أحلامٌ بيض في أيامٍ سود
بقلم: منذر آل جعفر*
كنا صغار الأعمار كبار النفوس:
واذا كانتِ النفوس كباراً
تعبتْ في مرادها الأجسامُ..
كانت الدنيا حُلُماً جميلاً في عيوننا، وكانت أحلامنا كباراً لا أكبر منها في الدنيا ولا أجلّ، شباباً غاضبين في مواضع الغضب، وهادئين في مواضع الهدوء، وحُلَماءَ بِحِلمِ الشيوخ الذين يُعّلمون الناس الحكمة ويعملون بها, شباباً مكتهلين في شبابنا، نملأ الدنيا زهواً ومرحاً وفرحاً وكبرياءً وانفةً وعزةً وحميةً، لا يكفينا في الدنيا أنْ نملكها بقطبيها وأقاليمها جميعاً فإنْ ضاقت بنا ألحقناها بأرض السواد ولا نرضى أنْ نقبض على الأفلاك ونجني من السماء نجوماً، نصوغ منها قلائدَ نعلّقها على جيد حبيباتنا أو جيد الوطن الذي لا نعرف له حداً، فحدوده بسعة حدقات العيون وراحات الأيدي المبسوطة السخية، ولا يمكن لأحد ان يقطع حدوده ومساحته مهما ملك من وسائط نقل لأنه وطن كبير اولاً وكبير ثانياً وكبير ثالثاً وكبير أخيراً, والخريطة لا تجدي نفعاً مع الذين يتصورون الاوطان ليست مساحة من الارض ولا كميات من التراب ولا مخافر حدودية.
وكنا نُشْئِمُ اذا تبغددت الشام، ونُتُهِمُ اذا أشأمت تهامة، ونُنْجِدُ اذا انجدت مصر، يمانيين اذا ايمنت اليمن، واطلسيين اذا فاض المحيط الاطلسي، ومتوسطين اذا تلاطمت امواج البحر الابيض المتوسط، وعرباً اذا تدفق الخليج العربي, ولا حدود ولا قيود، ولا نقتنع بالكتابة ان نسوّد الصفحات بيضاً، او أنْ نُنَمِّق حروفاً ونستخدم اساليب البديع والبيان والتورية والجناس والطباق والكناية والمعاني والاستعارة ونكتب الكلام الحلو الجميل المفيد.
نريد فلسفة اذا حضر الفلاسفة، وادباً في مجالس الأدباء، وعلماً في اروقة العلماء، وفناً في بيوت الفنانين، وحقاً وعدلاً في دور العدالة، وجمالاً للباحثين عن الجمال، وانشاءً بديعاً بين طلاب الكلام الممتع الجميل المفيد.
و (ملأنا البَّر حتى ضاق عنا
وماءُ البحر نملؤهُ سفينا )
وملأنا الوديان بعرق جباهنا، وملأنا الدنيا بأحلامنا، وملأنا الصفحات بكلماتنا، وملأنا صدورنا بحب الناس، وبنينا قباباً واعمدة واواوين ودواوين واساطين وجنائن معلقة واسواراً بابلية وابراجاً واسَدَ بابل ومسلةَ حمورابي بأيدينا التي لا أشدَّ منها ولا اقوى منها الا يد الله التي هي معنا فوق ايدي المعتدين، وعقدنا بالدم عقد قراننا مع الوطن وبيَّضنا وجوه المحبين وسوّدنا وجوه الاعداء والمبغضين، وكنا كباراً في كل شيء ولم نقف يوماً في صف الخفافيش التي تبحث عن عش تأوي إليه ولا ترى من الدنيا سواه ولا تحسب مساحة ارض الله الواسعة الا هذا العش ولا تنظر ابعد منه فهو وطنها الذي تحسبه الخفافيش اوسع من القصور واعلى من ناطحات السحاب واجمل من برج ايفل، بل نحن صقور ونسور وبزاة لا تَحسِب السماء بطولها وعرضها الا وطناً لها
وكنا مع امرئِ القيس اذ خاطب الذئب قائلاً:
كلانا إذا مانالَ شيئاً أفاتهُ
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزلِ
وكنا معه ايضاً اذ قال:
ولو أنها نفس تموت جميعةً
ولكنّها نفسٌ تساقط انفسا
وكنا مع الشاعر العربي مضاض بن عمرو بن الحارث اذ قال:
كأنْ لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيسٌ ولم يَسمُر بمكة سامرُ
بلى نحن كنا اهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدودُ العواثرُ
فابدلنا ربي بها دارَ غربةٍ
بها الذئب يعوي والعدو المغامرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذر آل جعفر.. مواهبُ لا موهبة واحدة!
