أصبح حلمي من “ذكريات الأمس”..برحيل مار بولس ثابت حبيب..



منذ مدة ليست بالبعيدة وأنا أخطط لإقامة طريقة من التواصل معه، تمهيداً لإجراء مقابلة أطرح فيها الكثير من الأسئلة وأناقش أفكاراً شغلتني عن رجل أثار عَملُهُ اهتمامي في السنوات القليلة الفائتة، وخصوصا ما تركه من بصماتٍ عميقةٍ وملموسةٍ، على بقعة من الأرض، مشمولة بخدماته الرعاوية.. إلاّ أنّ حلمي ذاك، سرعان ما أصبح، وبشكل قاسٍ، من ذكريات الأمس، مع حلول الأربعاء الثامن عشر من حزيران الحالي، الذي حمل نبأ صادماً بالرحيل المفاجئ لـ(مار بولص ثابت حبيب) مطران أبرشية القوش وتوابعها للكلدان.

كان يوماً حزيناً لي ولسكان بلدتي والمسيحيين في عموم البلاد وعراقيين كثيرين يعرفونه، بعد أن أغمض عينيه المُشعّتين حكمة وذكاءً للمرة الاخيرة، مختتماً صراعاً مع مرض لم يمهله، كي يكمل الكثير من برامج ومشاريع تبنّاها وأشرف عليها وبذل جهوداً كبيرة ومخلصة من أجل تحقيقها خدمة لأبناء رعيته ومواطني المنطقة.
أمّا افتتاحه للمهرجان الثالث الخاص بإحياء سوق “القوش العتيق” في شهر أيار الماضي، فكان من بين آخر نشاطاته الاجتماعية المتنوعة التي عُرف بها، وتولى موقع (برقية) مشكوراً تغطيتها، والأصداء التي تلت تلك التظاهرة ذات الأبعاد التراثية والاجتماعية والاقتصادية والسياحية التي تنتظرها خطوات كبيرة لاحقة على المديين القريب والبعيد.

لقد شكَّل غيابه الصادم، خسارة نتمنّى من الرب العالي أنّ يعوضها، ليس لأهالي البلدة والمسيحيين فقط، بل للعراقيين الطيبين في كل مكان، لما تميّزت به شخصيته المُحِبَّة لأهله ومواطنيه من أبناء جلدته في العراق عموما.
كان أباً حنونا (كبيراً) رغم صغر سنه (49 عاماً). يلتقي الكثيرين ويصغي إليهم ويحاورهم ويتفهم مطالبهم. الأجمل من ذلك، أنّ كل ما فيه من سلوك ونشاط دؤوب، ينمُّ عن تمسّك جميل لافت بالتراث، والحفاظ عليه، والحرص على إحيائه بما يتيسّر من سُبل يسلكها برحابة صدر ووجه باسم، ابتداء مما يعتمره (الشوشتا) القبعة التاريخية الأصيلة التي يحرص على أنْ تكمل هندامه، خلال زياراته وجولاته الكثيرة، ومن بينها المشاركة في أعياد الأطياف الأخرى في منطقته، مثل الأيزيديين المقيمين في القرى المجاورة، وليس انتهاء باستقباله للشخصيات والوفود، وزياراته المتواصلة لمواقع عمل، او افتتاحه لـ(مشاريع) او معارض او مهرجانات وفعاليات ثقافية واجتماعية، بالاضافة الى الاحتفالات الكبيرة مثل أحَدِ السعانين أو “الشعانين” وإضاءة شجرة الميلاد وطقوس أخرى يمدها بروح من الماضي، رمزاً لعراقة شعب يمارس حياة يحبها ويريدها إشعاعا وأنموذجاً في أماكن أخرى من وطننا الحبيب، نشراً لقيم التعاون والتضافر والتفاهم والتسامح بين أبناء شعب اعتاد أبناؤه التعايش لقرون خلت.

رحل مار بولص الذي أتذكر كيف كنت أراقبه من بعيد، وهو يُحدِث تغييراً يُخرج نشاط الكنيسة الى فضاءات رحبة، من خلال ممارسات احتفالية تُكملُ (الشيرا). والمقصود بالكلمة، إحياء تذكارات قديسين أو أحداث ترتبط أسماؤهم بها في مناطق تحيط بالبلدة العريقة. ومنها الـ(شيرا) الخاص بـ(مريم العذراء ناطرة الزروع) التي يحمل اسمَها ديرٌ هو الأكبر في منطقة الشرق الاوسط، والذي شُيِّد سنة 1858 م . وشيرا الخاص بـ(رَبَنْ وَرْمِز)، أي (الرُّبان هرمزد) أي “الراهب” الذي يقوم الدير الشامخ على سفح جبل القوش، حاملاً اسمه، وشاهداً على قرون من الإيمان والعمل من أجل الانسان والدفاع عن وجوده.

