أوراق من دفاتري الصحفية.. معلومات حصرية لحقائق أوّل جريدة تُجيزها وتغلقها جمهورية الزعيم!!..




خلال استذكاره ظروف إصدار الجمهورية يقول الدكتور سعدون حمادي في مقابلة صحفية أجرتها معه هناء العمري ونشرتها مجلة ألف باء في يوم 20 تموز1983 إنّهُ منذ البداية تم تكليفه حزبياً بإصدار الجمهورية وقد تلقى مساء يوم 16 تموز 1958 اتصالاً هاتفياً من وزارة الدفاع تبلغه بأن قيادة الثورة قد سيطرت على مطابع جريدة الشعب الملغاة من أجل إصدار جريدة جديدة.
ويضيف إنّ سيارة عسكرية نقلته من منزله الى مكاتب الجريدة الملغاة ليلتقي بعدد من كوادر البعث ليصدروا العدد الأول من الجمهورية بأربع صفحات.
إلا أنّ عبد الستار الدوري عندما التقيته في عمان عام 2015 صحّح لي ما قاله الدكتور حمادي ، موضحاً أن عضو القيادة القطرية علي صالح السعدي جاء إليه في ساعة مبكرة في بيته ببغداد وبسيارة جيب عسكرية ، وذهبوا معاً الى الدكتور حمادي في كلية الزراعة في أبو غريب. واصطحباهُ إلى مقر الجريدة. وكان الدوري آنذاك عضواً في قيادة فرع بغداد وتولى منصب مدير الإدارة في الجريدة الجديدة .

وربما كان الدكتور حمادي يتفادى الحرج في التحدث صحفياً وعلناً عن شخصيات بعثية سابقة لم تعد مجريات سياسة تلك السنة 1983 وما بعدها تتناسب مع نشرها على لسانه لأن رئيس النظام صدام حسين أصبح يعتبرهم مناهضين له بالرغم من أنّ بعضهم كان متوفياً ، ومنهم فؤاد الركابي وعلي صالح السعدي وعبد الستار الدوري وغيرهم من الجيل السابق من قادة الحزب.
ولما تولّى أمين سر القيادة القطرية فؤاد الركابي وزارة الإعمار في حكومة الثورة ، كان واضحاً أنّ الشخص الثاني بعده هو علي صالح السعدي ، الذي توارى لاحقاً عن الأنظار وهرب إلى سوريا ليعود فيما بعد سراً الى بغداد ليصبح أمين السر الجديد بعد الركابي.

*****
وأثارت ظروف إصدار الجمهورية بعد يومين من قيام النظام الجمهوري عاصفة من الجدل خلال الشهور الأولى لثورة 14 تموز 1958 وكان جدالاً سياسياً وصحفياً وقضائياً تبودلت فيه الاتهامات والاتهامات المضادة.
ولابدَّ من ملاحظة أن جريدة الجمهورية كانت أول جريدة تجيزها السلطات الجمهورية ، وفي الوقت نفسه أول جريدة تغلقها هذه السلطات الجمهورية وتعتقل كوادرها الصحفية والسياسية.
وعاشت هذه الجريدة من 17 تموز 1958 إلى 6 تشرين الثاني 1958 وأصدرت 95 عدداً وهي أول جريدة عراقية أدارها وحررها البعثيون حصراً.

ولم يقتصر ذلك الجدل على الكتاب العراقيين والأجانب فحسب ، بل وحتى في جلسات مجلس الوزراء وفي الجلسات السرية للمحكمة العسكرية العليا الخاصة لمحاكمة العقيد الركن عبد السلام محمد عارف لمحاكمته بتهمة التآمر على حياة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الحكومة.
كذلك تطرقت له جلسات التحقيق مع عدد من كوادر الجريدة الذين جرى اعتقالهم بعد إغلاقها. وانزلقت بعض المقالات الصحفية الى تفسيرات خيالية .
رددت مجموعة من المصادر العراقية والعربية والأجنبية أنّ العقيد الركن عبد السلام عارف كان هو صاحب امتياز جريدة الجمهورية ، دون أنْ يقدموا أدلة تبث ذلك ولم يحددوا الفترة الزمنية لهذه المسألة.
أكانت من العدد الأول ، وما هو رقم العدد ، أم كل الأعداد؟
مثلاً يناقض فائق بطي نفسه في ثلاثة من كتبه، فيقول في اثنين منها أن رشيد فليح هو صاحب الامتياز ، وفي كتاب ثالث يقول أن عبد السلام عارف كان منذ العدد الاول صاحب الامتياز.
ولثوثيق ذلك يمكن مراجعة كتب فائق بطي التالية:
1/ صحافة العراق ، تاريخها وكفاح أجيالها ، مطبعة الأديب ، بغداد1968 ، الصفحة 182.
2/ صحافة تموز وتطور العراق السياسي،مطبعة الأديب ،بغداد ، الصفحة 17.
3/ والكتاب الثالث هو ، الموسوعة الصحفية العراقية ، مطبعة الأديب ، بغداد1976 ، الصفحة 286.
ولم يقتصر الخطأ على فائق بطي ، بل وجدته يتكرر في المصادر التالية:
– ليث عبد الحسين الزبيدي ، ثورة 14 تموز 1958 في العراق ، دار الرشيد ، بغداد ،1979 الصفحات 347 -348

