العراق

أرشد توفيق.. لقاء الذهاب والأياب..

أنظر الى لقائنا ذاك وكأنه حصل مرة واحدة. لقاء (مزدوج) تم في (الذهاب والاياب). استرجعه وكأنه بالامس، رغم ان النسيان طوى صورا ضَبَّبَها زحف السنين، وما ادراك ما السنين حين تبتلعها الغربة..

  يوقظ النبأ الحزين ذاكرة باتت تدخر القليل عن نجم أفُلَ من سماء وطنٍ، بات ارشيفا مرتبكا لحكايات تستدعيني كلما تحوَّل احدهم الى (غيمة بيضاء في الفضاء الازرق)،

  تعرفتُ عليه في زمن مسكون ببقايا احلام عراقية انتظرنا تحقيقها يوما، من خلال ترددي الى المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون مطلع السبعينات. ثم كُتِبَ له ان ينطفئ في الغربة مثل طيور مهاجرة كثيرة.. ترحل وعيونها على الوطن، وأرواحها تحوم في تضاريس عَطَشِهِ

  الزمن ايلول 1979، وعلى الوفد الاعلامي العراقي الذاهب الى هافانا حيث القمة السادسة لدول عدم الانحياز، الانتظار ساعات طويلة في العاصمة الاسبانية مدريد التي وصلها مبكرا من بغداد، حتى يحين موعد اقلاع الطائرة التي ستاخذه الى كوبا ليلا.

  يأتينا رجل وسيم، انيق الروح والمظهر، معظمنا يعرفه، يعانقنا بحرارة ويقول: لن تنتظروا هنا النهار بطوله. الغداء في بيتي، وما يتبقى من الوقت تمضونه في تجوال سريع.. مدريد امامكم.

  ارشد توفيق، الملحق الصحفي قي السفارة العراقية، الذي ما ان يحين الموعد، بعد وجبة ساخنة شهية جيء بها من مطعم مغربي، حتى يَقِّل بعضنا بسيارته، امير الحلو، حربي محمد، حسن طوالبه وانا.

  وقبل ان يدير المحرك، يكبس على زر المُسَجِّل أمامه، ثم يلتفت الى حربي الذي يتقن الاسبانية واليَّ: (استمعا الى هذه الاغنية.. انت رياض صاحب “نادي الموسيقى”)، الزاوية التي كنت اعدها في مجلة (الاذاعة والتلفزيون) لعقدين من الزمان، وانشر ضمنها نصوص اغنيات اجنبية شائعة في ستينات وسبعينات القرن المنصرم.

   ثم يضيف: هذه هدية لك.

صوت حانٍ كأنه جدول يتهادى بين سفوح خضر ضاحكة. لم تكن الاغنية من الوان الفلامينغو الراقص، بل رومانسية عذبة يأسرك صوت صاحبتها من الوهلة الاولى. اشكره ثم اقول له: وانا ايضا تستهويني الاغنيات الهادئة الايطالية والاسبانية والفرنسية وان لم افهم كلماتها.

  في طريق العودة من هافانا الى بغداد، كان علينا التوقف في مدريد ايضا، ولكن لأيام وليس ساعات، وهنا المفاجأة! اضطرب جدول الحجوزات مع تأخرٍ لم يكن في الحسبان بسبب اعصار ضرب منطقة الكاريبي وتأثرت به كوبا، فبقينا حبيسي فندق (ناسيونال) العتيق المطل على ساحل تتقاذفه امواج صاخبة شلَّت العاصمة هافانا.

  نلتقي كل ليلة مع فواصل يديرها عباس الجنابي وغسان المانع وغازي فيصل ومقداد مراد ومعظم الوفد، ما عدا امير الحلو وناظم سيالة حيث كان الأخير يشغل منصب مدير الصحافة زمنذاك، فقد جعلا طريق عودتهما عبر مونتريال.

  وعلى مبعدة امتار منا، يتسامر اصدقاؤنا اليوغسلاف، يبادلوننا (القفشات) عن سياسة عدم الانحياز في عاصمة حمراء اسمها هافانا.

  هافانا التي لا اتذكر الان تفاصيل مغادرتنا لها بعد انفضاض حصار أمِّنّا الطبيعة، لكنني اعتقد ان طائرة عسكرية حملتنا الى احد المطارات، قبل ان نصل مدريد ونجد ارشد توفيق في انتظارنا من جديد، يلازمنا معظم الوقت ويسهر على راحتنا في فندق (برينثثا بلازا) الأنيق، وفي شارع ساحر يحمل الاسم عينه.

  ياخذنا الى مكان اسمه (لوس بروخاس) الساحرات بالعربية، حيث عروض (الفلامينغو) الراقية تحظى باقبال كبير من جمهور يستقبلها بالتصفيق والهتاف وكأنه يشاهدها للمرة الأولى، مثلنا نحن، (ضيوف) ارشد توفيق، الذي انقطع التواصل معه ومع كثيرين بعد عام فقط على ذلك التاريخ. اذ  جاء ايلول 1980 الذي شغلنا بهموم جديدة، لم تمنعني من الاتصال به عندما عرفت انه في العراق .

  كان ذلك بعد السنة الثانية او الثالثة من الحرب، وتمنيت عليه ان يلبي دعوة عشاء، لكنه اعتذر لضيق الوقت. وقت ما عاد يتحكم به بعد اليوم بعد ان غادرنا قبل الاوان.

  لروحه الرحمة والذكر الطيب، ولاهله ومحبيه خالص العزاء.

مقالات ذات صلة