بقلم: صباح اللامي
كنتُ منذ عقود خلتْ أجدُ في أعمدةِ “شاهد إثبات” التي عُرفَ بها الكاتبُ الكبير، والصحفي اللامع، صديقي الحميم والحبيب الأستاذ منذر آل جعفر، مضماراً لسباق جنون الكلمات، ومعملاً لسكِّ ذهب العبارات، وينبوعاً لانسياب أخيلة المعاني، لا يختصُّ بها إلّاهُ، يُعطيها من حسّهِ، وبلاغتهِ، وعلمهِ، وأيضاً من صهيل شرايين دمه التي تضبَحُ، وهي تشرُدُ وحدها في مفازة حرفةِ الكتابة التي لا يجيدُ فنّ “عمارتها” غيُر ذوي المواهب، الذين لن تقوى –أنتَ القارئ الفصيح الحصيف- على ذكرِ أعدادٍ منهم الآن، وقبل الآن، وربّما بعد الآن، إلا بما يقلُّ عن أصابع كفّيْك!.
وفي رأيي (اللامتواضع…هنا) أرى أنّ “الأريب، أبا النعمان” أعني الأستاذ الكاتب المبدع منذر آل جعفر، الذي خسرهُ الأدبُ، وعلوم الدين وفقهُهُ، والتاريخُ إسلاميّه وحديثه، واللغة وفروع علومها، والشعر وجماله، والمحاماة وأروقتها، لم تُعطِهِ الصحافة ما استحق من منازلها، ومراتبها، ومقاماتها، ومناصبها، ومواردها، فعاش بالكفاف، وظل لصيق سُجادةِ أخلاقياتِه، وحبيسَ أيقونةِ حُبّه للعراق، وللناس “كلّ الناس”، ولبغدادَ، حتى وهو “يسمع بغدادَ ولا يراها”، منذ نحو ثلاثةِ عقودٍ عجاف، مرارٍ، كانت قسوتُها أفدح ما تكون على “كدْحِ” منذر وعلى من يشاكلهُ من بروليتارية الصحافة العراقية، ومساكينها، ومجانينها، وسدنةِ بلاطِها اللاملكي!.
بماذا أذكرُ منذرَ الذي أتواصلُ معه –يومياً- برغم ليله في بغداد ونهاري في مدينة “كالغري” بكندا؟..أأذكرُه هنا بمجموعة الأمراض التي تفتك بعينيه، اللتين لا يكادُ يرى بهما، بقلبه الذي استُغلقت بعض شرايينه، أم بكليتيه اللتين انحدرتا أخيراً من “الفشل” إلى “غسيلهما” لا محالة!.. وبعدُ فإنّه يعاني من عجزه عن معالجة مشاكل سمعه، وتورّم وجهه وساقيه، وفسادِ مِفصلي ردفيه، اللذين فات علي استبدالهما أكثر من ربع قرنٍ، واستحقّا طبياً عملية التبديل والتأهيل.
أنا أبكي منذراً، وأبكي مواهبَه، وأبكي رِفعتهُ، وأبكي الدنيا الدنيّة التي لا يُسعدُ فيها من هو في منزلته، ودرجةِ فنّه الأدبي، الكتابي الذي لا أضعُ أحداً قِبالته، لغةً، ومُكنةً، وأستذةً، وقدرة على صناعة جملةٍ عربيةٍ، ترقى بها اللغة، وتتشرّف بها الصحافة، وتزداد مباهجها!. وليعذرني أخي وحبيبي أبو النعمان، إنْ لم أفهِ بعض حقّهِ، فالكبار من أمثالهِ، لهم مرتبة أعلى من تقويمي حتماً!.