Ghazi Ismail Al- Gailani ,Iraq’s Jounalism and Political Conflict. 1956-1963,Ph.D,University of Iowa USA,1971,P119, وهي رسالة الدكتوراه لغازي أسماعيل الكيلاني من جامعة أيوا الامريكية
– Uriel Dann, Iraq Under Qassim, A Political History , 1958 – 1963 New York,1969, P72
وهو كتاب الباحث الاسرائيلي أرييل دان عن العراق تحت حكم عبد الكريم قاسم
– وأخيراً تقرير المعهد الدولي للصحافة الذي صدر في زوريخ عن الضغوط الحكومية على الصحافة.
international Press Institute. Government Pressure on the Press,Zurich, Vol.IV P9
وكما أشرت في سطور سابقة فقد راجعت شخصياً جميع أعداد جريدة الجمهورية المحفوظة في المكتبة الوطنية ببغداد وأكتشفت أن كل تلك المصادر اعتمدت على كلام متداول شفهياً وعاطفياً دون التدقيق .
وعندما ناقشت فائق بطي حينما كان مقيماً في أربيل شمالي العراق بعد الاحتلال الامريكي ، زعل رحمة الله عليه ولم يقبل باستنتاجي لأنها تكشف أخطائه.
وعند الرجوع إلى تصريحات الدكتور حمادي لمجلة ألف باء نجد أنه لم يورد اسم من اتصل به هاتفياً ، وأفترض بأنه حتماً يكون فؤاد الركابي الأمين القطري الذي أصبح وزيراً ، وربما تصرف بعد التشاور مع العقيد عارف بصفته الشخص الثاني في التسلسل الحكومي بعد الثورة، وربما بمعرفة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ، والتاريخ يحتفظ بصورة تجمع قاسم وعارف والركابي وحمادي.

كانت الأعداد الستة الأولى لجريدة الجمهورية تحمل اسم الدكتور سعدون حمادي صاحباً للامتياز رئيساً للتحرير ، ومعاذ عبد الرحيم مديراً للتحرير.
وفي العدد السابع الصادر يوم 24 تموز 1958 ظهر اسم عبد السلام محمد عارف على الصفحة الأخيرة صاحباً للامتياز ، واستمر في الأعداد السابع والثامن والتاسع والعاشر ، وكانت الأعداد الوحيدة على الإطلاق التي حملت اسم عبد السلام.

ثم بدأ اسم رشيد فليح يظهر صاحباً للامتياز اعتباراً من العدد الحادي عشر واحتفظ سعدون حمادي بمنصبه رئيساً للتحرير ومعاذ عبد الرحيم مديراً للتحرير.
والعقيد المتقاعد رشيد فليح هو من أهل عنه بمحافظة الأنبار ومن ضباط انتفاضة مايس 1941 وجرى اعتقاله وطرده من الجيش ، ومن أقاربه المعاصرين عبد الغني عبد الغفور وزير الإعلام في سنوات سبقت الاحتلال الامريكي.
ومن المؤكد أن عبد السلام هو من كان وراء ترشيح رشيد فليح ليكون صاحباً للامتياز ، وكان آمراً لوحدته العسكرية عندما كان عبد السلام ملازماً في الجيش.
شرح لي الزعيم الركن ناجي طالب أحد أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار خلال مقابلتي له بمنزله في بغداد أسباب كل ذلك الجدل بشأن جريدة الجمهورية موضحاً أن ( نقاشاً حاداً جرى في أحد إجتماعات مجلس الوزراء بين العقيد عبد السلام وبين وزير الإرشاد صديق شنشل. فاستدعى عارف مرافقه ليبلغ الجريدة بأن يضعوا اسمه على إحدى صفحاتها صاحباً للأمتياز).

