فكر

أدونيس: لن نبني مجتمعاً حقيقياً إلا إذا صار “الدين” كالحب، تجربة شخصية لا تُلزمُ إلا صاحبَها!  

     ثمّة تسجيل لندوة علمية تحدّث فيها، الشاعر الكبير أدونيس، مؤلّف “الثابت والمتحوّل”، وذو الأفكار النقدية الثقافية، والتاريخية، والمجتمعية، والسياسية، التي تؤسس لـ”الإتجاه العقلي، والعَلماني، والعلمي، والإنساني” في مسار الحركة الفكرية للمجتمع العربي. وبرغم مرور وقتٍ ليس قصيراً على حديثه في تلك الندوة إلا أنّنا عَمَدنا هنا إلى تحويل كلامه المسجّل -لمناسبة مرور 100 عام على سقوط الخلافة العثمانية وتحوّل البلدان العربية الى حاضنة الاستعمارين الانكليزي والفرنسي ومن ثم الأميركي- إلى محاضرة مكتوبة، لما لها من مساس في الظرف الراهن لبلداننا العربية. وهي محاضرة تعرض لأمور مفصيلة، تستحق البحث والمناقشة والتعليق من جميع المهتمين بالشأن العربي.  

    وإليكم نصّ حديث الدكتور أودنيس:    

    ابن رشد أعاد كتابة “الإسلام”، وخلقَ إسلاماً آخر. اختصره بتأكيده ليس في النصّ القرآني آية إذا فُسّرت تفسيراً عقلياً إلا وتتطابق الآية مع التفسير العقلي. وإذن خلق ابن رشد إسلاماً خاصاً داخل الإسلام.

   أنا لستُ ضدّ الدين بحدِّ ذاته، لكنني أتكلم عن الإسلام المؤسّسي الفقهي، فهو شيء، وإسلام النصّ القرآني شيءٌ آخر. نحن الآن في إسلام الخلافة، ولسنا في إسلام النبوّة، إنما الخلافة تبنّت النبوّة لكي تستطيع أنْ تُكمل طريقتها. وتعرفون أنّ الدولة الأموية رفضت “إسلام النبوّة” علناً. وكان الوليد بن يزيد، يمسك القرآن ويمزّقهُ، مخاطباً إياه:

 تهدّدني بجبّارٍ عنيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدٍ   

فها أنا ذاك جبارٌ عنيــــــــــــــــــــــــــــــــــدُ

 إذا ما جئتَ ربّك يومَ حشرٍ

 فقلْ يا ربِّ مزّقني الوليـــــــــــــــدُ

   وإذن خلقَ إسلامه الآخر، كما فعل التصوّف، المتصوّفون أعظم ثورة في تاريخ الإسلام في تقديري، لأنّهم غيّروا مفهوم اللهِ، اللهُ بنظرهم لم يعدْ قوّة من خارج العالم، تديره!. وإنّما أصبح قوّة مبثوثة في العالم، هذا أولاً، وثانياً: غيَّرَ الصوفيون الهُويّة، فليست الهويّة إرثاً نرثُه كما نرثُ بيتنا، وإنّما الهوية إبداعٌ، أي أنّ الإنسان يبتكرُ هويته، فيما يبتكرُ نفسه. غيّروا مفهوم تقسيم العالم إلى كافرٍ ومؤمنٍ، وقالوا “الذات هو الآخر”، وأضافوا قولهم -وهذا ما أخذه السرياليون فيما بعد- الذات لا توجدُ إلا عبر الآخر ، أو إلا مع الآخر.

    خرجنا من  الخلافة العثمانية سنة 1923، هل خرجنا نحن بإرادتنا كعرب، بثورة خاصة قمنا بها ضد الأتراك؟..لا!. وإذن لم نخرج نحنُ، بل أُخْرِجنا، أخرجنا البريطانيون والفرنسيون لا حبّاً بنا، وإنّما لكي يحلّوا محل الأتراك ويأخذوا ثرواتنا وفضاءنا الاستراتيجي، ويهيمنوا علينا. وقالوا لنا هذه سوريا وقبلنا، وقالوا هذا لبنان وقبلنا، وقالوا هذا العراق وقبلنا، وقالوا هذا الأردن، أي أنهم وزّعوا علينا التركة العثمانية.

    وهكذا دخلنا في عثمانية جديدة. نحن الآن ولايات عثمانية جديدة من المحيط إلى الخليج، وليس هناك نظام واحد، حرٌّ وذو إرادة مستقلة، لكي تكون عنده ثقافة مستقلة وحرّيات، وجامعات مستقلة. نحن ولايات عثمانية جديدة للبريطانيين والفرنسيين، والآن الأميركيين، ولا نزال حتى الآن.

   وأكرّر، أنا لست ضد الدين في حدّ ذاته، ولا يمكن أن يكون الانسان ضد الدين، فالدين حاجة كيانية للإنسان في الأقل لكي يحلّ مشكلاته مع الغيب، ومع الموت، وهذا من حقه، وأنا أوّل من يدافع عن هذا الحق. لكنّ الدين حينذاك يجب أنْ يكون كمثل الحبّ، تجربة شخصية لا تلزِمُ إلا صاحبها. حتى الله يقول لنبيّه: (إنكّ لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء). المسلمون اليوم لا يتركون الله ليهدينا. يريدُ كلٌّ منهم أنْ يهديَكَ ويهديَني!.