تراه من بعيد وكأنّه صخرة كبيرة منحوتة في صفحة تلك الطبيعة الصمّاء تروي للأجيال قصصاً وحكايا عن رهبان سكنوا مئات الصوامع المحفورة بأيدي رجال أحبوا تلك الأرض صعبة المراس، لكنهم جعلوها طيبةً بإيمانهم وصبرهم، وطوعوها بمتانة اذرعهم وخشونة أكفهم، لزرع ما يقتاتون منه، دون أن يهملوا تأمين ريها وخصوصا في مواسم الصيف.
وكان هذا دأبهم لقرون عديدة من انتمائهم الطوعي لمكان شُيِّد في العام 640 بعد الميلاد. وخضع لترميمات وإضافات تليق بمكانة الدير وقدسية الراهب الذي نذر نفسه لرسالة تصب في خدمة حرية البشر وانعتاقهم.

وعلى خطى قديسين كثيرين، (تابعتُ) المطران الراحل، يمضي قدماً في أداء رسالته، ضمن جهود تتعامل مع روح العصر، لكنها في الجوهر، ترسيخ لقيم كبيرة متوارثة لا يمكن التخلي عنها، (شاهدته) في إحدى مبادراته، وهو يقود جمعاً من المصلين الى دير (بسقين) الأثري، متكئاً على عكازته التي لا تفارقه، وهو يتسلّق النتوءات الصخرية في أعالي الجبل، وصولاً الى موقع ناءٍ كان منسياً، محققاً بذلك خطوة قد تُمَكِّنْ مَن يخلفه مِن إحياء صَرْح جديرٍ بالرعاية رغم تآكله وتحوّله الى مجرد أطلال بعيدة غائرة في خبايا تلك الجبال العنيدة التي تحتضن مكانا يعد من أقدم القرى التي اعتنقت المسيحية شمالي العراق.
ألقوش وشفيعها (مار ميخا النوهدري) المولود في العقد الأول من القرن الرابع الميلادي الذي تحتفي البلدة بذكراه السنوية، ترسيخاً لقدسيته ومنزلته. ومع روح المعاصرة دائما، ابتهجتُ كثيراً وأنا أراه يولي اهمية لإقامة نشاطات لم نكن نتوقع حصولها في قرية كبيرة تشبه القوش في ذلك الزمان، مثل تنظيم حفل سيمفوني جميل، أحيته اوركسترا تمت دعوتها من خارج البلدة للعزف داخل قاعة انيقة، بحضور لافت من جمهور معظمه من الشباب الذين عاشوا سعادة حقيقية مع معاني حدث كهذا يتم بالتنسيق مع الكنيسة، وتمنوا إعادة الكرَّةُ في اوقات لا يطول انتظارها.

حصل ذلك خلال سنوات رعويته الثلاث (2022 _ 2025). لقد كان أمراً كهذا يعد ضرباً من الخيال بالنسبة لنا، نحن أبناء البلدة الذين أقمنا هناك في خمسينات القرن المنصرم وستيناتهِ ، ولم يكن حال الذين سكنوا من بعدنا بأفضل منا رغم توفر الكهرباء وبعض معالم التكنولوجيا التي نغّصْتها الحروب والحصارات.
في تلك العقود، لم يكن هَمُّنا إلا مراجعة الدروس، ومتعتنا وهواياتنا لا تتخطى قراءة ما متوفر من كتب متداولة والاستماع الى الإذاعات، والتنزّه في البيادر والطرق الريفية الموحية بالكثير، أو الوقوف في السوق العتيق وتناول الشاي الساخن في مقاهيه المعدودة. والآن، وفي هذا اليوم الذي ما زلت غير مصدق وقوع الحدث الجلل خلاله، أحسُّ أنني مهما جمعت أو كتبتُ او استذكرتُ من سجايا رجل لم أكن أعرفه شخصياً، وكنت أتوق الى الاقتراب منه عبر الأثير، فإنني لن أتمكن من الإلمام بمآثره الكبيرة، وبآمال وبرامج كانت تشغل باله، يخطط لها بلا ضجيج، رغم معرفتي بأنّ امراً ما مهما بلغ من عظمة أو أهمية، لا يمكن أن يبقى سراً في بلدة صغيرة مثل القوش.