وكان ناجي طالب قد أدلى بإفادته بهذا الاتجاه خلال شهادته أمام المحاكمة العسكرية السرية للعقيد عارف والوارد نصها في الصفحات 2092 – 2093 من الجزء الخامس لمحاضر جلسات المحكمة العسكرية الخاصة التي ترأسها العقيد فاضل عباس المهداوي واقترنت باسمه ( محكمة المهداوي)!
وكانت معلومات ناجي طالب متطابقة مع إفادة الزعيم الركن أحمد صالح العبدي رئيس أركان الجيش الحاكم العسكري العام.
وينفي معاذ عبد الرحيم في حديث قديم لي معه هيمنة عارف على الجريدة ، ويقول إنّ عارف لم يكن يسعى بوضع اسمه صاحباً للامتياز سوى التأكيد على أنها جريدة الثورة.
وإذا ما عدنا إلى مشكلة تضارب الإرادات في أوّل حكومة للنظام الجمهوري نجد أن موقف صديق شنشل السلبي تجاه جريدة الجمهورية له دوافع وأسباب عدة.
وأستنتج مما صرح شنشل به لي خلال مقابلتي له في منزله ببغداد ، أن الوزير شنشل آنذاك عام 1958
يرى أن الجمورية كانت جريدة تعبر عن آراء حزب البعث بينما حزبه ، الاستقلال الأكبر عمراً وخبرة سياسية يفتقر لجريدة بالرغم من أنه وزير الإرشاد .
والاستنتاج الآخر كان حتماً حساسية شنشل من عدم ممارسة صلاحياته وزيراً للإرشاد لأن السلطات العسكرية تحتكر كل الصلاحيات ذات الصلة بالصحافة.
وكان العقيد الركن عبد السلام عارف نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية يتصرف دون موافقة وزارة الإرشاد .
وبالرغم من قيام النظام الجمهوري فلم يطرأ أي تغيير على صلاحيات وزير الداخلية في إدارة الصحافة والمطبوعات وفقاً لمرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954 المعروف بمرسوم نوري السعيد الذي يخول وزير الداخلية حصراً صلاحيات إجازة الصحف وتعطيلها وغلقها.
وكان العراق في النظام الجمهوري كله بقبضة العسكريين وأن الاحكام العرفية نافذة بينما يمارس الحاكم العسكري العام الزعيم الركن احمد صالح العبدي صلاحياته دائماً بإستذكار مواد مرسوم نوري السعيد في كل مرة يصدر فيها أوامره وقراراته وكان يسميها ( تعليمات) للصحافة والصحفيين!
ولابد من ملاحظة أن مرسوم نوري السعيد ظل نافذاً خلال سنوات حكم عبد الكريم قاسم ولم يُلغِ إلا عام 1963 حين أصدر حكم البعث آنذاك أول قانون للمطبوعات في العهد الجمهوري.
عموماً لم يكن سراً بين سياسي تلك الحقبة من تاريخ العراق أن الود كان مفقوداً بين عبد السلام محمد عارف وبين صديق شنشل لأسباب ستبقى غير معروفة بعد أن انتقلا الى رحمة الله.
*****
ومرة أخرى تسبب ظهور اسم العقيد عارف صاحباً للأمتياز في مشكلة ثانية، وهي هذه المرة مشكلة قانونية تعيق استمرار علاقته بالجريدة.
يمنع المرسوم رقم 24 لسنة 1954 الذي ما يزال حينئذ نافذاً موظفي الدولة من العمل في الصحافة وإصدار الصحف ، لذلك رفع عارف اسمَه من صفحات
الجمهورية اعتباراً من العدد الحادي عشر ليوم 3 تموز 1958 ليظهر فيه وما صدرَ بعده من أعداد باسم رشيد فليح دون أن تكون له دراية أو خبرة في الصحافة ، بل كان لا يتدخل في شؤونها الفنية والسياسية التي تديرها هيئة تحرير بعثية التي عاملته معاملة لائقة بصفته ضابطاً من ضباط انتفاضة مايس عام 1941.

