس مجلس الامة السيد الصدر. هكذا تقول مصادر مطلعة . الا أن تكليفه برئاسة الوزارة يتعدى نصيحة قدمها رئيس مجلس الأمة وتجاوب معها الملك الهاشمي .
ونميل للقول: إنّ الظروف السياسية التي مر بها العراق خاصة والمنطقة عامة قد تطلبت هذا الاجراء، فالنخبة السياسية التي تصدرت المشهد الحكومي العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة جاءت من صلب النظام العثماني الاستبدادي (عبد المحسن السعدون، نوري السعيد ، جميل المدفعي ،توفيق السويدي …)مثلا ،
وتحوّلوا فجأة من مناصري السلطة العثمانية، إلى قادة للعراق في ظل الاحتلال البريطاني، لذلك حملوا منهج تلك السلطة. ومن جهة ثانية اشتدّت المعارضة الوطنية بالداخل. وفي مصر برزت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وقام الزعيم الوطني الإيراني (مصدق) بتأميم النفط في بلاده.
لهذه الأسباب وغيرها ، تم التوجّه نحو تغيير ما في الواجهة السياسية العراقية ، تغييراً أتى بنخب متنورة، لم تعمل في ظل السلطة العثمانية الاستبدادية، وبرزت للواجهة شخصيات تحمل مؤهلات جامعية، وتفكيراً ليبرالياً. وفي المقدمة منها :محمد فاضل الجمالي وعبد الغني الدلي وغيرهما.
إلا أنَّ ما يؤخذ على الدكتور الجمالي حماستُهُ للنفوذ الاميركي في العراق. ومما يدعو للاستغراب قيامه بإصدار جريدة يومية سياسية حملت اسم (العمل) .كانت مدافعة عن السياسة الامريكية في العراق خاصة ، والمنطقة عامة.
وحين قام الرئيس عبد الناصر بالتوجه نحو موسكو عام 1958 في أول زيارة لرئيس عربي للاتحاد السوفيتي، وبينما كان الرئيس عبد الناصر يستقل الطائرة متوجهاً نحو موسكو، كانت جريدة(العمل) تكتب افتتاحية حادة حملت عنوان(أيها المسافر تذكّرْ) تضمنت انتقاداً شديداً لهذه الزيارة.
رحل الجميع الى دنيا الآخرة لكن ما قاموا به :
إنْ كان صحيحا أو خطأ ،خيراً او شراً ، بقي مجرد وقائع للذكرى، عسى أنْ تنفع الذكرى؟!