     وإذن يجب إعادة قراءة السرديّة التاريخية الموجودة بين أيدينا في الكتب، فإسلام النبّوة ألغى ولو قليلاً “القبلية”، ووحّد العرب في الإسلام، لكنْ منذ أنْ مات النبيّ وهو على فراش الموت، لم يحضر أصحابُه جنازَتهُ، أصحابُهُ، مُقرَّبوهُ، يعني الخليفة أبو بكر، عمر، عثمان، والأصدقاء جميعهم لم يحضروا دفنَهُ!. تركوه يموت، كواحدٍ من بني هاشم، وهي أوّل ضربة لمشروع “إزاحة القبلية”، أي أنها عودة الى القبلية. ثمّ في السقيفة قال الخليفة عمر -وأنا شخصياً معه في هذا القول، لأنني أذكرُ حقائق تاريخية- قال: “لا ترضى العرب بأنْ تكون النُبوّة والخلافة في بني هاشم”. أي كانت النبوة في بني هاشم، وبعد ذلك يجب أنْ تذهب الى غيرهم. إلى “بني سفيان” جيّد، ثم قُتِلَ سعد بن عبادة الأنصاري، لأنّه قال في السقيفة: “منّا أميرٌ ومنكم أمير”، في محاولة لأنْ يكون الحُكم تداولياً وبشكل ديمقراطي، لكنّه رُفضَ، وقُتلَ ، وحُصرتْ الخلافة في قريش.

    وداخلَ قريش، أعطيت الخلافة لبني سفيان لا لبني هاشم، وبقي المسلمون حوالي عشرين سنة، يتآكلون، ويقتلُ بعضهم بعضاً. إلى أنْ انتصرَ معاوية وحسناً انتصر. وانتصرَ بموقف لا ديني، وأنا معه، يعني الدولة الأموية كانت دولة غير دينية وأنا أؤيدها. هذا هو التاريخ، فإذا لم نعدْ إلى قراءة التراث ونتخلص من ركامه، يستحيل أنْ نخرج من هذا الركام الموجود عندنا. المجتمع العربي مجموعات من القبائل، ليس عندنا مجتمعٌ، لذلك أنا أقول لعلماء النفس: يا سادة أنتم تحفرون في الفضاء، والمشكلة في هذا التقسيم بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، ليس هناك شيء ما وراء الطبيعة. هناك فقط طبيعة. لكنني لا أمنع أحداً أنْ يقول إنّه يؤمن بما وراء الطبيعة. لكنْ على أنْ لا يَفرض هذا الإيمان عليَّ.

    والحياة الإنسانية، يجب أن تكون حياة مدنية قائمة على الحقوق والواجبات والحريات الشخصية، عداً ذلك كلُّ إنسان حرٌّ في علاقته مع الغيب، وعلاقته مع الآخر. ويتدَيّن بما يشاء. وما دُمنا لم نصل بعدُ إلى هذه المرحلة، لم يتكوّن عندنا مجتمع، ولا يمكن أنْ يتكوّن. أنا أعتقد أننا نحن العرب أعدى أعداء أنفسنا. وأعداءُ الإسلام هم المسلمون في المقام الأول، والأجنبي يعرف هذا معرفة صحيحة، وهو يستخدمنا من أجل ذلك.

    من يقوم بثورة على أنظمة، هُدّمت ليبيا، وهدمت اليمن، ودُمّرت العراق، ودمّرت سوريا، ودُمّر لبنان، البلاد العربية مُدَمّرة من المحيط الى الخليج، ونحن نواصل الكلام كأنّ شيئاً لم يحدث!.

   هذا لا يمكن أنْ يُقبل، لا يمكنْ أنْ يحدث، ولا يفسّر ذلك إلا القول: نحن مصادرنا غير مدنية، ولا نحترم الإنسان، أي لا قيمة للإنسان على الإطلاق، وليس له أية حقوق. والإنسان الفرد عندنا يحتمي بالقبيلة، أو بزعيم القبيلة، أو بالعشيرة أو بزعيمها. هذه أشياء لا نذكرها أبداً، فكيف -مثلاً- لمحلل نفسي- أنْ يفسّر حالة نموّ طفل في بيت مسلم شيعي، أو في بيت مسلم سُنّي، أو في بيت مسيحي ماروني، هل ينمو هذا الطفل نموّاً واحداً. هل الطفل في بيئة مسيحية ينمو كطفل في بيت شيعي.

    ثم ما معنى علم النفس، إذا كان فقط يُعنى بحالة فردية وليس بحالة اجتماعية؟.. ما معنى أنْ أسمعَ قولَ “أبي حيّان التوحيد”: (الصديق آخَرُ هو أنتَ).. كلُّ هذا قاومه -مع ذلك- الشعراء العرب. إنّ النصّ القرآني يقول إن الشعر غواية وضَلال، والشعراء يتّبعهم الغاوون، وبذلك ألغي الشعر من مجال الحقيقة، وإذا كان هناك شيءٌ يعبّر عن الحقيقة، فعلاً وعمقياً، فهو الفن، بل الشعر في المقام الأول. أقول لن نجدَ في تاريخ الشعر العربي شاعراً واحداً يمكن أن نقول عنه أنّه كبير ومؤمن، كما نقول مثلاً عن “بول كلوديل”الفرنسي الكاثوليكي. الشعر العربي شعرٌ عظيم، ومع ذلك لا يُدرّس كما ينبغي في جامعاتنا. وأنا طبعاً أعرفُ الأسباب. أبو العلاء المعرّي لا يُدرّس، وأنا أعدّه أكثر أهمية من دانتي وعلى جميع المستويات، فدانتي كان كنسياً، وعنصرياً، أما أبو العلاء المعرّي فهو إنساني غير متديّن، وشاعر عظيم لكنّنا لا نقرؤه!.    

مقالات ذات صلة