ومن قراءتي لأعداد الجريدة الخمسة والتسعين الكاملة في المكتبة الوطنية ببغداد لاحظت أنَّ نخبة من أشهر القادة البعثيين قد كتبت مقالاتها السياسية والثقافية والأدبية ،ومنهم الدكتور سعدون حمادي وعلي صالح السعدي وخالد علي الصالح وفيصل حبيب الخيزران وأياد سعيد ثابت ومثنى سعيد وصفي وطارق عزيز الذي كان يحرر الملحق الأسبوعي، كذلك كتب للجريدة العقيد الركن ماجد محمد أمين رئيس هيئة الإدعاء العام في المحكمة العسكرية العليا الخاصة ، وهو الذي هاجم البعثيين لاحقاً في مرافعاته أمام المحكمة.
ونشر صحفيون محترفون بعثيون وغير بعثيين تغطياتهم للأحداث ومنهم سجاد الغازي الذي كان سكرتيراً للتحرير، ويغطي جلسات محاكمة اللواء الركن غازي الداغستاني آمر الفرقة المدرعة الثالثة واختص محسن حسين وهو ليس بعثياً ورثته الجمهورية من جريدة الشعب الملغاة بتغطية جولات عبد السلام عارف الصاخبة في المدن العراقية بينما تولى قاسم السماوي وهو ليس بعثياً في إجراء مقابلات صحفية ومنها مقابلته مع وزير المواصلات في حكومة الثورة بابا علي الشيخ محمود.

وقد ورثت جريدة الجمهورية عدداً من الصحفيين من جريدة الشعب الملغاة ومنهم حميد رشيد ومحمد حامد ومحسن حسين ومنير رزوق( وكان شيوعياً) وحافظت ادارة الجمهورية على أجورهم دون أي تخفيض.
ولما كانت جريدة الجمهورية تحتاج لخبرة مهارة صحفي محترف فقد أصبح سجاد الغازي سكرتيراً للتحرير وكان هو ومعاذ قد تعرّفا على بعضهما قبل ثورة 14 تموز.
وكما قلت في سطور سابقة، إنّه من مفارقات التاريخ هي أن سجاد الغازي كان بعثياً حزبياً عضواً في مكتب الإتصال ومسؤوله الحزبي المباشر تحسين معلة ، وحينها كلفه أمين السر فؤاد الركابي بالسفر الى البصرة لتدبير إخراج معاذ من معتقل الشعيبة.
ونجح سجاد في تكليف مسؤول التنظيم في البصرة كامل المشاهدي بالمهمة واخرجوا معاذاً .
وفي سلسلة اتصالات قبل سنوات مع سجاد الغازي وهو في بغداد أكد لي أنه وجعفر قاسم حمودي شاركا في تعريف صاحب جريدة الحرية قاسم حمودي على معاذ عبد الرحيم فاستخدمه في الجريدة.