إنّ هذه المواقف تعيدني أيضاً الى ما قرأته عن الجهود المشهودة التي بذلها الأسقف الراحل في تفادي وقوع الخسائر البشرية الكبيرة بين أبناء البلدات والقرى المسيحية التي اجتاحها (داعش) عام 2014 في منطقة سهل نينوى، ومن ثم تسهيل عمليات انتقالهم الى أماكن آمنة، والعمل على تقديم الخدمات اليهم في سنوات نزوحهم القسري، فضلاً عما شكلته مواقفه من دعم روحي ومعنوي . وكان مار بولس من بين أوائل العائدين الى البلدة التي ينتمي إليها (كرمليس) بعد تحريرها، مقدماً أروع الأمثلة في قضية لطالما اعتز بها وعمل على نشرها وترسيخها، ألا وهي فكرة التشبث بأرض الآباء والاجداد، رغم كل ما أصابها من خراب وتدمير، والحرص على إصلاح كل شيء ومواصلة المسيرة بثبات خدمة لمبادئ آمن بها ومئات الالوف من مواطني المنطقة. وعلى هذا الأساس هرع الجميع لتسخير كل الامكانات المتاحة لإعادة إعمار البيوت والكنائس والمنشآت الحيوية الأخرى، كي تبقى الجذور راسخة قوية، تستمد منها الأجيال العبر والدروس. وهذا ما حصل على أرض الواقع بشكل واضح وكبير في معظم الأماكن والأحيان.

وقبل ساعات من كتابتي لخواطرَ أرثي بها شخصية عراقية لن تُنسى، كنت اكلم ابن عمي منذر حبيب كَله، وهو كاتب مقيم في القوش، ومهتم بالشان الثقافي والتراثي والذي حدثني عن مساع كان المطران الراحل يحث من خلالها أبناء القوش من المغتربين على الاستثمار في مشاريع مهما كانت صغيرة، إلا أنها ستقود في النهاية الى التخفيف من حدة هجرة الشباب المتزايدة في السنوات الأخيرة شأنها شأن معظم البلدات والقرى المسيحية والعراقية عموما.
كلّمني عن حلم كبير آخر راود المطران الراحل، وكان يسعى حثيثاً الى تذليل الصعاب ، كي يجعله حقيقه في أقرب وقت ممكن.. فأجرى اتصالات جادة لدعم التنفيذ، بالتعاون مع مغتربين خلال زيارة له الى أميركا، ومع منظمات إنسانية أممية وجهات معنية بتقديم المساعدات الى العائلات المتعففة من كل أطياف الشعب وفي مقدمتها (الكاريتاس).

ذلك الحلم هو، بناء كاتدرائية حديثة على (أنقاض) مجمع قديم صغير يطلق عليه اسم (مار قره داغ) القديس الشهيد الذي مرَّ من هنا، فتم تشييد نصب بسيط بقبة واحدة، يخلّد توقفه في القوش قبل قرون عدة.
وبالقرب منه، تمَّ وفي خلال عقود أولى من القرن الماضي، إقامة بيت كبير بغرف عديدة تحيط بحوش واسع، أُتُخِذَ في اواخر الخمسينات مكاناً لأول متوسطة بنين جرى افتتاحها بتضافر من الأهالي وبدعم حكومي، داومتُ فيها في الصف الأول من العام الدراسي 1958 _ 1959. ولا زلت احتفظ بذكرى من تلك الأيام تبقى تصاحبني ما حييت، لأنها نبتت في جسدي على شكل نتوء عظمي في نقطة قريبة من مكان اتصال الساعد باليد اليسرى، لعلها بين الرسغ والكعبرة. ولم يعد العظم الى مكانه الطبيعي، وما زال الكسر يؤلمني في موسم البرد وما أطوله في كندا، وكلما حملت شيئاً ثقيلاً يزن بضع كيلوغرامات، رغم مرور كل هذه السنين على سقوطي بعد نهاية الدوام، ذات نهار غزير الثلج.

عندما استذكر تلك الأيام، أفكر بعدد الأحلام التي رحَّلناها الى أزمنة لاحقة لم يتسنَّ لنا تحقيقها بعد ما مرت به البلاد من خضّات، وهي أحداث لم يعشها كلها الفقيد لأنه ولد في العام 1976 لكن ذلك لا يمنعني من ثقة كبيرة، بأنه كان يملك إرادة قوية في التغيير نحو الأجمل والأحسن، مع قلائل يحملون صفاته، رغم زماننا المحفوف بالتساؤلات والانتظارات.
الذكر الطيب المؤبّد لمثلث الرحمات مار بولص ثابت حبيب، جعل الرب مثواه في ملكوته السماوي الرحب بين القديسين والأبرار ، والعزاء لكل من عرفه وأحبه وتألم لفراقه.