وأوضح معاذ لي أنه كان طالباً مفصولاً من دار المعلمين في بعقوبة بقرار من وزارة المعارف ضد المعارضين السياسيين وزجت بهم في معسكر الشعيبة بالبصرة بصفة مجندين تحت التدريب مع أن قيادة المعسكر لم تكن تسمح لهم حتى بحمل السلاح للتدريب ، وقررت قيادة الحزب إخراجه لكي تكلفه بمهام الحزب الطباعية بعد اعتقال بعثيين في الأعظمية والكرادة ومعهم آلة طابعة ورونيو .
وقد واصل الدكتور حمادي وظيفته استاذاً في كلية الزراعة في أبو غريب صباحاً ويلتحق بالجريدة بعد الظهر ، لذلك كان مدير التحرير وسكرتير التحرير يقومان بإدارة شؤون الجريدة ويوزعان المهام على العاملين معهم.
ولابد من أن نستذكر أن جريدة الجمهورية البعثية استخدمت محاسباً كان معروفاً في الصحافة بأنه شيوعيّ وهو عبد الكريم الصفار الذي عمل في الخمسينيات في جريدة الجريدة التي أصدرها فائق السامرائي وأحمد فوزي عبد الجبار، ثم لواء الاستقلال وبعد قيام النظام الجمهوري أصبح عضواً في أول مجلس لنقابة الصحفيين .
وكما قلنا سابقاً أصبح عبد الستار الدوري مديراً للإدارة في الجريدة الجديدة بينما تولى فاضل عبد الغفور الشاهر عضو فرع بغداد في حينه وظيفة محاسب الجريدة خلفاً لعطا شهاب الذي عمل في الحسابات لبعض الوقت خلفاً للصفار .
*****
وبعد 8 شباط 1963 أصبح الدوري مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون وكان شاهداً وطرفاً في الخلافات الحزبية في تشرين الثاني 1963 .
وبعد 17 تموز 1968 أصبح ملحقاً صحفياً في براغ عاصمة جيكوسلوفاكيا ثم سفيراً في عدة دول في أمريكا اللاتينية واقام في لندن لسنوات طويلة حتى وفاته في 2024.
أما الشاهر فقد تولى في السبعينيات والثمانينيات مناصب صحفية ودبلوماسية عدة منها مدير الإدارة في وكالة الانباء العراقية ثم المستشار الصحفي في كل من القاهرة وباريس ثم سفيرا. للعراق في المغرب .
وبخصوص سجاد الغازي فقد كان يقدم المعونة الصحفية لجريدة الجمهورية ثم يعود الى عمله الأصلي في جريدة الحرية حتى قررت قيادة الحزب تفرغه للجمهورية وبقي فيها حتى أغلاقها نهائياً.


تعود خبرة معاذ عبد الرحيم الصحفية إلى الشهور الاخيرة من العهد الملكي وقيام جبهة الإتحاد الوطني التي ضمت أحزاب البعث والشيوعي والاستقلال والوطني الديموقراطي.
حينها وفر الحزب الشيوعي لحزب البعث فرصة تدريب أحد منتسبيه على شؤون الطباعة وتحرير النشرات السرية.
واختارت قيادة البعث معاذ عبد الرحيم وأوفدته الى أحد الأوكار الشيوعية السرية،. وقال معاذ عبد الرحيم لي أن الوكر الذي تدرب فيه على وسائل الطباعة كان يقع خلف جامع الخلاني وأنه قضى 24 يوماً يتردد عليه ليدربه أبو سلام على فنون الطباعة .
وبالإتفاق بين القادة البعثين والشيوعيين وبكلمة سر إنتظر معاذ في نقطة متفق عليها في ساحة الطيران حتى جاءه شخص ويسمعه كلمة السر واصطحبه الى الوكر الشيوعي خلف جامع الخلاني.
وبعد سنوات ، يقول معاذ، فهم أن ذلك الشخص الذي إلتقاه في ساحة الطيران كان محمد صالح العبلي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
ولم يعرف معاذ اسم الشخص الشيوعي في الوكر سوى بكنية أبو سلام لكنهما التقيا مرة أخرى عندما ساءت ظروفهما السياسية بعد 8 شباط 1963 في الموقف العام بباب المعظم وعندها عرف معاذ أن الاسم الحقيقي لأبي سلام هو محسن العاني .
وكانت السلطات البعثية قد اعتقلت معاذاً في الناصرية لمناوءته لتصرفاتها ولموقفه لمناصرة فؤاد الركابي إبّان أزمة الحزب الناجمة عن محاولة اغتيال رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم.
ونقلت السلطات في الناصرية معاذاً الى بغداد واودع في الموقف العام حتى أطلقت سراحه لاحقاً.
وكان معاذ يتردد على الوكر الشيوعي صباحاً ويغادره ليلاً بعد التدريب ، وكان مع أبي سلام زوجته التي كانت تقول للجيران أن هذا الشخص هو أخاها وكانت تساعد زوجها في إدارة شؤون البيت الحزبية.
ويبدو أن أبا سلام قد أصبح منسياً لكني تتبعت سيرته الشخصية والشيوعية وحاولت بعناية أن أعرف شيئاً عنه حتى أنني اتصلت بعدد من الأصدقاء من أبناء قضاء عنه ، وعرفت أنه من أبناء عمومة حمدي وحامد أيوب العاني ، الكادران الشيوعيان ، وجمعيهم من عائلة عانية معروفة بلقب ( الأيوب) من محلة السدة في عنه القديمة ، وما يزال هنالك حتى اليوم جيل جديد وعدد من وجهاء العائلة من أبناء الأيوب يعيشون في مدينتهم عنه وفي بغداد.
والمعروف أن حمدي أيوب العاني عضو محلية بغداد قاد المقاومة الشيوعية المسلحة في الكاظمية يوم الثامن من شباط عام 1963 لكنه لم يصمد في التحقيق ولذلك طوى الحزب الشيوعي العراقي صفحته وصفحة هادي هاشم الأعظمي عضو اللجنة المركزية وصفحات قادة آخرين لنفس السبب.
وواصل شقيقه حامد أيوب العاني حتى أصبح عضواً في اللجنة المركزية وأقام في هولندا حتى وفاته في عام 2013.
والمعروف أن مدينة عنه بمحافظة الأنبار أنجبت العديد من قادة الحزبين البعث والشيوعي على مدى عقود التاريخ المعاصر.
وعلى أية حال تواصل معاذ مع محسن العاني وفي سنوات لاحقة عندما أصبح معاذاً مديراً لتحرير جريدة الإتحاد الاشتراكي العربي منتصف الستينيات، الثورة العربية وكان وفياً عندما استخدم صديقه الشيوعي القديم في قسم الحسابات في هذه الجريدة.
وابلغني من يعرف محسن العاني عن قرب أن وفاة أبنه سمير في معركة ديزفول في الحرب العراقية الايرانية تركت جرحاً عميقاً فيه حتى أصبح مدمناً على التدخين وبشراهة وبدون إنقطاع طيلة اليوم .
وكان معروفاً عند وفاته عام 1989 بأسم الحاج محسن علي الأيوب العاني ، وتمكن في عقد الستينيات من إكمال دراسته الجامعية في كلية الإدارة والاقتصاد وتوظف في شركة أهلية وأدى فريضة الحج وله أربعة أشقاء توفوا تباعاً.

*****
وفي خضم الصراع السياسي وربما لضغينة سياسية تغافل بعض الكتاب في تاريخ الصحافة العراقية حقيقة ظلت منشورة على صفحات جريدة الجمهورية طيلة 25 يوماً.
تولى عبد الوهاب الغريري رئاسة تحرير الجمهورية للفترة من 12 تشرين الأول الى 6 تشرين الثاني عام 1958 بعد أن أضطر الدكتور حمادي للتواري عن الأنظار.
وعندما أغلقت الحكومة جريدة الجمهورية في 6 تشرين الثاني 1958 اعتقلت عدداً من العاملين فيها ومنهم علي صالح السعدي وفيصل حبيب الخيزران وعبد الستار الدوري وبعد ثلاثة أيام معاذ عبد الرحيم بينما توارى الآخرون عن الأنظار ، وكان السعدي يعاتب عبد الرحيم في المعتقل بأن من دافع عنهم قد شهدوا ضده في جلسات التحقيق التي أجرتها سلطات الحكومة.
وغادر الدكتور حمادي سراً الى سوريا ومنها انتقل الى ليبيا موظفاً في البنك المركزي الليبي وساهم في تشكيل أول خلية بعثية ليبية حتى أعتقلته السلطات الملكية الليبية وأبعدته وعاد بعد أطلاق سراحه إلى سوريا ولبنان .
وقد اعتقلته سلطات الاحتلال الامريكية بعد 2003 ثم اطلقت سراحه لسوء حالته الصحية وتنقل بعدها بين الاردن ولبنان وألمانيا وقطر حتى توفي عام 2004 ودفن في قطر.
وبقي الأربعة في المعتقل حتى صيف 1959 عندما قرر عبد الكريم قاسم إطلاق سراحهم بعد أنْ ساءت علاقته مع الحزب الشيوعي ، فتواروا بدورهم عن الانظار لمواصلة نشاطاتهم الحزبية.
وبعد حوالي عام واحد أشترك عبد الوهاب الغريري في المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم ، وراح ضحية تبادل اطلاق النار.
والغريري من قضاء المحمودية الى الجنوب قليلاً من العاصمة بغداد ودرس في المتوسطة الغربية والأعدادية المركزية ببغداد ثم قسم اللغة العربية بكلية الآداب وله نتاج شعري وأدبي وكتب عدد من الكتاب العراقيين عنه وعن شعره ونشرت مجلة آفاق عربية ملفاً خاصاً عنه وعن شعراء آخرين في عددها الثاني للسنة الحادية عشر بتاريخ 1-2-1986.